فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      الحرية العرجاء

      في إحدى قاعات الدراسات.. الـعـلـيا بجـامـعة بريطانية عريقة، ثار نقاش بين جمع من الطلاب الإنجليز حول التركيبة الاجـتـمـاعية الحالية للمجتمع في هذه البلاد، وعلاقتها بالنظم السياسية والاقتصادية. وقد اشترك في بداية النقاش بعض الطلبة العرب، ثم آثروا ترك المجال لأبناء البلد ليدلي كل منهم بدلوه في ذلك الأمر.

      وقد آثرت أن أثبت - بإيجاز - ذلك الحوار لما فيه من صدق وتلقائية.. وكما قيل "من فمه ندينه".

      أبدى أستاذ القسم ملاحظة حول تكوين النقابات العمالية ونشأتها، وما يتعلق بنظام الأجور القومي الذي اتفق عليه بين أرباب العمل، وبين النقابات، وارتباطه بنوعية العمل، وبيّن أن ذلك يرتبط بعدة أمور - عدا كمية العمل ونوعيته - كعمر العامل وجنسه! أي رجل أم امرأة ..

      وعند تلك النقطة تدخّل أحد الطلبة قائلاً: إن ذلك الأمر لمن غرائب هذا المجتمع، إذ لا يوجد أي سبب يبرر ذلك التمييز في الأجر؟! فالمرأة التي تعمل في وظيفة ما، تتقاضى أقل من الرجل الذي يشغل الوظيفة نفسها، ويؤدي الجهد نفسه، ويقضي ساعات العمل نفسها [حوالى 75% من أجر الرجل ].

      وأبدى أن ذلك يتناقض مع ما يدعيه المجتمع الإنجليزي من حرية ومساواة، خاصة في مجال المرأة وحقوقها..

      وكان ردّ أحد الطلبة البريطانيين - والذي تجاوز الخمسين من العمر - قائلاً:

      إن ذلك يرجع إلى أصل ما كان عليه المجتمع الغربي قبل عدة عقود من تقاليد ومبادئ تتخذ العائلة كوحدة اجتماعية للبناء الاجتماعي، فالرجل كان هو المسؤول عن العائلة، بما فيها المرأة والولد، وهو الذي عليه أن يوفر ما يحتاجه البيت، والأسرة، والمرأة محلها داخل البيت كزوجة، وأم للأولاد، فيحتفظ المجتمع بتوازنه لاحتفاظ الخلية العائلية بتوازنها، أما من بعد الثورة الصناعية، والتطورات الأخيرة في العقلية الأوربية من اختلال للمعايير والموازين، وبزوغ فكرة الحرية الفردية وعلو شأنها حوالي منتصف القرن الماضي - بما تحمله تلك الكلمة من حق وباطل - فإن الوحدة الرئيسية للمجتمع لم تعد العائلة، بل صارت »الفرد« رجلاً كان أم امرأة.. ومن ثم.. وبعد أن تبدلت القيم والمفاهيم، وشاعت الحرية - صارت المرأة لا تعني الزوجة أو الأم للرجل، بل زميلة العمل أو الصديقة والخليلة، ولم يعد الرجل بحاجة إلى الزواج وإقامة العائلة كوحدة اجتماعية-في غالب الأحيان - فحاجاته الطبيعية ملباة دون مسؤوليات تلقى على عاتقه، وهو حر في التنقل بين امرأة وامرأة، كما أن المرأة حرة في التنقل بين رجل ورجل، كما تقتضيه دفعة الجسد العمياء ولقد كان من المنطقي، وليتناسق النظام، أن تتساوى الأجور، إلا أن ذلك لم يحدث، وظل القانون يحتفظ بتلك الصورة القديمة الكامنة في الفطرة الإنسانية، والتي تجعل من الرجل المسؤول عن تأمين احتياجات العائلة، ومن المرأة زوجة وأماً..

      وساد صمت على القاعة لعدة دقائق راح فيه كل طرف يقلب الأمر على جوانبه بين مؤيد ومعارض. وكنت أعجب من ذلك الحوار الذي أنطق الله فيه أحد عقلاء الإنجليز بالحق، وأظهر فيه ذلك التعارض القائم بين ادعاء الحرية والمساواة - خاصة في مجال المرأة - وبين ما هو واقع الحال من تفرقة عجيبة لا أساس لها من المنطق العادل بحال - إن حاكمناهم على أصولهم في الحكم على الأمور - تجعل المرأة في الصف الثاني مهما بذلت من جهد وعرق، مثلما يبذل الرجل..

      وإن كان عجبي كبيراً من ذلك المنطق الأعوج، وانحراف الفطرة عن طبيعتها لمّا تركت الهدي الإلهي، وزاغت في طريق الضلال.. فإن عجبي لأكبر ممن هم من أبناء جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، ويدعون إلى تلك الفوضى الاجتماعية التي يلبسونها ثوب الحرية زوراً وبهتاناً، وينادون في كل ناد أن: اعطوا المرأة المسلمة حقها أسوة بالمرأة الأوربية!! بل ويقف بعض المسلمين الطيبين موقف الدفاع على أساس أن المرأة المسلمة لها حقوق كذلك في الإسلام أسوة بالمرأة الغربية!؟.

      ونحن نرد عليهم دعواهم، وندعي خلافها : أن المرأة الغربية لم تنل حريتها حقاً وصدقاً.. ويالها من حرية تلك التي تشقى بها المرأة في الكد والعمل خارج البيت، وبالوحدة واحتمال الولد - غير الشرعي - ومسؤولياته، ومواجهة الحياة دون رفيق يعين على ذلك العناء.. ثم تتقاضى أجراً أقل من مثيلها من الرجال..

      والقانون الإنجليزي لم يحتفظ بتلك الصورة ورعاً وتقوى! إنما احتفظ بها لأنها تخدم أصحاب رؤوس الأموال، في مجتمع رأسمالي يؤمن بالنفعية كأساس للتعامل، فالمرأة تحتاج إلى العمل بعد أن تخلق عن دورها الطبيعي، وبعد أن تخلى عنها الرجل، ولا بأس إذن من تحقيق فائض من الربح عن طريقها.

      ونحن - وإن كنا لا ندعي أن حضارة الغرب شر كلها لا يشوبه خير؛ قط إذ أن ذلك لا يكون في أمر من أمور الدنيا التي خلقها الله سبحانه على امتزاج الأمرين معاً، فخير غالب يشوبه بعض الأذى، أو شر غالب يسري فيه بعض الخير - قد قصدنا إلى بيان أحد أوجه النقص وأكثرها أهمية في المجتمعات الغربية وغيرها، التي ارتضت طريقة عيشها ليعلم المسلمون أي خير هم عليه، وأي حق هيأ لهم.. ويا ليتهم يعلمون فيعملون.

      [مجلة البيان اللندنية 1986]