فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      معنى قول الأصوليين "الكلام على مراد قائله"

      معنى قول الأصوليين "يؤخذ القول على مراد قائله"

      ورد علي سؤال من أحد الأبناء أنه سمع شيخاً يقول "يؤخذ القول على مراد قائله"، فما هي صحة هذا المقولة؟

      نقول وبالله التوفيق، إن هذا القول حقٌ لا ريب فيه، ثابت في الأصول، معتمدٌ في الفروع. لكنه، ككل حق، قد يراد به باطل.

      أولا هذه قاعدة فرعية من أحد القواعد الكلية الفقهية الكبرى "الأمور بمقاصدها" وقد شرحتها في سلسلة "سبيل التمكين"

      وتفصيل القول في هذه الجملة، التي أسهب فيها ابن القيّم في كتابه "أعلام الموقعين"، أو إعلام، وكلاهما محكيّ، أن الأصل هو أن المراد بالكلام بيان النية. فالعبرة بالمعاني لا بالمباني، وما وُضع الكلام إلا لنقل المعنى من الصدور إلى الأسماع والسطور.

      لكن طرد هذا الأصل دون تقييد، يفتح المجال لمخالفات شرعية، أحسب أنها قد تصل إلى درجة الكبائر في حق صاحبها، إذ تؤدى إلى هدم أساس المعاملات، من بيوع ومقايضات وأنكحة، ومواريث وما شئت من فروع الشريعة.

      وذلك من حيث إنّ المنطوق مقيّدٌ بأمور،

      منها أن العمل دائما يجرى على الظاهر، والله يتولى السرائر. وهذه القاعدة، العمل بالظاهر، كما أسماها الشاطبي، هي عمدة التكليف.

      فالقائل بأنّ الكلام على مراد المتكلم، يمكنه القول بأن النية قي العقود على المقاصد، كما شرح ابن القيم وغيره. وهذا يتضمن أن المتكلم مربوط بمقصده لا مقصد من سمع، ومن هنا حلّت الحيل المشروعة مثلاً.

      فيقال، صحيح، لكن لأن كلام المتكلم، هو من الظاهر، والله يتولى السرائر، فيجب حمل كلامه على محمل ما يَظهر منه بإعتبار الكلمات المفردة، وسياق الحديث، ثم عادة العرب في تركيب الجمل، ثم الواقع والقرائن المحيطة بالقول. فالأمر إذا ليس مطلقا، كما يحب الآخذ بهذا القول أن يصوّره، حتى يرفع صورة التناقض عن أقواله، أو أقوال غيره.

      أما عن الكلمات المفردة، فلعل فيها اشتراك، أو تواطؤ أو ترادف أو تباين، كما قسمها الغزالي. وكل منها له أقسام، لا نبغي التفصيل فيها في هذا الموضع، وإن كان مما سنفصله في الجزء الثاني من مبحث الخلاف بعون الله تعالى.

      فهل يصحُ أن يُترك القائل ليتخير ما يريد مما قد يحتمله اللفظ المُفرد؟ وأي انضباط في الكلام إذن، بل هذا يؤدى إلى الهرج وضياع المعاني بالكامل!

      لذلك يجب أن تُضم قيود على هذا الإطلاق، حتى لا يعبث عابث بعقول الخلق، فيستمر في تبديل مراده من وقت لوقت، متحججا باتساع معنى اللفظ المُفرد.

      وهذه القيود تأتي، كما سبق، من سياق الكلام، فاستعمال اللفظ، كما قرر الشاطبي وغيره، يجب أن يحسب فيه حساب مساقه، ليحدد الوجه المقصود.

      فمثلاً إن جاء رجلٌ فوصف رجلاُ بأنه متحلل، في مساق حديث عن ضلال المرجئة، ثم بعد حين من الدهر، قال: لم أقصد بالتحلل أنه تارك لأحكام الله بل قصدت أنه يسهل على الناس أمر دينهم بأن يأخذ بالأيسر في التحليل! فقصدي أنه رجلٌ فاضل مُتبع، كان هذا الوجه غير مقبولٍ منه على وجه الإطلاق، وكان مبررا لتناقضه في الحديث، خاصة والرجل لم يغيّر من أقواله شيئا.

      هذا عن المساق، أما عن تراكيب الجمل، فإن للعرب طريق في أداء المعنى بألفاظ قد تُقصد بإفراداها غير ما تُقصد في تركيبها، ومنه جاء المجاز، وترك الإطناب للإيجاز، وغير ذلك مما تجده مبسطا بسطا وافيا في الخصائص لابن جني. فمثلا إن قيل: جاء الأسد إلى منزلنا أمس، وكان الكلام عن مشاهير الدعاة، عرفنا قصد المتكلم، لاستحالة أن يكون المراد هو الأسد على ما وضع له لفظه المفرد حقيقة، وهو المجاز. ثم اعتبار تراكيب الجمل نبينه في مثالٍ واضح، ورد في الخصائص في قوله تعالى " فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ" النحل 26. من حيث أن الله سبحانه قال "من فوقهم" وهذ قد يظهر تكرارا لمعنى "خرّ عليهم السقف" كما في قول العرب "سرنا عشرا وبقيت علينا ليلتان، وقد حفظت القرآن وبقي علي منه سورتان"، كما قال "قد أخرب عليّ ضيعتي وموّت علي عواملي وأبطل عليّ انتفاعي"، فالعرب تقول بذلك التركيب، فيمكن أن يحتمل قول "فسقط عليهم السقف" من هذا المعنى لاحتماله في تراكيب الجمل، ولكن لكمال البيان الإلهي، قال "من فوقهم" حتى لا يرد احتمال أن السقف قد وقع وهم ليسوا تحته. انظر الخصائص لابن جني ج2 ص 270 وبعدها. كذلك ذكر ابن جني، بغاية الوضوح، ما أكدناه في الأصول، فبوّب بابا يختص بقوله "باب في إقرار الألفاظ على أوضاعها الأُول، ما لم يدع داع إلى الترك والتحول" الخصائص ج2 ص 458، طبعة المكتبة العلمية. فمن هذا وجب على من أراد أن يدّعي احتمالا لقوله غير ما هو عليه في الظاهر ووضعه الأول، أن يأتي بالداعي لهذا، لا أن يتذبذب بين أقوال مدعيا عدم التناقض لمجرد ورود الاحتمال. فهذا معناه إما قصور في تعبيره أولاً فلم يبيّن كما أمر الله "لتبيننه للناس" أو تذبذبه في قوله وتخفيه وراء الاحتمالات.

      إذن فالأمر لا يُترك على عواهنه، يدع كل امرئ أن قوله يحتمل هذا أو ذاك، بل هناك قواعد أصولية ولُغوية تحكم هذا الأمر. ونكتفي بهذا القدر فلعلنا أوفينا الرد على من قال بهذا.

      د طارق عبد الحليم