فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      الذكريات

      شريط الدكريات - الوثيقة الكاملة

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه، وبعد

      كثيرا ما سألني الشباب أن أكتب عن حقبة السبعينيات، تلك الحقبة الفريدة في عصرنا الحديث هذا، لاسيما ونحن كنا رجالاً أسوياء، نعرف ما التوحيد، وما حكم الله، ومفاهيم الولاء والبراء، بل وندرّسها للشباب أيامها بهمة ونشاط، من حيث شعرنا أننا قد حصلنا، بتحصيلنا لهذا العلم، على جواهر نفيسة ومعادن ثمينة، يجب أن ننفقها ونسوّقها بين الناس، فالبخل بها حطّة لحاملها. 

      بداية الحركة

      كنا نعلم تماما من هو عبد الناصر، وكفره وطاغوتيته. كشفنا زيف عبد الناصر، منذ حرب اليمن وانسحابه المخزى منها، ثم في 9 يونيو عام 1967، في الانتكاسة الكبرى، يوم انتصر الكيان الصهيوني، ثم حين خرج ليعلن "تنحيه" الصوري، وخرجت جماهير لا حصر لها، تنادي بعودته، ورفض البرلمان الاستقالة!

      ثم أيام خرجنا ضده في أول مظاهرات بجامعة القاهرة عام 1968، وكنا أيامها على في سبيلنا لإنهاء الدراسة الجامعية.هناك، استولينا على عربة مطافي وأعتقلنا سائقها داخل أسوار الجامعة، وقام طلاب قسم الكهرباء بكهربة السور لمنع حشود الأمن المركزي من الدخول. وعشنا داخل أسوار الجامعة عشرة أيام، حتى أتي السادات، وتحدث مع وفدٍ منا، في التحرير، وكنت، والله يشهد على ذلك، ممن بصق في وجهه مباشرة.

      ثم حين هلاك عبد الناصر، كنت ساعتها في قطارٍ مسافراً من الإسكندرية إلى القاهرة، وسمعت ورأيت حشوداً هائلة، ملايين البشر، يصيحون في الشوارع عند هلاكه "لا إله إلا الله، عبد الناصر حبيب الله". رأيتهم في كل ّمحطة وقف عليها القطار عام 1970، وكنت ساعتها مهندساً بشركة الحديد والصلب المصرية.

      مرحلة السادات

      اختلطت الذكريات الخاصة، مع ذكريات الحركة، التي كانت، عقب تولي السادات الحكم، في أوجها، بعد مظاهرات قمنا بها في عام 1971. ثم أخرج السادات الكثير من الإخوان المسجونين، لمواجهة المد الشيوعي، وتقوية النفوذ الأمريكي. فكانت فرصة ذهبية، لم نحسن، أو لم يحسن التيار كله استخدامها في حينها. وخَرَجت وقتها في 1974 على ما أذكر مجموعة من تلامذة سيد قطب الأوائل، وهم المشايخ الأحباب عبد المجيد الشاذلي ومجدي عبد العزيز ومصطفى الخضيري رحمهم الله جميعا، ومحمد المأمون أطال الله لنا في عمره، فتمكنا وقتها من التحقق مما جرى في السجون، والتحزبات التي أسفرت عن اتجاه الإخوان في مرحلتهم الثانية، بقيادة مأمون الهضيبي، وجماعة الشاذلي التي أطلقوا عليها "القطبيون" زوراً، ثم من التحق بالفكر التكفيري وخرج مع شكري مصطفي، إلى جانب من انضم إلى الجماعة الإسلامية، والتي كانت قد تأسست في أوائل السبعينيات، وبدأت عملها الحركي في الثمانينيات. وكانت جماعة الجهاد التي تأسست في أوائل الستينيات قد أصبحت تحت المرصاد، توطئة للقبض على كل من انتسب للإتجاه الجهادي في أوائل الثمانينيات، إلا من خرج بعد فترة السجن الأولى وترك مصر مثل الدكتور الظواهري ومن معه.

      وكانت فترة السبعينيات هي الأكثر نشاطاً بين عامي 1974 و1979، حتى حين صدرت أوامر بملاحقة الإسلاميين في اتحادات الطلبة بالجامعات المصرية، ومنهم عصام العريان وعبد المنعم أبو الفتوح، وكانوا طلابا بالجامعة، بعد أن تركناها بأكثر من عشرة سنوات.

      وقد كنت أيامها، بفضل الله تعالى، بعد عودتي من عقد بالجزيرة انتهى شر نهاية! نشط في الدعوة للتوحيد في القاهرة، وبخاصة في الألف مسكن والمطرية وعين شمس، وكان من يرافقني في الذهاب لحلقاتي، بعد انتهاء عملي كمدير مشروعات في شركة عثمان أحمد عثمان، هو الشيخ الحبيب الفاضل اسماعيل جحيش رحمه الله، حيث كان يملك "فسبا"!، يمر عليّ في نهاية الدوام، وننطلق إلى حلقتين أو ثلاث، ثم يعود بي إلى منزلي نحو منتصف الليل! وقد كان الشيخ إسماعيل هو من خطط لقائي، وأخ حبيب من أصحاب العلم في مصر، لست في حل من ذكر اسمه، عام 1977 مع ممثلين لجماعة مصطفى شكري، حيث كانت مناظرة استمرت ثمانية عشر ساعة دون توقف، تمكنا فيها بحول الله تعالى من دحض شبهاتهم في مسائل الإيمان والتوحيد والعذر بالجهل، فخرجا من الشقة وهما غاضبين قائلين "على كل حال قد أقمنا عليكم الحجة فكفرتم بها، ولو لقيناكم بعد هذا لن نتوقف عن قتلكم!". كذلك قد شهد الشيخ رحمه الله لقاءً بيني وبين الشيخ عبد المتعال الجبري رحمه الله، من قيادات الإخوان، وكان قرابة الثمانين من عمره آنذاك. وكان الشيخ قد خرج من السجن قبل ذلك بفترة قصيرة.

      ومن أعجب الأمور أن من التهم التي كانت موجهة له هو أنه يدرّب الشباب على الكراتيه! أي والله!. وقد فقد سمعه في أحد أذنيه من التعذيب، رحمه الله. وكان اللقاء في بيته. وبالطبع، رفض معاني الشرك في التحاكم وشرك القبور، وحرمة التصاوير .. ولا عجب.

      وفي تلك الفترة عرفني أخ حبيب لي على الشيخ صلاح الصاوي، وكان وقتها شاباً وعضوا في جماعة شكري مصطفى، إلا أنه بعد مناقشات مع هذا الأخ الحبيب، وبعض من هم من أفراد مجموعتنا، تركها وهرب شارداً منها، وكان يأتي بيتي كثيراً في مدينة نصر، وكنت أحسن وفادته وإعانته. وسيكون لصلاح الصاوي شأن معي، ومع الدعوة بعد!

      ثم التحقت، بعد تركي للعمل في شركة عثمان للمقاولات، بالعمل كمديرا تنفيذيا لشركة اسمها "الشركة المصرية للرخام والجرانيت". وكان صاحبها من الشخصيات المتنفذة في مصر، وقد أعجبه أدائي، فدعاني إلى بيته في يوم من الأيام، وعرض عليّ أن انضم إلى المحفل الماسونيّ بمصر! وأن ذلك سيعينني كثيراً في النهضة بمستقبلي العمليّ. فراوغته قليلا وانصرفت.

      وفي تلك الفترة، من السبعينيات في مصر، التقيت بشخصيتين من أهم الشخصيات التي أثّرَت وأثْرَت العمل الإسلامي في تلك الحقبة وما بعدها، أولهما الشيخ العالم الفاضل الجليل رفاعي سرور رحمه الله تعالى، حيث التقيته في منزله بالمطرية مرتين. والشيخ رفاعي سرور غنيّ عن تعريفي به، فهو نارٌ على علم، وهداية لمن التزم، وكتبه تنبئ القارئ عن قدره، وكنت أكبره في العمر بثلاث سنوات. وثانيهما هو الشيخ الجليل عبد الله السماوي رحمه الله تعالى، حيث زرته في بيته، وكان الرجل مهيب الطلعة، ذو لحية بيضاء كثيفة، لا يهاب في الله أحد، يحسب مجالسه أنه في حضرة خليفة من خلفاء العصر العباسي!، وكان يكبرني في العمر بعامين، فكان ثلاثتنا من جيل واحد والحمد لله تعالى.

      وفي عام 1979، فوجئت في بيتي بزيارة الشيخ محمد سرور، المعروف بأبي عصام رحمه الله، مصطحباً معه الشيخ سفر الحواليّ، وكان أيامها شابا صغيراً نحيلاً جدا، حتى أني رفعته عن الأرض مازحاً! واستمرت الزيارة ثلاثة أيام.

      وكانت هذه الزيارة لسببين، أولهما توزيع كتابه المعروف "وجاء دور المجوس"، والثاني هو التعرّف علىّ عن قرب، لأمرٍ في نفسه، علمته بعد ما يقارب عشر سنوات! وكنت وقتها قد نشرت كتابي "الجواب المفيد" وسرت مكملاً تدوين كتاب "حقيقة الإيمان".

      وكان أن استمرت فترة عملي في الدعوة من تلك الأيام، حتى عام 1981، على نفس الوتيرة، نعمل تحت الرادار، كما يُقال. وكانت فترة مثمرة جداً بعون الله تعالى لا يزال الكثير ممن درستهم التوحيد يتواصلون معي، أو يتواصل معي أبناؤهم، إلى اليوم، إن كان الله سبحانه قد اختارهم لجواره. ومنهم وعلى رأسهم الحبيب الشيخ الذي طبع لي كتابيّ الجواب المفيد وحقيقة الإيمان، مع عدد كبير ممن لا يزال حياً، وكتب الله لي ملاقاتهم أثناء زيارتي لمصر في عهد د محمد مرسي كما سيأتي بعد.

      وكنت قد أتممت مسودة كتاب "التوحيد"، والذي كان من المخطط أن يُطبع بعد كتاب حقيقة الإيمان، لكن أراد الله تعالى أن تأتي أنباء في منتصف عام 1980، أن المخابرات ناشطة في القبض على من له اسمٌ يُذكر أيامها، احتياطا من توتر الجوّ العام، فأرجأنا طباعته قليلاً.

      كذلك أخرجت كتيبا صغيرا باسم "حكم شيخ الإسلام فيمن حكم بغير شرائع الإسلام" وهو رساله لابن تيمية عن حكم التتار، استخرجتها من مجموع الفتاوى حينها، وعلقت عليها، وكتبت لها مقدمة أصولية وخاتمة، وطبعها أخي الحبيب ذاته، من دون أي اسم عليها، يجدها القارئ على مكتبتي الإلكترونية في طبعتها الوحيدة. فإذا بها تنتشر انتشار النار في الهشيم، حتى وصَلتْ إلى من يعملون ضمن الجماعات المسلحة.

      وكان الوقت أيامها، في أول عقد الثمانينيات، مشحونا أشد الشحن، خاصة بعد توقيع الهالك السادات على معاهدة الخزى والاستسلام في كامب ديفيد عام 1979، ومع تزايد نشاط الجماعة الإسلامية. ثم فوجئت يوماً بأحد الإخوة يطرق بابي، حاملاً حافظة صغيرة، فرحبت به، وما أن استوى في غرفة الجلوس، حتى أخرجّ من الحافظة مسدساً مفككا، وقال: أرسلني الإخوة لأدربك على استعمال المسدس، وعلى بعض الحركات اللازمة للتسلق وغيرها مما يلزم المقاتل! وكان هذا من أعجب ما حدث لي، فإني لم أكن يوماً منتمياً لأي جماعة أصلاً، بل وكنت ممن يرى أن أسلوب الجماعة الإسلامية في القتل العشوائي، لن يؤدى إلا إلى فرح قصير يتبعه ندم طويل! وأن العمل يجب أن يكون ممنهجاً وعلى طريقة دعوة الرسل، بالتمهيد وبناء الحاضنة أولاً، يلحقه بعد ذلك الجهاد، حين يحين الحين. فما كان منى إلا أن اعتذرت من الأخ وصرفته صرفاً جميلا، بعد أن حثني على أن أتقبل التدريب، قائلا لي أنّ مصر على وشك أن ترى أحداثاً جساماً في القريب العاجل.

      ثم جاء اغتيال السادات في 6 أكتوبرعام 1981، وسمعت ضرب الرصاص والهرج، بأذنيّ، حيث كنت أعيش قرب المنصة التي قُتل عليها. ثم نشطت المخابرات بعد ذلك الحدث، فما كان منى إلا أن تخلصت مما بقي في بيتي من كتاب "وجاء دور المجوس"، كما وضعت كتبي كلها في حاويات عدة، أخذها أحد الإخوة ووضعها متفرقة عند عدد من معارفه، لم يخبرني باسمهم احتياطاً. فلما سافرت بعدها إلى الأردن كما سيأتي، استرجعها الأخ كلها منهم، إلا الحاوية التي فيها مسوّدة كتاب التوحيد، وهو ما أورثني ألماً أشعر بغصته إلى يومي هذا، كفقد ابن من أبنائي، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ثم إن الأخ صار يرسل لي مكتبتي تباعا، حتى وصلني حوالي ثلاثة أرباعها .. وبقي بعضها في مصر.

      وفي أول عام 1982، كان أخ حبيب قريب منا، يعمل أخاه الأكبر في مكان مرموق، ينقل لنا محاضر التحقيق التي تقوم بها المباحث العامة، وهي من آلاف الصفحات. ثم نقل لنا في صبيحة أحد الأيام، أن أمرا صدر من النيابة بالقبض عليّ، وعلى أحد من أفراد مجموعتي المقربة، وهو والحمد لله لا يزال على قيد الحياة، فما كان منا إلا أن توجهنا لحظتها إلى المطار، وغادرنا على أول طائرة إلى الأردن، والتي كانت لا تستلزم تأشيرة دخول أيامها. وعرفت بعدها أن كتيب شيخ الإسلام كان مما وُجد في حافظة الشهيد خالد الإسلامبولي، فكانت تلك هي الصلة التي ربطنا بها طلب القبض علينا حينها. 

      وانتهى دوري في مصر في فبراير 1982.

      المرحلة الأردنية

      بدأت تلك المرحلة بوصولي إلى عمّان، حيث استقبلني بعض الإخوة السوريين، ممن أوصاهم الشيخ سرور بهذا، ووجدوا سكنا لي، ثم لحقني أهلى وابني الأكبر شريف، فكّ الله أسره. وهناك قابلت الشيخ د محمد العبدة.

      تمتد معرفتي، إذا، بالشيخ د محمد العبدة، المعروف بأبي أنس، والد الخائن أنس العبدة، إلى أكثر من 35 عاماً، حين نزحت إلى الأردن، فراراً من قبضة الكلب مبارك، وكانت عائلة العبدة قد نزحت من سوريا بعد مجزرة حماة، والتقينا في الأردن عام  1982. وكنا من قبل قد تزاملنا في معهد الدراسات الإسلامية في الزمالك بمصر عام 1971، لكن دون لقاء.

      عرفت الرجل، وعرفت الصبي أنس. وكان الرجل فاضلاً محبا للعلم، يقدر الرجال ولا شك. وتحاببنا في الله، وكان ابنه الخائن أنس أكبر من ابني شريف بحوالي 3 سنوات.

      وقد اتفقت وقتها مع الشيخ العبدة أن نكتب سلسلة من الكتب في الفرق. كتبت منها بنفسي كتابي مقدمة في أسباب اختلاف المسلمين وتفرقهم، والمعتزلة: بين القديم والحديث، أمدني فيها ببعض نقولات بسيطة. ومتب هو الصوفية نشأتها وتطورها.

      وهناك في الأردن، التقيت مع عدد من الشخصيات التي كان لها شأن كبير فيما بعد في أفغانستان، ثم الشام، وعلى رأسهم الحبيب رمضان نموس المشهور بأبي فراس السوريّ. وكنا نسكن في شقتين متقابلتين في عمان، الأردن. وكان الرجل حباباً عطوفا جياش العاطفة رغم بسطة له في الجسم وهبها الله إياها. وكان أولاده صغاراً، كما كانت زوجه، مع الفاضلة أم أنس ممن عاونوا زوجتى أيام وصولنا أكبر العون، وخاصة في حدث ميلاد ابنتي الكبرى في مشفى الشميساني بعمّان، جزاهما الله كلّ خير.

      ثم التقيت مع عائلة العبدة مرة أخرى في بريطانيا، وعشنا أحباء في الله. ويشهد الله ما رأيت عليهم شيئاً يدل على انحراف، في حينها.

      لكن ما أثار انتباهي هو عداوة شديدة حانقة من الشيخ محمد سرور، المعروف بأبي عصام، نسبة لابنه عصام الذي قتل في حادث سيارة وهو شاب صغير، مما أثر على والده سلباً في نواح عديدة منها تصرفاته وسرعة غضبه، أقول عداوة شديدة حانقة على فكرة الجهاد المسلح، والتجربة الجزائرية التي كانت ناشئة في وقتها. وكنت أيامها مشغولا في الكتابة الأكاديمية لمجلة البيان اللندنية، والتي كنت ممن شاركوا في إصدار عددها الأول في برمنجهام، كتابة، وفي اقتراح إعادة تصميم غلاف عددها الثاني وما تلاه. وقد كتبت في الثلاثة عشر عددا الأولى منها، وكانت معرفتي وثيقة حميمة بالأخ أبو فاضل السوري رئيس تحريرها، وكان ممن تميّزوا في اللغة العربية.

      وفي تلك الأثناء، ظهرت فكرة المنتدى الإسلامي في لندن. وتم اختيار مبناه هناك، حيث راجعت الرسومات الهندسية له قبل عملية الشراء. وكانت صاحبة الفضل في دفع ثمن المبنى سيدة من الجزيرة لست في حلِّ من ذكر اسم ابنها الذي كان يدرس أيامها في لندن.

      وقد قابلت عدة شخصيات جزراوية هناك، ممن هم يصغرني بحوالي عقد ونصف، منهم د محمد الأحمريّ، الذي كان طالبا بلندن. وقد كان مترددا قلقا أن يكتب، خوفا من أن لا يكون أسلوبه على المستوى. وأذكر يوما دخل عليّ المكتب في برمنجهام، وجلس أمامي في مقر صحيفة البيان، وصرح لي بذلك الهاجس، فكان أن طمأنته وذكرت له أن الأمر أمر ممارسة، وإن لم يبدأ فلن يعرف ما هو مخزون طاقته في هذا المجال. وهو الذي صار بعد ذلك بحوالي عشر سنوات رئيس الأيانا الأمريكية IANA وهي مؤسسة دعوية أنشأنها مجموعة من أهل الجزيرة في أمريكا. كذلك عاشرتُ الأخ الطيب الذكر د محمد آمحزون المغربي، وكان طيباً هادئاً، محباً للعلم. وكان مشاركاً في الكتابة بالبيان. وعرفت بعدها أنه صار أستاذا للتاريخ في جامعة بالمغرب. وغيرهم كثير من الموفدين إلى لندن من مختلف البلدان، وخاصة الجزيرة، وإن لم تسعني الذاكرة بكثير من أسماء تلك الشخصيات.

      وكنت وقتها، أقيم دورات في لندن، لتدريس التوحيد والإيمان، وبعض الأصول، كان يحضرها عدد من الإخوة الأفاضل منهم من لا يزال حياً، ولا إخالهم يحبذون ذكري لأسمائهم. وكان منهم الصابر المحتسب مصطفى كمال المعروف بأبي حمزة المصريّ، والذي أكمل على يديّ دراسة التوحيد والإيمان، في النصف الثاني من الثمانينيات، قبل أن يفتتح مركزه في لندن، وقبل أن يتوجه إلى أفغانستان. وكان شجاعاً جسوراً طيب القلب، حاضر الذهن، وكان يصغرني بعقد من الزمن، فكّ الله أسره. 

      وقد كان الشيخ محمد سرور في تلك الفترة يقيم دورات للشباب الوافد، هي أشبه بجلسات "المساطب" الريفية المصرية، حيث يكون هو رحمه الله فيها الرأس، يستمع له الكلّ، ولا تتوجه الأسئلة إلا اليه. ولمّا كنت وقتها معروفا بما أًصدرت من كتب في العقيدة والفرق، وبمقالاتي الكثيرة، ودوراتي في لندن، فكان بعض الحاضرين يتوجهون لي ببعض الإسئلة أحيانا، فلا يعجبه ذلك، ويُظهر التنكر منه، وكان هذا من أسباب الشقاق الذي حديث بيني وبينه في عام 1988. 

      وكانت علاقتي بالشيخ سرور تزداد قوة ومتانة. وكنا نخرج لشراء بعض احتياجاتنا العائلية معا، لفترات تمتد لساعات. مما جعلني أتكشف الأبعاد النفسية والفكرية للشيخ. وكان دائم السؤال عن الشيخ عبد المجيد الشاذليّ، يريد أن يجمع عنه أكثر المعلومات، وعن الشيخ عبد الهادي المصري، الذي كانت تربطنى به صلة ولاء ومحبة عمرٍ، لا تذهب إلى يوم أن نلتقي عند مليك مقتدر.

      وكنت ألمس في أسئلة الشيخ سرور نوع من الحسد للشيخ الشاذلي، فكنت أشرح له أبعاد شخصية الشيخ الشاذلي، وخاصة في موضوع التوقف والتبين، والذي اتهمنى بتبنيه شخصياً، فيما بعد في كتابه "الحكم بما أنزل الله وأهل الغلو" والذي عرفت بعدها أنه كان يراني، والشيخ الشاذلي من أهل ذاك الغلو، رغم معاشرته لي كلّ تلك الفترة! وما أطلعني على ما لمّح به عنى في ذلك الكتاب إلا أحد الإخوة الجزراوية في مؤتمر كنتُ قد دعيت اليه لإلقاء محاضرة في عام 1992، في مدينة دنفر بكولورادو، أمريكا. كما أطلعنى هذا الشاب، لأول مرة، على كتاب "عقيدة الموحدين" الذي قدّم له الشيخ عبد الله بن باز، وحوى كتابي الأول "الجواب المفيد في حكم جاهل التوحيد"، بالإسم المستعار الذي أخرجناه به أول مرة في مصر!

      وكانت علاقتي بالشيخ محمد العبدة في تلك الفترة اللندنية، حميمة قريبة، بنيت على إخوة في الله، نشأت منذ أيام اللجوء إلى الأردن، وامتدت بعدها عقودا، وكانت كتب الفرق التي ذكرتها مِنْ جَناها. والشيخ العبدة، رجل هادئ الطبع إن سكت، شديد الغضبة إن غضب، لا برفع صوتٍ أو مكافحة قول، ترى غضبه في عينيه وفي وجهه، لا تخطئه. وكان حفظه الله ألوفاً كريماً مضيافاً، محباً للخير. كم من جلسات جلسناها، وكم من حوارات حاورناها، وكم من لطائف المزح الطيب مازحناها. حتى وقع ما وقع من ابنه أنس، ولهذا حديث آخر إن شاء الله. وقد قابلت الصحفي أحمد موفق زيان في بيته مرة.

      وكان الشيخ سرور، في هذه الفترة كذلك، يعمل على إصدار مجلة "السنة" والتي كان المراد أن تبتعد كلياً عن المنتدي وعن البيان، من حيث أراد لها أن تأخذ الطابع السياسي. وقد كان، رحمه الله، ممن يُحسن جمع المعلوات وأرشفتها، وحَمَل الشباب على عمل ملفات بكلّ ما يدور في أي بقعة من بقاع العالم الإسلامي. وقد رأيت بعيني الحاويات المكتبية التي امتلأت حينها بملفات لا حصر لها. لكني لم أشارك في كتابة أي مقال بتلك الجريدة، لأن اهتمامي كان منصباً وقتها على أمرين، أحدهما إنهاء الدكتوراة في الهندسة، وثانيها البحث الأكاديمي في علوم الشرع، بعيداً عن عجيج السياسة وصخبها.

      وحدث أن جاءني، في بيتي ببرمنجهام، الشيخ محمد سرور في يوم من الأيام، ومعه الشيخ العبدة، وعدد من الإخوة، فجلسنا، وكان أن طلب منى بيعة لجماعته، صراحاً. ولمّا كنت ممن لا يقيّد نفسه ببيعات أو يلتزم بجماعات، فقد رفضت برفق قائلا إنني أحتاج إلى وقت للتفكير في الأمر، فما كان منه إلا أن غضب وقام واقفا وولى شطر باب البيت مندفعا، يحاول الشيخ العبدة أن يخفف من غضبته! وما فعلت إلا ما كان لابد لمن هو في مثل تجربتي حينها أن يفعل، فلا أقبل أن أكون من أحد حواريي الشيخ سرور. ولم نتحدث بعدها مواجهة قط، حتى توفاه الله. لكنه فاجأني بمكالمة تليفونية في عام 1996، في بيتي بتورونتو، مفاجئة لم أتوقعها، فسأل عني وعن أحوالي، ودعاني لزيارته في الدوحة، واشتكي لي من تكاثر المرض عليه، فطمأنته ما يسر الله لي ووعدته خيراُ بالنسبة لأمر زيارته.

      ثم علمت من بعد أن صلاح الصاوي تواصل مع الشيخ سرور، ليدبر له أمر لقائه بالشيخ الشاذلي في مصر، حيث كان بصدد إصدار مذكرة حوار بين قادات العمل الإسلامي في محاولة للتقريب، على حدّ قوله. وأخرج بالفعل رسالة في حوارات من القيادات الإسلامية، لكن لا أعلم مصيرها. وعرفت أن لقاء الشيخ سرور مع الشيخ الشاذلي لم يكن طيباً ولا مثمراً، كيف وكلاهما له وجهةٌ هو موليها!

      انتقلت من برمنجهام إلى مدينة ميلتو مينز، حيث أعنت في بعض الأعمال الخيرية الدعوية، كما أشرفت على صحيقة عربية لندنية، مانت تصدر بالإنجليزية وتُعنى بفن إدارة الأعمال، وذلك إلى جانب عملي في إنهاء الدكتوراة، والتي كنت أوشكت على أن أنجزها في وقت قياسي بالنسبة للجامعة، بعد الحصول على الماجستير.

      ومن حسن تدبير الله، أن كان تردادي على السفارة المصرية في لندن مستمراً بسبب أنني قد سجلت ابني شريف لتملة دراسته الإعدادية، حيث أنه كان من المقرر أن أعود مع عائلتي لمصر بعذ إنهاء دراستي. لكن : وتقدرون فتضحك الأقدار!

      كان أن قابلت في السفارة ملحقا دبلوماسياً شاباً، في مقتبل العمر وقتها، وهو محمد رفاعة الطهطاوي، حفيد الشيخ رفاعة الطهطاوي المصري الشهير، فقامت بيننا صداقة قوية حميمة، واعتاد أن يزورني في بيتي في برمنجهام، وأتردد عليه في مكتبه، للحصول على أوراق لدراسة ابني. وقد انتهى الحال بالأخ محمد رفاعة أن يرتقي في السلك الدبلوماسي، وينتمى للإخوان، ويعينه د محمد مرسي رئيساً لديوان الجمهورية في عامه الأوحد، ثم، كبقية الإخوان، أودعه الملحد السيسي السجن، بلا جريرة. وكان الرجل، يشهد الله، هادئ الطبع خفيض الصوت، فيه ولاء لإخوانه وأحبائه، فكّ الله أسره وإخوانه. وقد وصلتني أخبار عن تدهور حالته الصحية، شفاه الله وعافاه، وأخرجه من محنته.

      وفي نهاية عام 1988، كان ابني قد أنهى الشهادة الإعدادية. وكنت كل رجعت لمصر في فترة الأربع سنوات التي قضيتها في لندن، مرة واحدة. وأنهيت عامها، أو كدت أنهى الرسالة. وتحدثت مع لأهل، وأبي رحمه الله، عن خططي عند العودة لمصر، ولم يكن يخطر ببالي الهجرة إلى أمريكا الشمالية على وجه الإطلاق حينذاك!

      وفي يوم من أيام ذاك العام، فاجأني الأخ محمد رفاعة بمكالمة تليفونية، مؤداها أني قد وُضعت على قائمة المطلوبين، عند عودتي لمصر، وذلك من حيث وصلهم نشاطي الدعوي  في لندن، والذي كان يشكف عورات الطاغوت المصري مبارك دون تورية.

      فأسقط وقتها في يدي، واقترح عليّ محمد رفاعة محاولة الهجرة، حيث أن البقاء في بريطانيا لم يكن خياراً لي لعدم توفر فرصة عمل.

      وكان بالفعل أن قدمت إلى ثلاث سفارات، الكندية والأمريكي والاسترالية، وجاءتني منها جميعا موافقات سريعة، نظرا لمؤهلاتي العليا وإتقاني للغة الإنجليزية والحمد لله تعالى. فوقع اختياري على كندا، من حيث أخبرني أحد زملائي القدامي، وكان بعيدا عن الدعوة وأهلها، والذي هاجر لكندا قبل عدة أعوام، أنها الأقل عنصرية، فاستخرت الله، وأتممت أوراق السفر، وانتقلت بعائلتي في تورونتو، مرغمٌ أخاك لا بطل.

      الجزء الثالث

      المرحلة الكندية

      وصلت إلى كندا في أغسطس 1989، مع أهلى وأولادي. وكان في استقبالي أحد الإخوة الجزاوية، كنيته أبو مالك، من المبعوثين للدراسة هنا في كندا. وقد كان معينا لي أشد العون، فبقيت في بيته، حتى دبرت لي سكنا، ثم عملاً.

      وقدمنى بعض المصريين في تورونتو إلى عدد من الشخصيات، منها من قبلت، ومنها من رفضت. وكان من تلك الشخصيات أسماء تنتمى لجماعة الإخوان. وكان لهم نشاط اجتماعي واقتصادي، كعادتهم. لكني لاحظت عدم اهتمامهم بنشر العلم أو عقد الدورات العلمية. بل الاعتماد على الخطب والمؤتمرات، التي هي في غالبها مناسبات اجتماعية، تجتمع فيها اعوائل لتتعارف وتتقارب، وتستمع إلى المتكلمين في المؤتمر، دون أي تركيز أو خطة معينة.

      وكان الغرض الأساسي من تلك المؤتمرات هو جمع التبرعات، لإقامة مراكز ومدارس إسلامية، وهو غرض، في حد ذاته مطلوب. لكن أمرهم، كأمر الإخوان جميعا، لا يُعنى بالعلم الشرعي، إنما بالجهد الحركيّ. وقد بسطت هذا الأمر في عدة مقالات أهمها "الإخوان المسلمون .. في نصف قرن".

      وكانت حركتهم في الجالية المسلمة، تعتمد على التحرك من أعلى إلى أسفل. وأعنى بهذا السيطرة على مراكز القيادة، بأي وسيلة كانت، في المراكز الإسلامية والمساجد، ثم ، صبغها بالصبغة الإخوانية، وإن لم يكن أحدا ممن رواد تلك الأماكن منتميا للإخوان، أو حتى يعرف عنهم شيئاً. وقد تحدث عن الجالية

      وقد تعرفت هنا على د على هندي، وهو مهندس نشطٌ في مجال العقارات بالطريقة الإسلامية، وله اتصالات واسعة بين المسلمين، ويتميز بشخصية لها لونها الخاص، لا ينازعه فيها غيره، وهو طيب القلب حسن السريرة يرعى الود والمعاشرة. وكان أن قمت بتعريف الشيخ على هندي على طريقة الإخوان ومنهجهم، فأحسن العمل، وكان ممن عاون بشكلٍ فعال في نشر الفكر السنيّ في مجتمع الأقلية.

      وفي عام 1991، قدّم أحد المعارف شخصية، عرفت بعدها أن صاحبها من جماعة الشيخ محمد سرور، وهو إمام مسجدٍ ومركز إسلامي في وسط تورونتو، اسمه "مركز بدر الإسلامي"، ينفق عليه عدد من الوافدين السعوديين، الذين كانت لهم مدرسة خاصة بأولادهم تدرس العربية والقرآن أيام الأحد، ولا يسمحوا لأطفال غير السعوديين في الحضور! وللأسف علمت بعدا أن هذا الرجل قد استولى على محتوات المركز، ثم سافر إلى محافظة كويبك، واسس لتفسه مركزا وصنه لنفسه اسماً!

      بدأت بعدها في إلقاء دورات أسبوعية عديدة، في التوحيد والإيمان وأصول الفقه، لمدة تناهز أربع سنواتٍ وأنهيتها كلها بحمد اله تعالى وتوفيقه.

      ثم عاودني حلم كنت أتمنى تحقيقه منذ أمد بعيد، وهو إصدار مجلة إسلامية شهرية، فاستخرت الله وبدأت في إصدار مجلة شهرية، بالعربية والانجليزية أسميتها "أمة الإسلام"، في عام 1998، وكنت أكتب مقالاتها وحدى، وإن شارك فيها الشيخ العبدة وغيره مرة أو مرتين.

      وكنت أطبع هذه المجلة في بلد أمريكي قرب الحدود الكندية في ولاية ميتشجان، اسمها آن أربر، على الحدود مع أنتاريو. وكان يقطنها عدد كبير من المسلمين، غالبهم من اليمن، وبعض السعوديين والمصريين. وكان من يتولى طباعة المجلة لي باسم خفاجي، يستلمها من بيتي ويعيدها لي مطبوعة للتوزيع. وكان بسام خفاجي مقربا من محمد الأحمري السعودي، ورئيس الأيانا كما ذكرت قبلاً. وانتهز خفاجي فرصة هذه الثقة، فسلب عددا من المسلمين أموالاً، احتفظ بها، وحوكم بسبب ذلك وسُجن في ميتشجان.

      وهذا الرجل هو ذاته باسم خفاجي الذي روّج لنفسه بعد العودة لمصر على أنه شخصية إسلامية، وكاد أن يأخذ تزكية السلفيين في مصر للترشح لإنتخابات الرئاسة، لولا أنني كتبت عنه ما أعرف، بل وأحضرت نسخة من محمة ميتشجان المحكوم عليه فيها، واتصل بي ممثل برهامي ليلة الترشيح، وسألني مباشرة، هل ما كتبت عن هذا الرجل صحيحا؟ فأكدت له معرفتي التامة بما فعل، وأحلته إلى شخصيات معينة لو أراد التأكد مما ذكرت، فرفع السبفيون اسمه من قائمة الترشيح في يومها.

      ثم أوقفت طباعة المجلة، لمّا وجدت صعوبة في ترويجها في المراكز الإسلامية، رغم أنها مجانية، لسيطرة الإخوان على المراكز، ومعرفتهم بهويتي وتاريخي من قياداتهم الخارجية، أوقفت طباعتها بعد 13 عدد صدر منها بالفعل..

      وتوقف نشاطي الإسلامي، أو كاد، في الفترة ما بين 1995 و1998، حيث شغلتني الدنيا بمشاغلها وزينتها، فأسست عدد من الشركات التي كانت ناجحة بحمد الله تعالى. لكنها أخذت منى أعواما لم أنشط فيها لعمل إسلامي أو تدوين أكاديمي، إلا في أواخر عام 1998.

      في أثناء تلك الفترة كلها، والتي بدأت أحداثها تدور في حياتي، أو تدور حياتي حولها، ما زلت أفكر في كتابة منهج متكامل، يُنَظّرُ لأهل السنة والجماعة تلك الأسس والقواعد التي يقوم عليها الفكر السني، سواء شرعياً أو عقلياُ أو فطرياًن بدافع أن يكون "المنهج" الذي يُرجع اليه، لا في مسائل العقيدة وحدها، كما يُعرف حين يُطلق لفظ المنهج اليوم فيُقصد به التوحيد، لكن يغطى التركيبة العقلية التي تقرّب بين الآراء والنظر سواء في العقيدة أو في الفقه بشقيه، أو الفقه الحركيّ، وهو ما أسميته حينها "منهج أهل السنة في النظر والاستدلال. ولا شك أن هذا المنهج يضم أصول الفقه ومقاصد الشريعة، والقواعد الفقهية والأصولية، لكنه لا ينطر فيها بمنظار من كتب فيها من قبل، بل بمنظار آخر، أشرت اليه في عدة صفحات أخرجتها منذ وقتٍ، في هذا الموضوع.

      ولا أريد أن يطول بي الحديث في هذا الأمر، لكن، أحببت أن أشير اليه، إذ صاحبني، في كلّ مراحل حياتي، حتى يومنا هذا، دون أن يكتب الله لي إنجازه. بل أخرجت كتاباً مبسطاً في أصول الفقه، ولم أخرج ذاك البحث، لأمرٍ أراده ربي، ولعله خير.

      وفي حوالي عام 1997، عاد صلاح الصاوى إلى الظهور ... والظاهر أن أحد الإخوة ذكر له أنني أقيم في كندا. وكان هو وقتها يتردد بين أمريكا ومصر .. بعد أن بدأ مشروع الجامعة الأمريكية المفتوحة، وهي جامعة للتدريس عن بعد، ينتسب اليها الحاصل على الثانوية العامة أو ما يعادلها. وكان مركزها في ألكسندريا، واشنطن. وكان الصاوى رئيسا لها، وعضوية د حسن شواط وعدد من الأساتذة في علوم القرآن والحديث، من المقيمين، وعدد ممن يقومون بالتدريس عن بُعد. وقد طبعت الجامعة عدد من المراجع في بعض علوم الشريعة، كما اعتمدت عددا من الكتب المطبوعة لعلماء عدة.

      ودعاني الصاوى لزيارة مقر الجامعة في واشنطن، كما دعوته لزيارتي في بيتي. وقد قمت بزيارة مقر لهم في فيلادلفيا كذلك. كما طلب منى أن أكون عضوا في مجلس إدارة الجامعة في القاهرة، فقبلت.

      وكعادة تلك المؤسسات، كانت دائما في حالة ضيق ماديّ، فكنت أعينهم بالمال، بشكل سخيّ، لموقع الصاوى عندي وقتها. وقد طلب منى مرة مبلغ سبعة آلاف دولار، لتمويل زيارته للخليج لجمع تبرعات، على أساس أنها قرض له، فأعطيته المبلغ بلا تردد، على أنه سيعيده بعد عودته. ولم أره بعدها إلى يوم الناس هذا!

      وكانت الجامعة تُقدم منهجا لدراسة البكلوريوس في أربعة أعوام. فجاءتني فكرة عمل دبلوما في الشريعة الإسلامية، لمدة ثلاثة أعوام، لاختصار المدة على من يريد الحصول على دبلوما فقط، على أن يمكنه إكمال السنة الرابعة لمن يريد، أسوة بالجامعات العادية.

      وبالفعل وضعت منهجا متكاملاً، باللغتين العربية والإنجليزية، لمواد الدبلوما، يتكون من دراسة تسعة وعشرين مادة، في عدة محاور، كل محور منها يحتوى على عدد من المواد. ووضعت سجلاً بالمراجع المطلوبة في كلّ مادة. وبدأت في عمل دعاية للدبلوما في تورونتو. ولم تعجبني فكرة الدراسة عن بعد، فهي ليس مما يتمشى مع ما كان عليه سلفنا من التحام بين المُربي والتلميذ، مع فقدان الكثير من الفائدة جرّاء عدم الوجود في معية الأستاذ المعلم. فجعلتها دراسة في الفصل، مرة كل يوم أحدٍ لمدة ثلاث ساعات للعربية، يتلوها ثلاث ساعات لطلبة الإنجليزية.

      والتحق عدد لا بأس به في البرنامجين، وكنت أدرس كلّ مواد الدبلوما بنفسي، وبدأت بهذا في تطبيق عمل أعتبره من أهم وأنجح ما حققت بفضل الله تعالى، وهو تخريج دفعات من الطلبة الدارسين دراسة منهجية سواء من المتكلمين بالعربية أو الإنجليزية، على علم بالتوحيد والإيمان، ومواد كثيرة في الحديث وعلوم القرآن، وأصول الفقه ومناهج البحث، والتاريخ والعربية، وهي محاور الدبلوما. وكان ذلك سببا في وضعي لمذكرات متكاملة في تلك العلوم، ظهر منها دراسات كاملة، منها مختصر في دراسة التاريخ من العصر الأموي إلى غزو التتار، علم مصطلح الحديث ومناهج المحدثين باللغتين، ومختصرات للتوحيد وغير ذلك، كما أعانتني على إتمام كتاب أصول الفقه الذي طُبع في مصر في عام 2012 بعدها.

      ثم بدأ عدد من طلبة العلم الصغار في إنشاء برامج على غرار برنامجي، لكن ليس مجانيا كبرنامجي، بل ربحياً، أي مقابل مصروفات مدفوعة. منهم عادل السيد، والذي قابلته مرات في فيلادلفيا، شابا صغيرا، حين كان يدرس في الجامعة الأمريكية المفتوحة، والذي أنشأ مع آخرين معهد المغرب، ثم اشتهر وصار له صيت، وحقق أرباحا طائلة لمنشئيه.

      وداومت على تدريس تلك الدبلوما، إلى جانب عملي الهندسي، مدة ثمان سنوات، من 1998 وحتى 2006، تخرج خلالها صفوف من الطلبة، بفضل الله تعالى. ولا يزال منهم من يتواصل معي إلى هذا االيوم.

      وفي عام 2000، قررت شراء مبنى خاص لإنشاء مدرسة إسلامية ابتدائية ومتوسطة، يكون التدريس فيها على نهج إسلاميّ سنيّ، إلى جانب المناهج المعتمدة من وزارة التعليم الكندية، وقد كان. ونقلت تدريس الدبلوما إلى ذلك المبنى، بدلا من التدريس في الطابق الأسفل من بيتي. وقامت مدرسة دار الأرقم ومركز داؤ الأرقم الإسلاميّ، وسارت الأمور على ما يرام، إلا أن الحومة المحلية لم تكن راضية، فما زالت تضع العقبات حتى اضطررت لإغلاق المدرسة، في عام 2004، مع الاستمرار في الدبلوما بالمبنى.

      ثم في عام 2004، كان أن قابلت شاباً، أصله من مصر ومولده في أمريكا، فذكر لي أنه ينتمي إلى مجموعة المداخلة في كليفلاند، بولاية أوهايو بأمريكا. وذكر لي ذاك الشاب تمدد حركة المداخلة بشكلٍ واسع بين الأمريكيين السود، بما يعرضون عليهم من مال، وبعثات للمدينة ومغريات شتى. فكان أن حفزني هذا على أن أدوّن كتابي باللغة الإنجليزية أولا تحت عنوان “The Counterfeit Salafies” ، ثم ترجمته اللغة العربية بعنوان "فتنة دعاة السلفية وانحرافاتهم"، وتم طبع الكتاب بنسخته الإنجليزية، ولم أر مثله مدونا في موضوعه، في أي من اللغتين، حتى خرجت بعض الأعمال تالية له بالعربية.

      ثم حدث أن كانت المخابرات الكندية ترسل من حين لآخر أحد الجواسيس من المسلمين، عربا أو باكستانيين لينتظموا في الدراسة، ويسجلوا بعض ما أقول محاولة لإيجاد ما يمكن أن يؤخذ عليّ. وكنت أعرفهم بعينهم، وأتركهم في الفصل، لحرصي على كلماتي وما أقول. ثم ينقطع الجاسوس فترة، لحين استبداله بآخر.

      وفي عام 2005، التحق شاب مصري ينتمى لعائلة كبيرة في تورونتو اسمه شاهر السحيمي، في عمر ابني الأكبر شريف فك الله أسره. ولم أعرف ساعتها أنه جاسوس مأجور. لكن وقعت بعض أمور بيّنت لي سوء معدن الرجل فطردته من الفصل، غير عالم بعد أنه جاسوس،  وحذرت ابني شريف من التعامل معه تحذيرا شديدا. وقد عرفت فيما بعد أنه كان يسجل كل الدروس ويتقاضى أجرا بالقطعة من المخابرات الكندية! لعنة الله عليه.

      ولكن قدر الله سابق، فقد علمت فيما بعد أنه رتب مكيدة لابني ومعه بعض الشباب المحبين للإسلام، بعد أن ترك شريف الاستماع لنصيحتي،. وكانوا يلتقون بعد صلاة الفجر في مسجد بضاحية من ضواحي تورونتو. وكانت الظروف السياسية مهيئة لعمل ضجة عن الإرهاب في كندا، لرفع شعبية بوش الصغير، الصديق المقرب لستيفن هاربر رئيس الوزراء الكندي الصهيوني، ولرفع ميزانية المخابرات الكندية، ولزرع الرعب في نفوس الكنديين، لابتزازهم سياسيا، بمبدأ "fear mongering " أي زراعة الخوف.

      وفي 2 يونية 2006، كنت أقضي عطلة نهاية الأسبوع في نياجرا فالز، الشلالات الشهيرة، فتلقيت في يوم السبت، الساعة العاشرة مساءً أسوأ مكالمة تليفونية تلقيتها في حياتي كلها: ابنتي تبكي بكاء هستيريا، وتبلغني أن شريف، ابني الأكبر، قد تم اعتقاله. وما أشدها عليّ من ذكرى!

      تلقيت تلك المكالمة المشؤومة، ليلة السبت، 2 يونيو 2016، وطارت بي سيارتي، أو طرت بها، إلى البيت.

      اتصلت بكل من أعرف، فذكروا لي قصة اقتحام البوليس الإتحادي RCMP، لبيوت 18 مسلماً منهم ابني شريف.

      مرت الساعات كأنها دهوراً! انتظرنا فجر اليوم التالي، وتوجهت لمحام يمثل ابني في جلسة توجيه التهم " arraignment hearing"، حيث اتهم بجريمة الانتماء لخلية إرهابية، ومحاولة قتل مدنيين..!!

      ثم كان ما كان من قدر الله، واستمرت المحاكمة مدة خمس سنوات كاملة، شربنا فيها المر والعلقم، والحمد لله تعالى، من المحامين، وحراس السجن، والإعلام، والحزن على الولد، ولدي الأكبر .. وإلى الله المُشتكى.

      وكان من أهم ما أصابني في هذه المأساة، هو مصيبتي في عدد من الناس، كنت أحسبهم رجالاً، بل كنتم أحسبهم رجالاً من ذوى الفضل، قطعوا اتصالهم بي تماما، خوفاً وفزعاً، وعلى رأسهم صلاح الصاوي، الذي عرفته منذ كان شاباً حدثاً، وأعنته في كل خطوة .. ولم أبخل عليه بمال. لكنه ردّ الجميل بالانقطاع عن السؤال! جبن عجيب في طبيعة الرجل .. بل صار يأتي إلى محافظة كويبك بجوارنا، فلا يتصل ولو تليفونيا! فإن كنت أنا، والد المتهم، لم يمسسني سوء بحمد الله، فمم يخاف من يتصل بي!؟ صحيح، الجبن خلّة المخذول حقاً. ثم لمّا أراد الصاوي أن يبني لنفسه بيتا في مصر، بعد أن أعياه الفقر والعوز زمناً، اختار أن يبتعد عن صديق عمرٍ، لعله يُساءل! واتخذ سبيله في طريق الطرح الديموقراطيّ، وضرورة الانصياع للقوانين، وعدم الخروج على الحاكم .. فانتكس وارتكس مما أصابه من جُبن في القلب .. كما انتكس وارتكس من قبله نبيل نعيم وآل الزمر، وغيرهم ممن اشترى بيوتا وتجارة تبور، بدينه، والله المستعان.

      وفي فبراير 2011 جاء الحكم على ابني بالسجن مدى الحياة، ليس مؤبداُ، فالمؤبد 25 عاماً، بل مدى الحياة، وهو لم يطلق طلقة نار واحدة، ولم يهدم حجراً واحداً، بل كله كلام، أثاره حنق هؤلاء الشباب وغيرتهم على ما يحدث لأهلنا في العراق، وما زينه لهم الجاسوس، بعد أن استلم ثمن كفره وولائه للظالمين 4.1 مليون دولارا، كما حكت الصحف عن قيمة تعاقده مع المخابرات، ونحلوه، وأهل بيته، شخصيات جديدة خوفاً منى، لمّا أخبرهم إني ممن لا يترك حقاً يضيع! ولا يزال مختفيا عن أعين الناس، لكن أنّى يختفي من خالقه؟!

      ووضع ابني في السجن الأعلى حراسة supermax، مدة ثلاث سنوات في مكان نصل اليه بطائرة ثم سيارة! ثم نُقل بعدها إلى سجنّ مشدّد الحراسة super" مدة ثلاث سنوات بعدها، ثم انتقل إلى سجن متوسط الحراسة medium، حيث لا يزال فيه إلى يومنا هذا، لا نعلم ما سيكون من حاله، والله المستعان على ما يصفون.

      وفي خلال تلك الفترة، قدّم لي أحد الأحباء صحفياً يُدعى جمال سلطان، توسمت فيه خيراً وقتها، لمّا رأيت له كتاباً ينقض فيه الديموقراطية. ثم كان أن تحدث إلىّ جمال بأنه يفكّر في إنشاء جريدة الكترونية، اسمها "المصريون"، لكنه أولا، ليس لديه المال الكافي، وثانيا يخشى تسجيلها في مصر حتى لا يغلقونها. وسألته لم اختار "المصريون"؟ قال تمويها للحكومة، وإيحاءً بأنها تقبل أي من الآراء الموافقة والمخالفة، لكنها ستكون مجلة ذات طابع إسلاميّ صرف. فتشجعت على مساعدته، وسجلت اسم الشركة هنا في كندا، وأرسلت اليه أوراق التسجيل، ثم بدأت في إعانته بدفعات مالية كبيرة متواصلة، لدفع إيجار المكتب، وشراء حواسب، ومرتبات للعاملين، وغيرها. وكان أخي د محمد، هو من يعطيه المال، حيث يذهب جمال إلى بيته، ينتظر على بابه حتى يخرج له بالمبلغ. وصرت أكتب مقالات ينشرها في الصحيفة التي بدأت في الانتشار على النت.

      ثم لاحظت تغيراً في سياسة المجلة، حيث بدأت تنشر مقالات لسياسيين عملاء من الحكومة، وتتغاضي عن أقوالهم المشينة، فكتبت لجمال، مرات بهذا الشأن وبعدم رضاي عن هذا التوجه، وكان دائم التعلل بأن هذا تمويها للحكومة!

      وفي يوم من الأيام، كتب على جمعة مقالاً من تخاريف عقله، فكتبت مقالا للرد عليه، فامتنع جمال عن نشره، مما أغضبني كثيراً، وذكّرته بأنني العمود الرئيس في إنشاء هذه المجلة، فلم يردّ، بل ظلّ يتلون في الحديث تلوّن الحرباء.

      علمت بعد ذلك مباشرة، أنه استخرج عن طريق من يعرفهم من سعوديين، تصريحا جديدا للمجلة من لندن، دون علمي، وغيّر اسمهما في هجائه باللغة الإنجليزية! بدهاء المجرمين. ثم علمت تعاونه مع آل سلول، واستلامه أموالاً طائلة من الأسرة الحاكمة، لينشد في محاسنهم ويتغاضى عن سيئاتهم، فقلت في نفسي، باع الرجل نفسه للشيطان، واستعوضت الله فيما أنفقت في بناء تلك المجلة، التي استولى عليها جمال وحده، لثقتي فيه وعدم طلب تسجيل نصيب فيها في محاكم مصر! واستمر الرجل في التدهور، بعد أن حسن حاله الماديّ، وتزوج بثلاث زوجات، وترك أيام الفقر والعوز خلفه، وأولاها ظهره، على حساب دينه، تماما كما فعل صلاح الصاوي .. فهما من طينة واحدة! ولا يزال في قاع الحضيض، لم يخرج منه بعد.

      ثم كان من محاسن قدر الله، أنني سافرت انجلترا لزيارة بعض الأحبة هناك، فذكر لي أحدهم أن شيخاً جليلاً شهيراً اسمه د هاني السباعي، يقيم في لندن، وطلب منه أن يلقاني، فرحبت أيما ترحيب. وأذكر أنني كنت في صبيحة يوم اللقاء مريضا، فتأخرنا قليلاً مما أغضب الشيخ هاني، لكنه سرعان ما عرف فعذر، لأنه لم يكن مقصوداً، وكانت وليمة فاخرة لا أنساها.

      وقويت أخوتي مع الشيخ د السباعي، فوجدته فاضلاً، صادقاً، محبا لدينه نحسبه ولا نزكي على الله أحدا، مضحياً صابراً، عالما في التاريخ والفقه، متحكما بنواصي اللغة، وله باع في الأصول والحديث وغيرها من أصول الشرع وفروعه. وصار هو الأخ الوفيّ الذي لا يكاد يمر يوماً دون أن نتواصل. وقد زرته بعد ذلك مرتين في بيته العتيق القديم الصغير في لندن، ومشوار حياته معروف منشور لمن أراد الاطلاع على بلاء الشيخ وابتلائه في دين الله. وأذكر أنه كتب مقالاً في عام 2011، منافحاُ عني، بعد أن هاجمت الشيخ الحويني لموقفه من الثورة المصرية بعنوان "المتسلفون الجدد!! يهاجمون الشيخ طارق عبد الحليم لأنه ليس شيخاً فضائيا!"

      وفي نهاية عام 2010، بدأت بوادر الثورة المصرية، تلوح، بعد حكم مبارك الذي دام مدة ثلاثين عاما بالتمام.

      حينما بدأت مظاهر التمرد في مصر، حوالى أكتوبر 2010، وفاض بالناس الكيل، كنت قد قطعت علاقتي كلية بجمال سلطان، بعد أن ظهرت أنانيته وسعيه للمال والشهرة، لا لله ولدينه. كما كان ابني شريف يقضي شهوره الأولى في السجن. وقد فاتني أن أذكر أنهم قد