فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      الأخلاق في القرآن الكريم (2)

      ونكمل المسيرة مع باقة الإسراء الاخلاقية

      وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنًاۚ إِمَّا يَبۡلُغَنَّ عِندَكَ ٱلۡكِبَرَ أَحَدُهُمَآ أَوۡ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفّٖ وَلَا تَنۡهَرۡهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوۡلٗا كَرِيمٗا ﴿٢٣﴾ وَٱخۡفِضۡ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحۡمَةِ وَقُل رَّبِّ ٱرۡحَمۡهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرٗا ﴿٢٤﴾ رَّبُّكُمۡ أَعۡلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمۡۚ إِن تَكُونُواْ صَٰلِحِينَ فَإِنَّهُۥ كَانَ لِلۡأَوَّٰبِينَ غَفُورٗا ﴿٢٥﴾ وَءَاتِ ذَا ٱلۡقُرۡبَىٰ حَقَّهُۥ وَٱلۡمِسۡكِينَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرۡ تَبۡذِيرًا ﴿٢٦﴾ إِنَّ ٱلۡمُبَذِّرِينَ كَانُوٓاْ إِخۡوَٰنَ ٱلشَّيَٰطِينِۖ وَكَانَ ٱلشَّيۡطَٰنُ لِرَبِّهِۦ كَفُورٗا ﴿٢٧﴾ وَإِمَّا تُعۡرِضَنَّ عَنۡهُمُ ٱبۡتِغَآءَ رَحۡمَةٖ مِّن رَّبِّكَ تَرۡجُوهَا فَقُل لَّهُمۡ قَوۡلٗا مَّيۡسُورٗا ﴿٢٨﴾ وَلَا تَجۡعَلۡ يَدَكَ مَغۡلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبۡسُطۡهَا كُلَّ ٱلۡبَسۡطِ فَتَقۡعُدَ مَلُومٗا مَّحۡسُورًا ﴿٢٩﴾ إِنَّ رَبَّكَ يَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقۡدِرُۚ إِنَّهُۥ كَانَ بِعِبَادِهِۦ خَبِيرَۢا بَصِيرٗا ﴿٣٠﴾ وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَوۡلَٰدَكُمۡ خَشۡيَةَ إِمۡلَٰقٖۖ نَّحۡنُ نَرۡزُقُهُمۡ وَإِيَّاكُمۡۚ إِنَّ قَتۡلَهُمۡ كَانَ خِطۡ‍ٔٗا كَبِيرٗا ﴿٣١﴾ وَلَا تَقۡرَبُواْ ٱلزِّنَىٰٓۖ إِنَّهُۥ كَانَ فَٰحِشَةٗ وَسَآءَ سَبِيلٗا ﴿٣٢﴾ وَلَا تَقۡتُلُواْ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۗ وَمَن قُتِلَ مَظۡلُومٗا فَقَدۡ جَعَلۡنَا لِوَلِيِّهِۦ سُلۡطَٰنٗا فَلَا يُسۡرِف فِّي ٱلۡقَتۡلِۖ إِنَّهُۥ كَانَ مَنصُورٗا ﴿٣٣﴾ وَلَا تَقۡرَبُواْ مَالَ ٱلۡيَتِيمِ إِلَّا بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ حَتَّىٰ يَبۡلُغَ أَشُدَّهُۥۚ وَأَوۡفُواْ بِٱلۡعَهۡدِۖ إِنَّ ٱلۡعَهۡدَ كَانَ مَسۡ‍ُٔولٗا ﴿٣٤﴾ وَأَوۡفُواْ ٱلۡكَيۡلَ إِذَا كِلۡتُمۡ وَزِنُواْ بِٱلۡقِسۡطَاسِ ٱلۡمُسۡتَقِيمِۚ ذَٰلِكَ خَيۡرٞ وَأَحۡسَنُ تَأۡوِيلٗا ﴿٣٥﴾ وَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ إِنَّ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡبَصَرَ وَٱلۡفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَٰٓئِكَ كَانَ عَنۡهُ مَسۡ‍ُٔولٗا ﴿٣٦﴾ وَلَا تَمۡشِ فِي ٱلۡأَرۡضِ مَرَحًاۖ إِنَّكَ لَن تَخۡرِقَ ٱلۡأَرۡضَ وَلَن تَبۡلُغَ ٱلۡجِبَالَ طُولٗا ﴿٣٧﴾ كُلُّ ذَٰلِكَ كَانَ سَيِّئُهُۥ عِندَ رَبِّكَ مَكۡرُوهٗا ﴿٣٨﴾ ذَٰلِكَ مِمَّآ أَوۡحَىٰٓ إِلَيۡكَ رَبُّكَ مِنَ ٱلۡحِكۡمَةِۗ وَلَا تَجۡعَلۡ مَعَ ٱللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَ فَتُلۡقَىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُومٗا مَّدۡحُورًا ﴿٣٩﴾"الإسراء

      وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُ

      إذن هذا تقرير لما جاء في الآية السابقة، بالأمر بعدم الشرك بالله، وبعاقبة ذلك على من جناه. ثم عقّب هنا بجملة خبرية، هي من قضاء الله الشرعيّ، أنه سبحانه قد قضى في كتابه ألا تكون العبادة إلا له، وهي النتيجة الحتمية بالأمر الأول، أمر الله ألا تُشرك به، فقضاءه هو أن تعبده وحده، تكملة لما كان من الأمر. وهو ربط بين الأمر الشرعي والقضاء الشرعيّ، وكلاهما لا دخل له بأمره الكوني أو بقضائه الكونيّ. فنحن نرى أن الكثير، بل الأكثر يشركون بالله، ولا يعبدونه، خلافاً لأمره، فكيف يخالفون عن قضائه؟ فالجواب أنهم يخالفون أمره وقضاءه الشرعيين، اللذين أتت بهما الرسل ونزلت فيهما الكتب، وهو مقتضى الخيار البشريّ الذي تركه الله سبحانه للناس، ليكون الاختبار حقيقياً، ويرفع عنهم كلّ حجة "رُّسُلٗا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةُۢ بَعۡدَ ٱلرُّسُلِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمٗا" النساء 165. وهو يختلف عن أمره وقضائه الكونيّ، الذي بموجبه، لا يتم أمر في السموات ولا في الأرض إلا به وعلى مقتضاه، بلا تخلّف. والذي بحسبه صار المؤمن مؤمنا والكافر كافراً، من حيث علِم سبحانه من سيؤمن ومن سيكفر، بعلمه المحيط بكل ما كان وما هو كائن وما سيكون، وما لم يكن كيف سيكون لو كان. وهو ما دّون في اللوح المحفوظ، واستحال أن يخالف شئ أو أحد ما جاء فيه، وإلا كان علم الله ناقصاً، كما أنّ ما كان وما سيكون وما هو كائنٌ مقتضى حكمته اللانهائية. فالعلم والحكمة والمشيئة يقررون القدر المحتوم، ويقرون القضاء المرسوم.

      وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنًاۚ إِمَّا يَبۡلُغَنَّ عِندَكَ ٱلۡكِبَرَ أَحَدُهُمَآ أَوۡ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفّٖ وَلَا تَنۡهَرۡهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوۡلٗا كَرِيمٗا ﴿٢٣﴾

      ثم جاء ثاني التوجيهات الخُلقية من الله سبحانه في هذه الكوكبة السّْنِيّة تشريفا لمن جعله الله سببا مباشراً في وجود كلّ إنسان على ظهر الأرض، الوالدين. قرن الله سبحانه بين عبادة الله الذي أحسن للنوع البشريّ بتوجيهه لعبادته سبحانه وعدم الشرك به، بالإحسان لوالديه، اللذين قاما على تربيته وتنشئته وتغذيته وتوفير الكساء والغطاء والوقاية من الحرّ والبرد، والسهر عليه بعينٍ لا تكلّ ولا تمل، كل لحظة من لحظات حياته، حتى بلغَ أشدّه واستوى. فعل الوالدين جزء من أجزاء فيض الإحسان من الله سبحانه على الناس، منْ كَفَره وعقّهما، فقد كفر بنعمة من أكبر نعم الله عليه.

      لكن الزمان يمرْ، والحال ينقلب، ويصبح الراعي طالباً للرعاية، ويبلغ الوالدان الكبر، فيهرمان ويشيخان  
      "وَمَن نُّعَمِّرۡهُ نُنَكِّسۡهُ فِي ٱلۡخَلۡقِۚ أَفَلَا يَعۡقِلُونَ" يس 68. هو من قضاء الله الكوني، أن يتدرج المرء في مسيرة الحياة، يستبدل قوة بضعف، ثم ضعفا وشيبة بقوة "ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعۡفٖ ثُمَّ جَعَلَ مِنۢ بَعۡدِ ضَعۡفٖ قُوَّةٗ ثُمَّ جَعَلَ مِنۢ بَعۡدِ قُوَّةٖ ضَعۡفٗا وَشَيۡبَةٗۚ " الروم 154. ماذا أمر الله سبحانه المسلم، أن يفعل تجاه الوالدين، في هذه الفترة الحرجة، وهي بلوغ الكبر والعجز؟ أمره بخطاب وجيز بسيط، وهو ألا يقول لهما "أفٍ" ! والله سبحانه يعلم حقيقة أن الكبار لا يحتملون كثيرا، وليس لديهم الصبر على حاجتهم كما كانوا في زمن القوة، فتجدهم يملّون ويجادلون ويقولون ويعيدون ويزيدون، هنا تأتي "الأف". هنا يظهر الصبر على ما هم فيه، كما صبروا عليك وأنت رضيع لا تصبر على جوع. هنا يأتي موعد ردّ الجميل. وبطبيعة الحال، أن من نهى عن أن يقال لهما كلمة من حرفين "أفّ"، فقد نهى، بطريق الأولى، عن أن يقال لهما أيّ شئ أكبر، بُله أن يُفعل بهما أيّ إهمال أو تجنبٍ أو إعراض أو نَهْرٍ. بل الواجب في حقهما، إن تصرفا هكذا في كبرهما، وهما تحت رعايتك، أن تتحدث اليهم بكل رحمة وتشعرهما بكل كرامة، لا أنك تمنّ عليهما بعونك ورعايتك، ومن هنا قال تعالى "وَقُل لَّهُمَا قَوۡلٗا كَرِيمٗا" ... وقد تكرر هذا المعنى في سورة البقرة "وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ لَتَعۡبُدُونَ إِلَّا ٱللَّهَ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَانٗا" (83)، لكن المشهد هناك كان موجها لبني إسرائيل، وتوليهم عما أمرهم الله به، وهي نفس التوجيهات والأحكام التي جاء بها القرآن في سورة الإسراء، وهي مكية. وهذا التكرار، يثبت وحدانية المُرسل، وتطابق الرسالات، ويقدم للمؤمنين، بعد أن وجههم في مكة بما عليهم من تكليف، ألا يأخذوا الأمر بتبسّط وتهاون، فقد جاء مثله من قبل لبني إسرائيل فأعرضوا، فغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم عذابا عظيما.

      وَٱخۡفِضۡ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحۡمَةِ وَقُل رَّبِّ ٱرۡحَمۡهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرٗا ﴿٢٤﴾

      سبحان الله على التعبير القرآني! خفض الجناح في اللغة تعبير عن التواضع، كما ينزل الطائر متواضعا أي "متنزلا" إلى الأرض من عٌلُوٍّ فيخفض جناحه. وهو كناية عن التواضع. لكن الجناح هنا ليس هو مجرد التواضع، بل هو جناح الذلّ، الذي هو أشد خفضاً لمقام النفس من مجرد التواضع. ولأنه ذُلٌّ لعزيز مستحق، أعطى قبلما يأخذ، بل بلا انتظار لأن يأخذ، فهو ذلّ صادر عن الرحمة، ووارد بالرحمة، فيتجسدّ هذا النوع الفريد من الذلّ الحبيب، في تلك الرحمة على الوالدين في ساعة حاجتهما وعسرهما.

      ولأنك، مهما أوتيت من قوة ومال وإمكانات، فهناك ما لا تقدر على جلبه، ولا على دفعه، فيأتي هنا دور الدعاء، بالرحمة، التي هي سبب ما أدّوه اليك أولاً، وما أمرك ربك به من خفض جناح الذل من الرحمة بهما، فتدعوه، أن يُأتيهما من رحمته ما لا تقدر عليه أنت ولا غيرك في دنياك هذه، تدعو "ارحمهما ربي ردّا لجميل إحسانهما وحسن صنعهما وسعة رحمتهما بي". اللهم ارحم والدي وكل موتى المسلمين.

      رَّبُّكُمۡ أَعۡلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمۡۚ إِن تَكُونُواْ صَٰلِحِينَ فَإِنَّهُۥ كَانَ لِلۡأَوَّٰبِينَ غَفُورٗا ﴿٢٥﴾

      ثم يأتي خبر اليقين، وهو أن الله يعلم ما في النفوس، بل هو أعلم منك بما في نفسك، لذلك لم يقل "ربكم يعلم" بل قال سبحانه "ربكم أعلم"، وهي صيغة "أفعل" المقررة لمزيد من معنى الحروف التي تكَوّن الفعل الحاضر في "يعلم". وقد عادت الصيغة هنا لصيغة الجمع[1]، إذ خرجت عن الصيغة الفردية الخصوصية، التي عُبر بها عن تلك العلاقة الأبوية بين المرء ووالديه، التي لها زخم الشخصنة والتأثير المُفرد، فلا تضيع في زحمة الجمع.

      فأنتم، إن كنتم صالحين، تعرفون ما لكم وما عليكم، بالنسبة لما تقدم، من عبادة الله وحده أولاً، وخفض الجناح للوالدين رحمة بهما، ثم بكل ما يترتب على الوفاء بالعهد لله وللوالدين خاصة، فإن الله سبحانه غفور لما سبق، عفوٌ عما لحق، إن كانت الأوبة صادقة، والتوبة نصوحة.

      وَءَاتِ ذَا ٱلۡقُرۡبَىٰ حَقَّهُۥ وَٱلۡمِسۡكِينَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِيلِ

       وذكر القرابة وحقها هنا هو من باب "الشئ بالشئ يُذكر"، كما قال أغلب المفسرين. فبعد أن تمت الوصية بما للوالدين من حق، جاء ذكر ذوي القربي، ثم اليتامى، ثم المساكين. وحقّ هؤلاء هو ما يواسيهم ويسدّ خلتهم، دون الوصية. وهنا تأتي ملاحظة أن ذوي القربي اليتامى مقدمون على ذوى القربي، وذوى القربي اليتامين المساكين، أولى من ذوي القربى اليتامى، واليتامى المساكين أولى من غيرهم من اليتامى. وهذا مقتضى الترتيب في الآية، وهو معقول مفهوم، فإن من تحققت فيه الأوصاف الثلاثة، أولى ممن تحقق فيه وصفان.

      وَلَا تُبَذِّرۡ تَبۡذِيرًا ﴿٢٦﴾ إِنَّ ٱلۡمُبَذِّرِينَ كَانُوٓاْ إِخۡوَٰنَ ٱلشَّيَٰطِينِۖ وَكَانَ ٱلشَّيۡطَٰنُ لِرَبِّهِۦ كَفُورٗا ﴿٢٧﴾

      وهذه الآية ليست معطوفة على الآية السابقة لها، في حق الأصناف الثلاثة المذكورين، فكيف يكون مبذراً من يُعطي كل ذي حق حقه، وإن يُذهب في هذا كلّ ماله. فالآية هنا معطوفة على آية "وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه"، فهي مستأنفة.

      والتبذير هو صرف المال في غير موضعه، أو بأكثر من اللازم في قدره، وكلاهما تبذير. والملاحظ هنا في الآية أنها جاءت بصيغة تفعيلا المصدرية، فقال تعالى "ولا تبذر تبذيرا". وهذا من عظمة من هذا الكلام كلامه. فإن تجنب التبذير بزيادة قليلة هنا وهناك أمرٌ متعذرٌ على الناس، في كلّ حال وعلى استمرار الحياة. فتغاضى الله سبحانه عن قليل التبذير العفوي، من حيث أن التبذير أمرٌ نسبيّ غير منضبطٍ أصلاً، وهو يشبه ما جاء في مسائل الفقه من حيث الإغضاء عن قليل الغرر لعدم انضباطه أولا، وللمشقة الزائدة على المكلفين في تحقيقه، كما في كمية الماء المستخدم في الحمامات القديمة.

      والمرء يعرف من نفسه التبذير، إن كان مبذرا. فإنفاق ما لا تملك ثمنه على ما لا تحتاجه، هو أسوأ أنواع التبذير في صوره الحديثة باستعمال البطاقات الإئتمانية Credit Cards.

      والله سبحانه قد فضّل بعض الناس على بعض في الرزق، لكن الفروق بين الغنيّ والفقير لا يجب أن تظهر في التبذير،، بل يجب أن يحتفظ الناس جميعا بوسط معتدلٍ وإن كان هناك فروق في المعيشة بطبيعة الحال ولا شك. لكن لا يصح أن يصل الأمر إلى الضدين، الترف الفاحش والفقر المدقع. وتلك الفئة التي تعيش في القصور اليوم لم تكن معروفة أيام الصحابة، رغم الغنى الواسع لبعضهم كعثمان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما. هذه طبقة نشأت في المجتمع الإسلامي في ظل جشع الولاة وتوحشهم، وانعدام التقوى، والمال المتدفق من تحت الإرض. وظهرت وتضخمت في أوروبا منذ أيام الكنيسة وسيطرتها وحكم اللوردات، ثك في ظل الرأسمالية والشيوعية على حد سواء.

      وقد بلغ من كراهة التبذير أن قُرن المبذر بالشيطان، فهم إخوان في مجانبة الحق، ووضع الأمور في غير نصابها. فكما يضع الشيطان الباطل محل الحق، يضع المُبذر ماله في محل لا يُراد به. ثم يُذكّر سبحانه بأن الشيطان كفور بالله، فكذلك قياس المبذر أنه كفور بنعمة الله.

      وَإِمَّا تُعۡرِضَنَّ عَنۡهُمُ ٱبۡتِغَآءَ رَحۡمَةٖ مِّن رَّبِّكَ تَرۡجُوهَا فَقُل لَّهُمۡ قَوۡلٗا مَّيۡسُورٗا ﴿٢٨﴾

       ثم يعود الكلمُ القرآنيّ إلى سياق التعامل مع ذوى القربي واليتامى والمساكين، فعطاؤهم بالحق نعمة وفضل، لكن إن تعذر ذلك، حقيقة لا إدعاء، وانتظاراً لما قد يأت به الله من رحمة، لك ولهم، إذ لا يُكلف الله نفسا إلا وسعها، فلا تصدنّهم صداً عنيفا أو مهيناً، بل اصرفهم عنك بالقول الكريم الميسور، الذى لا يأت بمهانة أو ازدراء. وهذا من قمة الهدي الخُلقي القرآني، من حيث مراعاة شعور الغير، والحساسية في التعامل معهم خاصة وهم في وقت حاجة، وهو أشد الأوقات ضعفاً لبني آدم.

      وَلَا تَجۡعَلۡ يَدَكَ مَغۡلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبۡسُطۡهَا كُلَّ ٱلۡبَسۡطِ فَتَقۡعُدَ مَلُومٗا مَّحۡسُورًا ﴿٢٩﴾

      وينتقل القرآن بين القضايا المتعددة بدءاً وعوداً، برشاقة وفصاحة لا نظير لها، فيدفع الملل، ويحفز الفكر، ويرسخ المعنى. يعود السياق مرة أخرى إلى موضع التبذير، فيصحح النظر ويعيّن الوسط،  ويُقوم الفكر، في مسألة الإنفاق.

      انظر إلى ذلك المشهد الذي ترسمه الكلمات! رجل، قد غُلّت يديه بالقيود، إلى عنقه، فهو عاجز عن الأداء، كالعبد المُكبّل بالحديد. تلك هي حقيقة البخل والبخيل. عبودية وعبد، لكن للمال من دون الله.

      لكن في نفس الوقت، لا يصح التبذير البغيض الذي حذر منه سبحانه قبلا. وقد صوّره هنا بصورة حسّية، كما فعل في التقتير، صورة من يده مبسوطة بكلّ ما لديه، كل الوقت، لا يبقى شيئا احتسابا للقادم المجهول، فإن من يفعل ذلك بقي ملوما، من نفسه وممن يعول، ومحسورا على ما آل اليه وضعه من حاجة تضطره إلى أن يكون صاحب اليد السفلي بدلا من العليا. وقد ذُكر نفس المعنى في موضع آخر من القرآن، وتغيّر المشهد، في سورة الفرقان "وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمۡ يُسۡرِفُواْ وَلَمۡ يَقۡتُرُواْ وَكَانَ بَيۡنَ ذَٰلِكَ قَوَامٗا" 67، حيث جاء ذلك التوجيه هناك في معرض المزج بين التوجيهات الخُلُقية، والتوجيهات العبادية، فغلب على الموضع هناك في الفرقان التوجيه العباديّ، وغلب على الموضع هنا في الإسراء، التوجيه الإخلاقيّ.

      وهذان الموضعان، يضعان أساساً قوياً نميّز به بين صاحب العبادة، وصاحب الخلق. فلا يلزم هذا من ذاك ضرورة. لكن لو لم يمزج الله سبحانه العبادة بالخلق، لظن البعض أن الُخلق يكفي، كما نسمع كثيرا من جهال قومنا.

      فإن قيل، لكننا رأينا رسول الله ﷺ وأزواجه المُطهّرين وكثير من الصحابة المُتّبعين، يفعلون ذلك، فلا يبقون في بيوتهم شيئا لغد، وهم في هذا ممدوحون؟ قلنا إن التكليف غير التشريف. والله سبحانه لا يُكلّف نفساً إلا وسعها. والتكاليف القرآنية لا تأتي للندرة من الناس، بل للغالب الأعم، ويبقى السابقون السابقون محل تطلّع لغيرهم، لا تكليفا عاماً يورث مشقة مُعجزة عن الفعل.

      إِنَّ رَبَّكَ يَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقۡدِرُۚ إِنَّهُۥ كَانَ بِعِبَادِهِۦ خَبِيرَۢا بَصِيرٗا ﴿٣٠﴾

      وهذا التبذير والتقتير، لا لزوم لهما في الحقيقة القدرية، فالله سبحانه مالك الرزق ومعطيه، لا أحد سواه، فمن بّذّر فقد ضيّع حقا كان من المفترض أن يذهب لصاحب الحاجة، ومن قَتَّر فقد حجب من ماله حقوقا عن أصحابها. وليس كلاهما بمن رزق المال الذي بذروه أو قتّروا به. كما أنّ فعلهم لن يكون سببا في إهلاك غيرهم، إلا من أراد الله، فهو القابض الباسط، للرزق وللحياة، وهو الخبير بحالهم خبرة بصير بهم لا عن خبر عنهم.

      وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَوۡلَٰدَكُمۡ خَشۡيَةَ إِمۡلَٰقٖۖ نَّحۡنُ نَرۡزُقُهُمۡ وَإِيَّاكُمۡۚ إِنَّ قَتۡلَهُمۡ كَانَ خِطۡ‍ٔٗا كَبِيرٗا ﴿٣١﴾

      ثم، والشئ بالشئ يُذكر، يعرض الله واحدة من أبشع صور الكفر بالآية السالفة "إِنَّ رَبَّكَ يَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقۡدِرُۚ" وهو أن يخشى المرء أن يفقد مالاً، منّ به الله عليه المقام الأول، إن جاء مولود، يأكل من ماله! ألا ما أبشع هذه النفس الجبانة المحقّرة. إن هذا المولود هو في حدّ ذاته رزقٌ كريم، وحياة متجددة، ونعمة سابغة، يرفضها، بل يقتلها، بإجهاض أو غيره، خشية الإملاق.

      وقد جاء القرآن بلفظة "تقتلوا" تفظيعا للجرم، إذ هو، من وجه ما: قلت للمولود، بمنع فرصة الحياة عنه.  لكن هل يعني هذا أنّ كلَّ إجهاض محرّم؟ والجواب لا. فصفة القتل الذميمة، جاءت في معرض القيد بخشية الإملاق. لكن إن وُجد سبب، كالخشية على حياة المرأة أو ما شابه ذلك من أوضاع اجتماعية تقيّم كلّ بنفسها، فإن الله قد يسّر أمر هذا الدين. لكن يبقى أصل الإجهاض مكروهاً، كالعزل. ويمكن أن يكون حراماً، كما لو دبّت فيه الروح، أو مباحا أو واجباً حسب المناط المُعتبر.

      وَلَا تَقۡرَبُواْ ٱلزِّنَىٰٓۖ إِنَّهُۥ كَانَ فَٰحِشَةٗ وَسَآءَ سَبِيلٗا ﴿٣٢﴾

      ثم يستكمل القرآن مسيرة النصح في توجيه مصدر المولود، وضرورة الحفاظ على نسبه، بتجنب فاحشة هي من الكبائر المعدودة في القرآن، وهي كبيرة الزنا.

      والزنا هو وطئ إمرأة لا تحل للرجل، لا بزواج ولا بملك يمين. وهذه الفعلة هي من أكثر أسباب خراب المجتمعات وفسادها وفشو الفسق فيها. قد جعلها الله علة في هذا الخراب، وسبباً فيه.

      فالزنا يعنى اختلاط الأنساب، ويعني الخيانة للزوج أو الزوجة أو وليّ الأمر، ويعني التلذذ بالحرام والتمتع به من غير بابه، وهو مهانة للمرأة، وكثير غير ذلك من الموبقات الاجتماعية.

      ثم، من تسوّل له نفسه مثل تلك الفعلة الفحشاء، خاصة بين المحصنين من الرجال والنساء؟ رجل له زوجة تسكن بيته، وتحلّ له متى شاء، فإن أبت أو عجزت، فله ثلاث غيرها في الحلال. ما الذي يدفعه لمثل هذا العمل المقيت؟ وامرأة لها بعلً يؤويها ويعطيها حقها، فإن عجز أو أبى، فلها الطلاق أو الخلع. ومن ثم فجزاء المحصنين والمحصنات هو القتل، لا أقل. فالإسلام يراعي المصلحة الاجتماعية فوق المصلحة الفردية، ويجعل القصاص على قدر المفسدة في ذاتها، وأثرها كذلك. لذلك قال تعالى "وَسَآءَ سَبِيلٗا" من حيث أن من سار في سبيله ساء قَدَرُه وانحط قدْرُه

      ولخطورة هذا الفعل، فقد نبّه الله على حتى الاقتراب منه، وفعل ما قد يؤدى اليه، سداً لذريعته، مثل الاختلاط، والقبلة، واللمسة، والحديث غير المبرر، والتبسط مع غير المحارم. وكم من هذه الذرائع أدى إلى الوقوع في الزنا نفسه، إلا من عصم الله.

      يتبع إن شاء الله تعالى الجزء (3)

      د طارق عبد الحليم

       [1]  وقد ذكر ابن عاشور في التحرير والتوير سببا غير ذلك فقال " والعدول عن الخطاب بالجمع في قوله : "ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين... الآية إلى الخطاب بالإفراد بقوله : "وآت ذا القربى" تفنن لتجنب كراهة إعادة الصيغة الواحدة عدة مرات. ولم أرتح لهذا التفسير من حيث خلوه من الحمة، ولجوءه إلى التفنن اللغوىّ، وهو أقل درجة بل درجات مما ذكرنا.



      Bidding Conditions