فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      سدّ الذرائع في الشريعة الإسلامية


      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ﷺ وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد
      الحديث عن سدّ الذرائع هو حديث عقل ومنطق ونظرٍ أصيل في المقام الأول. فسدّ الذرائع هو أحد الأدلة الشرعية الإجتهادية التي استنبطها العلماء من الأحكام النصيّة القائمة في الكتاب وفي السنة المطهرة، وكانت باباً يُد من أوسع أبواب استنباط الأحكام التي لم ترد في النصوص، حتى قيل "سدّ الذريعة ربع الشريعة".
      وقبل أن نشرع في الحديث عن هذا الدليل العظيم من أدلة الشرع، نود أن نشير إلى أمر يتعلق به من قريب. فإن التشريع الإسلاميّ قد بُني على اعتبار صالح المجتمع قبل الفرد أو بالتعبير الأصوليّ "تقديم المصلحة العامة على الخاصة" بشكلٍ عام، إلا في بضع حالات استثنائية.
      ومعنى الذريعة في لسان العرب: الوسيلة، وفي المصطلح، هي الوسيلة إلى الحرام بالتحديد. ومآل الدنيا وعملها يدور في تحصيل "عاقبة محمودة يُعمل لها، وغائلة مذمومة يُتجنب ما يُصل اليها"(1) . وسد الذريعة يتعلق بالشق الثاني من هذه الجملة النافعة.
      والحديث في سد الذريعة محله العقل والنقل، فهو مدعوم بالعقل من حيث أن المرء السويّ، صاحب العقل المستقيم، ينأى بنفسه عن فعل ما سيؤدي به إلى الهلاك. فأنت ترى أن من لا يُحسن السباحة لا سنزل البحر، ومن لا يُحسن القيادة لا يجلس خلف مقود سيارة. هذه من بدهيات العقل الصحيح، وهي من البدهيات العقلية في قواعد النظر والاستدلال. ثم تجده كذلك مدعوم من الشرع، إذ يحرم النظر إلى الأجنبية لقطع الطريق على الغواية، وحفر البئر في الأرض المملوكة إن كان منها ما هو طريق للعامة، ومنع الربا والعقدان في عقد واحد وتلقى الركبان لقطق طريق الاستغلال المادي للآخرين. ومن هذا المعني يأتي حديث عائشة رضي الله عنها، الذي رواه البخاري قالت "إن كان رسول الله ﷺ ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يًعمل به الناس فيُفرض عليهم". فالعقل الصريح والشرع الصحيح يلتقيان في تقرير هذا الأمر، كما يلتقيان في كل أمرٍ آخر.
      وينقسم التحريم، من هذا الباب إلى نوعين، تحريم مقاصد، وهو ما جاء النصّ بتحريمه لذاته ابتداءً، لما يحمل من مفاسد تربو على أيّ مصالح قد تواكبه. ومن ذلك تحريم الخمر والزنا والربا ولحم الخنزير وعقوق الوالدين وهلم جرا مما هو من المحرم لذاته. والقسم الأخر هو تحريم الوسائل، سواء ورد بالنص أو اجتهاداً، من حيث يؤدي إلى محرم لذاته، ومثال ذلك تحريم القبلة، والنظرة واللمسة، والتبسط مع أهل البدع وهلم جرا، وهو يسمى محرم لغيره.
      وقد جاءت الشريعة، من باب التيسير، بالمناطات التي يحلّ فيها كلّ محرم، أو على الأصح يرفع عنه الجناح. فالمحرمات لذاتها، أي تحريم المقاصد، لا تحلّ إلا لضرورة. والضرورة التي يعنيها الشرع غير الضرورة التي اصطلح عليها الناس لغة وعرفاً. فالضرورة الشرعية هي ما يؤدي إلى القضاء على الحياة، أو فقد عضو من أعضاء الجسد، أو ابن من الأبناء أو جميع ما يملك المرء. وللضرورة شكلان، إما أن تكون بفعلِ قاصدٍ بشريّ، أو بفعل كونيّ قدريّ. وأكبر أشكال الفعل البشريّ هو الإكراه، ملجئا أو غير ملجئ (ارجع إلى بحثنا رقم 57 من مجموعة المائة بحث بعنوان "الضرورة والإكراه في الشريعة الإسلامية http://tariq-abdelhaleem.net/new/Artical-73198 . أمّا الفعل القدري الكونيّ، فمثل أن يخرج رجلاً عارياً من بيته، هارباً من حريق هائل، فهذا مكره على الخروج عارياً. أو أن يأكل الخنزير ويشرب الخمر في صحراء التيه، وهذه الأمور لا جدال فيها.
      ثم الحاجة، وهي ما يمكن التعايش دونها، لكن بمشقة تأباها الشريعة الميسرة. ومن ذلك حلّ النظر للأجنبية إن تطلبت العلاج عند طبيب مختص لا بديل له، أو الذهاب للسوق لغرض اكتراء مستلزمات العيش من طعام وخلافه دون تباطئ، لا لغرض النزهة. والقاعدة هنا أن "ما حُرّم لذاته تحريم مقاصد، حَلَّ لضرورة، وما حُرّم لغيره تحريم وسائل حَلَّ لحاجة" وهي قاعدة أصولية في غاية الأهمية لطالب العلم وللفقيه المتصدي للنوازل. ومن المفيد لطالب العلم أن يعلم أن درجات تحريم الوسائل تختلف باختلاف درجة تحريم المفسدة الأصلية. فالذنوب كبائر وصغائر كما هو معلوم عند أهل السنة. وهذا الأمر ينبني عليه الترجيح بين المحرمات فيما استجد منها، وسيلة، كما يُرجّح بينها، مقصداً. وهو موضع زلت فيه أقدام الصغار ولم يدركه أهل البدع من الصغار والكبار.
      فائدة: ما هي العلاقة بين دليل سدّ الذرائع وبين دليل المصلحة المرسلة؟ والحق أن دليل المصلحة المرسلة، رغم أنه يظهر تعلقه بالمصالح، لكنه في الأساس ينطبق على جلب المصالح ودرأ المفاسد، ومن هنا نرى الصلة بينه وبين سد الذرائع. فيمكن القول أن دليل المصلحة أعم من دليل سد الذرائع، ودليل سد الذرائع خاص من المصلحة ولون منه.فسد الذرائع ينشأ عنه درأ مفسدة باللزوم. لكن درأ المفاسد قد يكن باجتنابها بالتحريم أو بالندب أو حتى بتحملها لتجنب ما هو أفسد منها. وهذ اعتبار يجب أن يكون الفقيه على بينة منه حين يسوق دليله على المسألة.
      وكما ذكرنا، فإن كثيراً من الأحكام القرآنية والنبوية قد بُنيت على هذا الدليل العظيم. ومن هنا استخدمه الفقهاء في استنباط أحكام متجددة للوقائع المتجددة. فتطبيقات هذا المبدأ العظيم لا تكاد تُحصى في الشريعة، من حيث إنها تسير مع كل ما يجدّ في حياة الناس من مستجدات. فمن المناطات (أو الأحداث) المستجدة مثلا، الذهاب إلى الأندية العامة للتنزه أو التريض، أو إلى الأماكن السياحية العامة في مختلف البلدان في الشاليهات ومراكز السياحة، في البلدان الأوروبية أو امريكا الشمالية وكونا وما إلى ذلك، والجلوس على الشاطئ، وإدعاء غض البصر! فإن هذا يحرم بشكل قاطع لسد ذريعة ما يُنتهك من الشريعة بالنظر إلى محرمات لا حصر لها، من الممكن تجنبها بغير ذلك.
      ومنها الانتماء إلى القوات الحربية للدول المحاربة للإسلام، وهذا مُحرّم من بابين، الولاء، سد ذريعة قتال المسلم إن وقع هذا الأمر. ولا علينا من بعض فقهاء المرجئة، والإخوان منهم، ممن أحل مرافقة الجندي المسلم للقوات التي تقاتل في أفغانستان! إذ هو ذريعة لقتل المسلمين بلا جدال، خيّب الله من قال بهذا.
      ومنها تعدد قادة الفصائل والجماعات مما هو ذريعة إضعافها كلها، وقد رأينا بأعيننا نتيجة عدم إدراك تحريم ذلك في نتائج الثورة السورية وتفتيتها. فما فعله هؤلاء القادة، غير ولائهم وطاعتهم للدول (الراعية الضامنة المعتدية!) هو حرام شرعاً ومرفوض عقلاً.
      ومنها قبول العمل في وظائف معينة مشبوهة الغرض مثل مراكز (الأبحاث) التي امتلأ بها شرقنا بتمويل أجنبيّ، فإن تلك المراكز تسعى لتضليل المسلمين وتشويه تاريخهم، ونقض ثوابت دينهم. فالعمل فيها يحرم سدا لذريعة المشاركة في عداء الدين. ومنها الزواج من امرأة سافرة، أعلنت عدم نيتها لارتداء الحجاب بحال من الأحوال، فيحرم زواجها لسد ذريعة الولاية على فاسقة.
      ومنها الجلوس على طاولة مفاوضات مع عدو دون أن يكون هناك مع المسلم ما يُفاوض به ويضمن له حقوقه، سدّاً لذريعة الرضوخ للأمر الواقع والتخلي عن المبدأ.
      ومنها تحريم الاختلاط، ولو بحجة أي مؤتمر أو نشاط إسلامي، مهما كان، سدّاً لذريعة التواصل المُحرّم. وهو ما نرى غالب "الإسلاميين" لا يحسبون له حساباً، فكم من إثم وقع، حملوه على ظهورهم وهم لا يعلمون.
      ومن هنا نّدرك سعة التطبيقات الفقهية التي يمكن أن تُستنبط من اعتبار هذا الدليل الشرعيّ في حياتنا المعاصرة.
      والله وليّ التوفيق
      د طارق عبد الحليم 9 ذو الحجة 1439 20 أغسطس 2018

      هامش

      الفنون لابن عقيل ص 7