فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      استبدال الأجيال .. بين الحقيقة والخيال

       

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ﷺ وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد

      دعنا نتصور أن جيل أهل العلم من أصحاب السبق في الدعوة والنتاج العلميّ، اقتنعوا بفكرة ضرورة أن يعتزلوا الساحة والفتيا، وأن يركنوا إلى بيوتهم، يعبدون الله وينتظرون الموت. ثم دعنا نتصور جيلاً جديداً من الجيل الماثل أمامنا اليوم، يتقدم للقيادة العلمية والفكرية، للساحة الجهادية، وللساحة الاجتماعية الحاضنة على حدٍ سواء. فالسؤال الآن هو: ما الشريحة العمرية المتصورة لهذا الجيل القائد للشباب؟ دعنا نتصور الشباب حتى عمر الثلاثين، ونتصور المشايخ هم من جاوزوا الخمسين، ومنهم صاحب تصور الجيل القائد الجديد نفسه، فيكون عمر تلك الطبقة القائدة بين الثلاثين والخمسين، أي بين مواليد 1968 و 1988. ثم دعنا نتصور أن الفترة التي يتعدى فيها الإنسان مرحلة الصبا ويبدأ مرحلة القدرة على الدرس النظر والإستيعاب تبدأ في عمر الثامنة عشر، وهو تقدير سخيّ لمن عرف أبناء هذا الجيل. فتكون مرحلة النضج والاستيعاب والتحصيل والاستنباط والخبرة لهذا الجيل القائد تقع بين 1990، و 2010، أي بين 8 إلى 28 عاما لمرحلة النضج والقراءة والاستيعاب والتحصيل والاستنباط والخبرة! هذا وحده يبيّن سُخف افتراض عمر الثلاثين ابتداءاُ. من حيث أنه يفترض نضج المرء وتكوين عقله الواعي المفكّر المنتج، الذي مرّ بتجارب مسبقة حتى لا يكون شباب هذا الجيل معمل تجارب ومصدر تكوين خبرة له، يفترض هذه الفترة 8 سنوات! ... وهيهات هيهات. في ثمان سنوات!! الأمثل هو أن تأخذ هذه المرحلة، ما لا يقل عن عشرين عاماً، خاصة لمن وُلد في الثمانينيات، بعد مرور كافة الأحداث الجسام في تاريخ أمتنا الحديث. هذا يدعنا نحدد عمر الجيل الناشئ القائد الجديد بين الأربعين والخمسين. هذا بشكل عام كليّ يحتاج إلى أن يطبّق مناطه على كلّ فردٍ على حدة، متى بدأ الدراسة الشرعية والتحصيل؟ ما مراحل نضوجه فيها؟ ماذا أنتج فيها مما يراه أصحاب العلم "المتقاعدين" جديراً بالاعتبار؟ ما الأحداث التي مرّت بحياته فأكسبته خبرة التعامل مع الناس والأفكار؟

       ولنضرب مثلاً حياً أو مثلين هنا لتظهر الفكرة واضحة، إذ أعتبر أن مسألة تسليم جيل "قديم" زمام المبادرة والفتوى والقيادة أمر لا يجب أن يستهين به أحد، بعد أن طرحه من طرحه فجاء مجرداً عن التفصيل. نأخذ مثلا الشيخ سامي العريدي. فالدكتور العريدي من مواليد 1973، أي هو في الخامسة والأربعين من عمره. بدأ د العريدي دراسته الشرعية في حوالي الثامنة عشر عاما عند التحاقه بكلية الشريعة ثم حصوله على البكالوريوس، ثم الماجستير والدكتوراة في علم الحديث، وهو في عمر الثلاثين. وتلك الدرجات العلمية، هي في حدّ ذاتها كتب أكاديمية معتمدة من أساتذة من ذوى الخبرة العلمية البحتة، لا مشايخ طرق وجماعات. ثم أكمل الرجل مسيرته بعدها خمسة عشر عاماً في طلب العلم، وإخراج بعض أعمال أكاديمية، ثم الجهاد في الشام. فهذه سيرة رجل، يمكن أن يكون مثالاً لما قصدنا في توضيحنا السابق على المرحلة العمرية اللازمة للنضج، واستخدامها وتخصصها، لتصبح مؤهلة أن تكون من القيادات الجديدة. وشبيه به، عن بُعد د مظهر الويس، الذي هو ابن ثمانية وثلاثين عاما، لكن الاستعداد الكامن فيه واضحٌ، وإن كان الطريق العلمي الأكاديمي أمامه طويل بعد.

      ومثال آخر من المقارنة بين أيمن هاروش الحاصل على دكتوراه في الأصول، وهو لا يعدو قزما رأيا وكتابة وتحليلا، لا يصلح لقيادة سيارة في عمره اليوم، وبين أبي قتادة الفلسطيني، صاحب الماجستير في الأصول لكنه صاحب قلم بارع وفكر ناضج ونتاج مفيد، نتيجة الخبرة والعمر (رغم الآراء الأخيرة الخارجة عن نطاق الفكر والخبرة)، فكيف يُجمع بينهما، أو يقال باعتزال الفلسطيني وقيادة هاروش!!؟

      ثم هناك من هم في نفس الشريحة العمرية الأربعينية، وإن تفوقوا أكاديمياً، من خارج دائرة الساحة الجهادية، مما يجعل أثرهم الأكاديمي أفضل في التلقي والبناء عليه، ولا يجعل لآرائهم في الساحة الجهادية أثر يُذكر إلا عند من تختلط عليه أشكال الدعاة[1].

      ثم نرى في المقابل ممن بلغوا الأربعين، أو كادوا، منهم من لم يُحصّل أيّ علم شرعيّ على الإطلاق، إلا مهاتفة بعض الشيوخ ونقل الأخبار من هنا وهناك، دون حضور دورة علمية متكاملة، ومنهم من انحصر علمه وتجربته في "عن أبي رحمه الله قال ..."، ومنهم من دوّن بحثاً أو اثنين، معتمدا على الشيوخ "القدامي" توجيها وإرشاداً، لا تؤهله للتقدم للتسجيل في برنامج ماجستير! ومنهم من تابع مقالات أصحاب العلم وتقفى أثرهم، دون تحصيل صحيح، ثم أسبغ على نفسه ألقابا أشهرها "باحث في الحركات الإسلامية"! ولا أدرى بعد إلى أي علم ينتمى هذا الفرع، تاريخ، أو حديث، أو تفسير، أو أصول!

      وهذه النماذج، التي تُمثل%99.9 من المتقدمين لمناصب القيادة المنفتحة على مصراعيها لأبناء الأمة، تحت شهار "جهاد الأمة"، وإن دخلت في شريحة عمرية مناسبة، إلا أنها وضعت نفسها، بإهمال طلب العلم والتقصير فيه وانعدام البحث أو ندرته، الذي يُدرّب العقل على مناهج النظر والاستدلال، في موضع الطفيلي المتسلق، المتشبع بما لم يُعط.

      من هنا ندرك أن مسألة صدور قرارٍ من شيخ ما، في بلد ما، في وقت ما، بأنه آن أوان استبدال الأجيال..." هو أمر شاذٌ عجيب، فإن الشخصيات القيادية الأكاديمية، لا تُستجلب غصباً من الساحة بقول أحدهم "آن الأوان ...." فهذه ورب الكعبة مضحكة لا مثيل لها. بل هذه القيادات تفرض نفسها على القائمين على التوجيه والإرشاد، كلما خبا منهم عَلمٌ استبدله الله بغيره، ويبقى الشيخ شيخا والطالب طالبا، فيما بينهما.

      د طارق عبد الحليم  30 مارس 2018 – 14 رجب 1439


      [1]  راجع مقالنا "مناهج الخائضين في مدارج الاستبدال والتمكين" http://tariq-abdelhaleem.net/new/Artical-73212