فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      إنصاف الأنصاف فيما بين المقدسي والفلسطيني من خلاف

       

      الحمد لله والصلاة والسلام والسلام على رسول الله ﷺ وعلى أهله وصحبه ومن والاه

      سبحان مبدل الأحوال، ومقلب القلوب من حال إلى حال.

      لم يخطر ببالي يوما أن أكتب سطراً لأرفع خلافا بين شيخين، عرفتهما الساحة ردحا طويلا، أخوين متقاربين متساندين، لكن الواقع أمرّ من أن يُقِرَ تلاقيا تاما إلا فيما ندر.

      وكما هو معروف عن شخصي الضعيف، لا أنتظر إذنا من أحد في أن أبدي رأيا شرعيا، مناصرة لحق أو إزهاقا لباطل، فالأمر بذلك قد ورد من الله سبحانه فقطع كل عذر "لتبيننه للناس ولا تكتمونه" فالقادر الفاهم ليس له عذر في السكوت ولو تمحل ألف عذر وعذر.

      ولن ألتفت إلى حواشي الطفيليات السابحة حول جدل الشيخين، فإن أولئك نبتة شيطانية، تُعد نفسها لتولى دور الرؤوس الجهلاء في حديث رسول الله ﷺ "حتى إذا ذهب العلماء اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسألوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا". فندع هؤلاء يعدون أنفسهم لتلك الرئاسة، فالأجيال التي تذهب لا يأتي مثلها ولا نصيفها.

      لكن أتحدث عن الشيخين أبي محمد المقدسي وأبي قتادة الفلسطيني، على وجه التحديد، وفي مسألة الغلو والتكفير والتمييع، التي أثارها غبار فتوى المبهت الغرياني الأخيرة، فكشفت مخبوءات بلا جدال.

      ولن أطيل بمقدمات لا داع لها إذ هي من بدهيات الأمور، كتقرير إننا من أهل الوسط الأعدل، لا نميل مع المائلين، لأي سبب كان، نفسيا أو اجتماعيا أو غير ذلك، ثم إننا لا نُقر غلواً ولا نرضى بتمييع وشبه إرجاء، أيا كان القائل بهما، بلا استثناء.

      وقد رأيت أن أضع نصب عيني مقالتي الشيخين، اللذين أعتبرهما كليهما إخوة أصغر سناً مع حفظ مكانتهما. وهما مقالتي "أنصاف الغلاة" لأبي قتادة، ومقال "ولنا كلمة هادئة" للمقدسي.

      هناك نقاط أود أن أمسها بما يبين مواضع الصحة من مواضع الخلل في عرضها، وهي تخص المفاهيم العامة، كما تخص الأفراد الذين يتصدرون الناس في هذه النوازل.

      أمّا عن الشيخ المقدسي، فيعلم القاصي والداني موقفي من فتواه في أمر الخوارج الحرورية، وعدم تقديمه لدليل شرعي واحد، إلى يومنا هذا، وهو أمر أحزنني وأزعجني كثيراً، وما ترددت يوما في أن أصرح بأثره السيئ على الساحة الشامية، لكن أمر الخوارج قد انتهى والحمد لله، أو كاد، وأصبحوا رأس حربة للنظام في مكان واحد وهو جنوب حلب، وإن شاء الله ستستأصل شأفتهم قريبا. وغير ذلك، فما تحدثت به عن المقدسي لم يكن إلا غيرة على دين الله، وحرصا على ألا يتبعه الشباب في هذا الأمر بالذات، لا بعامة.

      وأما عن الشيخ أبي قتادة، فلم أجد خلافا معه، من قبل، إلا في أمر فرعي وهي فتواه الغريبة في اعتبار مقتل الحروري على يد كافر يجعله شهيداً! وقد ناقشت ذلك وقتها بالدليل الشرعي. وقد والله ذُهلت مما كتب، مؤخرا، ومن موقفه من الطفيليين، ورفضه البات الوقوف في وجه تسلقهم، تماما كما رفض المقدسي من قبل الرجوع عن قوله في الحرورية! فأعدت النظر في بعض كتاباته القديمة، ورأيت تناقضاً عجيباً ما كنت أحسب أن الشيخ يقع فيه بهذه الدرجة الواضحة[1]. والحق إنني وجدت عبارات وتقريرات تنبئ عن غرور بالنفس ورفع لقيمة الذات بشكل غير مسبوق فيما أعلم، لعل الشيخ جرى بها قلمه في غيبة عن تواضعه وحياده.

      فحين يدّعى المرء إنه لم يغير رأيا ارتآه في عمره كله ولا يزال يتمسك بكل كلمة قالها وينافح عنها ويأتي بدليل صحتها، فهذا أمر لا يصدقه عاقل، بله عالم. فإنه من صفاتنا البشرية المحضة "التطور"[2]. وهو عام جسديا وعقليا، لا يتوقف، فمسيرة الشباب تصل لمداها ثم يبدأ منحدر الكهولة والشيخوخة " ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا"الحج5. والتطور الفكري أشدّ وأحدّ. إذ يرتبط بالنضج الفكري واتساع دائرة المعرفة ومساحة التجربة مواجهة مواقف ومناطات جديدة على مدى العمر. فمن ادعى أنه لم يغير قولا قط قاله من قبل، فهذا فيه وصف لنفسه بالبقاء على طفولته الفكرية، دون استفادة باطلاع أو تجربة، أو بأنه وُلد متكلما كعيسى، وعالما كمن عنده علم من الكناب، فلم يظهر له أمر خفي عنه قبلاً ليغير من فتوى قالها. وكفى بهذا الإدعاء عيبا مزرياً. وأنا أعرف عن نفسي آراء رأيتها من قبل، تعدلت وتبدلت نتيجة ظهور عوامل كانت خافية عليّ ونقاط شرعية توصلت لفهمها في مرحلة ما من عمرى، إذ لا أزعم إني أتلقى وحيا، ولا أنطق في كل وقت إلا حقا. إنما أتحدث بما أراه حقا اليوم بدليله، إلا أن يأتي الخصم المعتبر بما يدل على غيره بدليل معتبر.

      ثم إني رأيت أقوالا نشرها الشيخ منذ سنوات، كان فيها في غاية الحدة على مخالفيه، أو على أصحاب الفساد العقدي، كما في مجلة الأنصار، كان فيها أكثر تشددا "ولا أقول غلوا" من المقدسي! كقوله "والجماعات اليوم والتنظيمات إنما ننصرها ونؤيدها بمقدار فهمها لدين الله تعالى ومتابعوا السنة النبوية واقتفاء طريق السلف الصالح، ونثرب عليها ونعيب عليها بمقدار ما نراه فيها من الشر والبدعة". وهو كلام طيب في حدود الشرع الحنيف. إلا إنه يناقض ما عليه مذهب الشيخ اليوم الذي سنتحدث عنه لاحقاً وأسماه "جهاد الأمة"، والذي سبقه بنشره الشيخ الحبيب عبد المجيد الشاذلي منذ عام 1975 في دعوته التي أسماها "إحياء الأمة"، إن فهمنا من الإحياء طريقا للجهاد، أو أن الجهاد لا يقوم إلا بالإحياء.

      ثم قوله في أحد مقالاته

      "إن الجماعة التي تطلب من أفرادها حمل السلاح، ثم تحمّل نتائج هذا المشروع، ولم تقنع أفرادها، أو لم تتبنى هي أن الخصم الذي تقاتله هو كافرٌ، وأن المشروع سينتهي بأحد أمرين، تقاتلوهم أو يسلمون – كما قال تعالى في سورة الفتح، هي جماعة ستقنع في النهاية بأنصاف الحلول ثم الجلوس على موائد المفاوضات الرذيلة، وحينها تحصل الهزيمة. والمسألة ليست مصالح لتحقيق النصر بقدر ما هي أوامر إلهية – شرعية وقدرية – لابد من فهمها والاعتقاد بها"اهـ . وهي جزء من مقال عنونه "فتوى خطيرة عظيمة الشأن". اهـ

      ولأبي قتادة أن يغير رأيه ما يشاء، فليس في هذا عيب، وله أن يبدل قوله ونظره في أوصاف الجماعة التي ينتصر بها الحق، فهو بشر من البشر، لكن أن يدّعى أنه لا يغيّر ولا يبدّل في رأي أو كلمة قالها، فهذا أمر ليس له على الإطلاق، فقد بدّل وتبدل، وغيّر وتغيّر، بلا أدنى شك. كما أن هذا يستدعى أن ننكر ما جاء في بعض مقاله المقصود من إعتبار حكمته الرشيدة التي لم تتبدل، وصغر شأن من يخالفونه وطفوليتهم، قال:

      "وأنتم لا تعرفون من طريق السلف شيئا، فقد بلينا بكم، وبطفولتكم، وبإفسادكم معركة الإسلام ضد الكفر والردة والزندقة. قلنا ألف مرة: الباطل باطل، والغلط غلط، والبدعة بدعة، لا يقوى أحد من أهل الأرض على منع تعليم الناس دينهم، لكن التخفي تحت باب إظهار الحق في قوم لا يعرفون تنزيل الأحكام، وفي وقت ظهر أن الصغار يأخذون الكلمات فيضعونها في فوهة بندقية قتل الناس المسلمين وتكفيرهم، وأنتم في عجز عن لجم فسادهم من القتل والتكفير يوجب عليكم أن تنشروا علم حب المسلمين ، ونصرتهم مع بدعتهم على أعداء المسلمين ، ويوجب عليكم كتم فساد هؤلاء الناس وبدعتهم وعدم التشهير بها لئلا تكون كلماتكم مريحة لضمائر المجرمين أنكم على دينهم، ولكن اختلفتم في التنزيل. من العلم وسياسته كتم العلم حين يصبح العلم فساداً في أيدي الفاسدين والمجرمين" اهـ

      وهذا كلام خطير، ينقلب عليه في دعواه ويجعل حجة خصمه سهلة المتناول إذ جاءت من كلامه هو، لا تحليل غيره! ونسأل أكان مخالفوه أطفالاً في خلافهم معه اليوم، أم اتفاقهم معه بالأمس؟!

      أما عن مقال المقدسي، فكما قلت قبلا، لم أر فيه شبهة غلو، ولو رأيت لما ترددت في الإفصاح عنها، كما أفصحت في موضوع الحرورية، لكنه لم يتعد الحق قيد شعرة.

      ومن ثم رأيت الحاجة إلى أن أناقش المسألة ببعض توسعٍ، رغم إني رأيت عدداً من الشباب تولى جانباً منها بصدق وعلم، يليق بطلاب العلم الحق.

      1. والغلو، في كلا طرفيه هو تجاوز الحدّ الشرعي أو العقلي في تطبيق مفهوم ما. وفي الشرع، يقف الغلو من ناحية الإفراط على حدود أعلى مشارف السنة تطبيقاً بالالتزام التام الكامل بالأمر الشرعي دون مجال لتيسير، وهي بعض حالات عدد من العلماء كحال ابن حنبل في موضوع خلق القرآن، أو سيد قطب في وقفته أمام طاغية عصرنا عبد الناصر، وهم من المتبوعين، ويمتد بطيف إلى أن يدخل في حدود الكفر، كما نعلم ممن يدعو الله عند القبور، إلى من يغلو فيمن يراه صالحا ككفر الروافض وبعض أرباب الأحوال. ثم الغلو في التفريط يبدأ من حدود السنة في اختيار أيسر الأمور في طيف يصل إلى تحليل ما حرّم الله من مفاسد ومشاركات المنظمات الكفرية والهيئات البرلمانية الحاكمة بغير ما أنزل الله، فيصل إلى الكفر. وهكذا نرى صدق الكلية التي وصل اليها الشيخ أبي قتادة، من أن الإفراط والتفريط يلتقيان، في هدم الإسلام، وكأنهما يتبعان النظرية الفيزيقية الشهيرة "تحدّب الكون"! ثم بدأ الخروج عن مستلزمات هذا الفهم بعد.
      1. والمشكلة هنا هي في نقط التماس بين أعلى مراتب السنة في كلا الطرفين، وبين أول ما يأتي منه الخلل في الخروج عن السنة. وتحديد تلك الشريحة هي مدار الخلاف ومحط الاجتهاد فيما نرى.  ومثال على ذلك كلية "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر". فإنه من المستحيل التفرقة بين الأمرين، إذ أي أمر بمعروف هو نهي عن منكر، والعكس بالعكس. ومن فرق بينهما فقد شطّ وغلط. ولكنك ترى أن البعض يختار من الأمر بالمعروف ما يجوزه في شكله الإيجابي، وينكره في شكله السلبي، أي لا يسمح بالنهي عن المنكر الذي هو ضده بالتمام! وفي هذا ما فيه من نفاق وهوى، وإن تذرع بمصلحة، تدحضها القواعد الثابتة شرعا وعقلاً، بل والنصوص الأمرة بهما معا مما يرفع شبهة المصلحة المتوهمة فيها. وقد جعل الله تعالى صفة علو أمتنا هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر "كنتم خير أمة أخرجت للناس" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لتأمُرنّ بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليوشكن الله عز وجل أن يبعث عليكم عذابا من عنده ثم تدعونه فلا يستجاب لكم" حسنه الترمذي، ولا تخفى هنا لام الجزم ودلالتها. وكثير جدا من النصوص العامة والخاصة.
      1. إعلاء الحق وإزهاق الباطل يأتي على أشكال ثلاثة في الشريعة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة، والجهاد. ولكلٍ حدود وضوابط تختلط في أذهان الكثير، وتضطرب مستلزماتها، وذلك لتقصير العلماء في بيانها. ولعلنا نفرد ذلك ببحث، من حيث إننا هنا نشير اليه فقط لنلفت الذهن إلى تشعب المسألة من وراء أقوال عامة كلية، إذ يجب أن نحدد أين تقع مسألتنا الخلافية هنا. والأقرب أنها تقع في حدود الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
      1. المبدأ الذي اعتمده الشيخ أبو قتادة، في نسخته الأخيرة، وهو "جهاد الأمة" وترك الإنكار على مخالفي السنة والمبتدعين لتوحيد الصف ضد العلمانيين والكفار الصائلين. وهو مبدأ، بشكل عام، دون تفحص لفحواه وحدوده، جميل مؤثر، يشد انتباه الكثير من الطفيليات البشرية، يعتدون به، من حيث صدوره عن شيخ له تاريخ وإرث علميّ، وإن تبدل. لكن، إلى أي مدى هو على حقً فيما قال؟
      1. لم ينكر أحدٌ أن جهاد الأمة، هو الصورة المثالية التي تسعى كلّ الجماعات العاملة على تحقيقها، وما تعبير الحاضنة الشعبية إلا من مخرجات هذا المفهوم. وهي فكرة تقبلتها قيادات القاعدة، بعد مخاض دام عشرين عاما[3].
      2. أن تنحل الجماعات كلها، دون استثناء، وأن يُعلن عن جماعة جديدة تأخذ الزمام، أسماها الشيخ أبو قتادة "مسلمة الفتح (!)" الذين لا ندري بالضبط من هم، وسيكونوا هم أصحاب ومالكي زمام الأمة لفهمهم للواقع الجديد(!) الذي لا ندري بالضبط ما هو!

      وقد كتبت مقالا في 2017 جاء فيه"

      "لكن، صارت الوسيلة هي الهدف، وصار ضم الأعضاء للجماعة، والولاء لأفكارها هو الهدف الأصليّ، واختلط فكر القائمين عليها بما هو من مسلمات الشريعة، فكان أن عاقبها الله سبحانه بالفشل والحسرة والانقراض في بعض الأحيان، كما حدث لحرورية شكري مصطفي، ثم الزوابري ثم البغدادي، وما هو شكل من أشكال الاستئصال لجماعة الإخوان المسلمين، وتحول بعضها إلى أحزاب علمانية فاشلة بحتة لا علاقة لها بالإسلام أصلا كحركة النهضة في تونس.

      صار الانتماء والولاء مقدّم على الدين والعلم والكفاءة، من حيث صارت الجماعة هي الهدف، لا إقامة الدين. ومن ثم، فقد الاجتماع غرضه ومصلحته، بل أصبح ضرّه أكبر من نفعه، من حيث أصبحت الجماعة، منفردة عن المجتمع، نائية عنه، بل ومستعلية عليه. ولم يصبح همّها نشر الدين للخارج، بل جذب الناس للداخل، بدين أو بغيره، طالما الولاء متحقق. وذلك متحقق في غاية الوضوح في طرفي منظومة الجماعات الإسلامية القائمة، في الإخوان قمة الإرجاء، وفي العوادية قمة الحرورية. فتراهما مشتركتين في

      1.     تقديم الولاء على الكفاءة والدين

      2.     الجهل المدقع بالشريعة

      3.     التحزب للجماعة، كأنها الدين، بل أهم.

      مما ذكرنا، يتضح أنّ تجربة تكوين جماعات إسلامية بشكل عام، لم تنجح في تقريب الأمة للإسلام، بل على العكس، ساهمت في تفريقها وتفتيتها.

      لابد إذن من أن ينظر علماء الأمة الربانيون، في وسيلة جديدة، تضمن القدرة على تحويل عقيدة الأمة إلى الصواب، وجمع كلمتها في منظومة إجتماعية لا جماعية، تأخذ في اعتبارها الأخطاء الجسيمة التي حدثت في الماضي، وتراعي ظروف الحاضر ومعطياته."21 يولية 2017 – 27 شوال 1438"[4] اهـ

      ففكرة إيجاد منظومة جديدة للعمل، ليست من مخترعات أبي قتادة، لكن أن تؤخذ عامة شاملة، لا تستثني أحداً، فإن في هذا إجحاف بفكر ومنهج وتجربة ما يقارب القرن. بل الواجب هو  أن تتم غربلة القائم على أساس عقديّ صحيح، إذ الأفكار لا تقوم بنفسها، بل بأشخاص يتولون إذاعتها وترويجها .. كلّ ما في الأمر أنّ أبا قتادة استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير. استبدل الصغار عديمي التجربة، بالعلماء الراسخين من أهل الخبرة، لأنه قدّر إنهم يفهمون الواقع أكثر منهم! وهذا يبرر ما نرى من تهريج قائم على نظريته تلك من تطاول الطفيليات التي نشأت في أحضان هذا الفكر، وتعدت حدودها وتسلقت وسبّت ولَعَنت .. مستندة إلى إنهم هم قيادات "مسلمة الفتح"!

      ألم يتخذ الأغيلمة الطفيليون كلام أبي قتادة، فوضعوه في فوهة بندقية قلمية يُسقطون كل من خالف بهتانهم وباطلهم؟ ألم يتخذ قادة الهيئة كلام أبي قتادة لإعتقال العريدي وصحبه وإيجاد ذلك الشق في الصف باسم وهم "الأمة" التي حصرها في إدلب؟ ألم يتخذ الأغيلمة الطفيليون كلام أبي قتادة في غمز ولمز الحكيم، وجرّأ هؤلاء العاطلين عن العلم والفهم والضمير على من نافح وكافح وضحى على مرّ نصف قرن؟ ألم يرفع أبي قتادة فسيل سفيه صرصوريّ حتى وضع نفسه في صف من لا يبلغ عشر معشار حذاء تلامذتهم، وهي حقيقة نقسم عليها ويشهد عليها من عرف هؤلاء السفهاء؟ ألم يفتح كلام أبي قتادة الباب لسجن المصلحة وقتل المصلحة؟ "أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب"؟

      1. ثم ألم يدرك الشيخ أبو قتادة إنه يروج لنفس النتيجة التي يخشى من أن يتسبب فيها أنصاف الغلاة أو من يمدهم بالشر؟ إن استغلال الكلام عن فسق الفاسق وبدعة المبتدع وكفر الكافر، يمكن أن يكون مادة للشر "للتكفير كما قصد"، في أي يدٍ كانت، كذلك الدعوة لتحسين شكل الفاسق أو المبتدع أو الكافر حقيقة "المسلم إسما"، وتركه يرتع ويمرح دون بيان حاله للناس، سيكون معول هدم ومصدر بلاء في غرس مبادئ الفسق والبدع والكفر، سواءً بسواء. لكن بفرق هام وكبير، أن الثاني خالف بترك واجب حتمٍ وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

      وواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكشف عوار الباطل هو واجب كفائي مضروب على الأمة كلها، وعلى كلّ محلة للمسلمين  فيها حضور اجتماعي. فلو لم يقم به أحدهم أثِم الكلّ بإطلاق. والأمر بمعروف موجَبٌ، بينما السكوت سالب، لذلك قال صلى الله عليه وسلم "فليقل خيرا أو ليصمت" فالصمت هو خيار العاجز.

      بأي وجه شرعيّ يسكت العارف بالفاسق أو المبتدع، عن ضرر حاصل أمامه، ولا يوجد ضرر أكبر ولا مساوٍ، وحالٍ، يجوّز السكوت عنه، إلا أوهاماً في عقل شيخ يغيّر ويبدّل، تجمّل له منهجا يعالج حالة نفسية قديمة، صاحبته منذ أيام تخريبه للعمل في الجزائر، فهو بشر كالبشر، إلا إن ادعى غير ذلك. وما جهاد الأمة هذا الذي يتشدق به، ويعيد فيه ويزيد، كأنه جاء بمنهج لم يكن هو أصلاً هو منهج حسن البنا، الذي هو العَلَم حسن البنا، لا الشيخ فلان ولا علان، فكان أن تحولت الإخوان، بمنهج جهاد الأمة إلى مستشفى كبير يدخله كل متردية ونطيحة، عقديا وسياسيا وحركيا، فخربوا الأمة، بدلا من إصلاحها. وهو تمام ما يراه الشيخ اليوم، مع الأسف.

      وليقل لنا الشيخ أبو قتادة، ماذا يختلف منهجه عن الإخوان؟ ألا يسع جهاد الأمة الإخوان كذلك؟ وماذا عن السروريين، والصوفية، ومدرسة الجابري وعلواني وعمارة والترابيّ؟ وماذا عن مفتى المهلكة عبد اللطيف آل الشيخ ومدرسته؟ وماذا عن منتمي حزب النهضة؟ أليسوا من الأمة؟ أم يعتبرهم أبو قتادة كفرة فيُجوّز نقدهم وإظهار عوارهم. يلزم الشيخ واحد من القولين، إما هم كفار فيمكن نقدهم، أو هم أقل من ذلك، فيجب السكوت عنهم وتركهم ينفثون السموم من حيث إنهم من "الأمة؟، فاختر لنفسك يا أبا قتادة.

      1. ثم، على وجه خاص، موضوع الغرياني، أي أمة تلك، يا شيخ أبا قتادة، التي تريد في جسدها مُقدّم يدعو لقبول التحالفات الغربية واعتماد الأمم المتحدة كمرجعية، ويقبل بالبرلمانية العلمانية ويدعى أنه يريد حكم الشرع؟ بل ويصل به الحدّ للحطّ من قدر التوحيد بأن يسطر إنه سدس القرآن، في سياق واضح، وأن البخاري وضع كتاب التوحيد في آخر كتابه دلالة على عدم أهميته[5]! أخزاه الله وأعماه.
      1. ثم أين وجد الشيخ أبو قتادة أن أحداً كفّر الغرياني؟ لم أكفره في مقالي، ولا كفره المقدسي، فماذا علينا لو كفره من لا علم له، دون أن يتابع عالماً بدليله؟
      1. كيف يحلل أبو قتادة السكوت على أهل الفسق والبدعة، بل ومن هم يقعون في كفر بالدليل الشرعي الذي ليس له دافع، ويتركهم في جسد أمة يزعم إنه يريد بناءها "بمسلمة الفتح"!! مثل حلاق الصحة يوصى بترك أورام المريض التي تضعف كيانه الداخلي، بزعم أنه إن أزالها نقصت الكتلة الحجمية للمريض ومن ثم أضعف مناعتها!! حلاق صحة، ومشايخ صحة... فماذا نقول؟
      1. ثم شكلاً فقط، أسأل الشيخ أبا قتادة، قال "وتجربة الغلاة من أتباع دولة البغدادي شاهدة على هذا"، فهل غيرت توصيفك لهم ، ووافقت الشيخ المقدسي على إنهم غلاة، وأقنعك الشيخ المقدسي بذلك؟ نريد تفسيرا للكلمة إذ لا يُستغنى عن كلمة الحرورية أو الخوارج بكلمة مبهمة مشتركة ككلمة غلاة، دار حولها نزاع خطير، بل وأصل الخلاف مع الشيخ المقدسي حول تلك النقطة؟ هل لم يعودوا كلاب أهل النار؟ أم أين ضبط المصطلح خاصة في وقت يُحاسب فيه المرء على كلّ كلمة؟

      الخلاصة، إنني أدعو الشيخ أبا قتادة للرجوع عن هذا المنهج، وإدراك أنه يعمل على إضعاف الأمة من حيث يريد تقويتها، ويهدى لأعدائها هدية ثمينة بترك فضح الفساد والانحراف، وكأن الغرياني هو موضع "كعب أخيليس"[6] من جسد الأمة .. وكأن الهيئة هي جيش المعتصم الذي سيهزم كتائب الشر، لأنهم هم الأمة "الباقية وتتمدد".

      ولكلا الشيخين إحترامي وتقديري.

      د طارق عبد الحليم

      10 فبراير 2018 – 25 جمادي أخرى 1439


      [1] وأود أن أشير إلى إنني أعتبر كلا الشيخين أخا أصغر لي، إذ أرفع التكليف بيني وبينهما لفارق السن لا أكثر ..

      [2] Evolving

      [3]  راجع مقالنا " رؤية في سياسة القاعدة في عقدها الثالث .. الثابت والمتغير" http://tariq-abdelhaleem.net/new/Artical-72854 & http://tariq-abdelhaleem.net/new/Artical-72855

      [4] ماذا علمتنا الجماعة الإسلامية في نصف قرن" http://tariq-abdelhaleem.net/new/Artical-73135 

      [5]  وقد رددت على ذلك المفتي المفتري في مقال "الغرياني وأمير الطفيليين" http://tariq-abdelhaleem.net/new/Artical-73179

      [6]  من الأساطير اليونانية التي كانت تروى أن موضع الضعف الذي قتل أخيليس هو كعبه.