فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      الثورات العربية .. والحركات الإسلامية

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ﷺ وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد

      (1)

      منذ أن اندلعت شرارة ما عرف باسم "الربيع العربي"، عام 2010، في تونس، ثم تلتها حركة 25 يناير 2011 في مصر، وبعدها الثورة السورية المسلحة عام 2013، والأفق الإسلاميّ في حالة تدهور حاد، شامل، لا يكاد يترك بقعة في الآرض التي عاش عليها المسلمون يوما إلا وطرقها بيد الخراب والدمار والاستئصال.

      والسؤال هنا، هل هناك علاقة سببية بين تلك "الثورات" وبين ما يحدث اليوم في كافة أرجاء الأرض الناطقة بالعربية؟ هل كانت تلك الثورات نذيرٌ للعالم الصليبيّ، أنّ منهج التخريب الثقافيّ وحده لن يُسعف في تلك الظروف، وأنّه لابد من استعجال الأمور بتدبير وسائط قادرة على التأثير الأسرع في القضاء على أي ملمح قد يؤدى إلى تغيير في اتجاه إسلاميّ؟ وهل نجحت تلك المساعي في تحقيق أهدافها؟

      لا شك أن عملية الغزو والتدمير الممنهج لدين الإسلام وحياة المسلمين كانت ماضية على قدم وساق منذ عصر نابليون بونابرت، حيث اتخذ هذا الجهد صور الغزو الثقافي، ثم الاحتلال العسكري الخارجي إضافة لتكثيف الغزو الثقافي، ثم الاحتلال الداخلي المتمثل في حكام مرتدين عن دينهم، تربوا في أحضان الغرب وبفكره وقيمه وكراهته للإسلام.

      لكن إبان تلك الجهود التدميرية، التي دامت أكثر من قرنين وعقدين من الزمن، ظهرت حركات إسلامية تحدت ذلك الغزو، بنجاح أو بفشل، وظلت المفاهيم الإسلامية حية بفضل الله ثم جهود عدد من عمالقة الفكر كسيد قطب ومحمد قطب وحسن البنا والمودودي ومحمود شاكر ومن بعدهم المشايخ عبد المجيد الشاذلي ورفاعي سرور وهاني السباعي وغيرهم، ثم رواد العمل الحركيّ مثل مروان حديد وصالح سرية وهاشم الرفاعي وأيمن الظواهري وأسامة بن لادن واملا عمر وغيرهم ممن هم في طبقتهم وإن لم نحصهم عددا لضيق المقام.

      وسواء كان تقييمنا لنتائج تلك الحركات سلبيا أو ايجابيا، فمما شك فيه أنها أقضّت مضاجع العدو الداخلي والخارجي، وأرهقته في محالة تتبعها وتدميرها. أما إنها وصلت لنتائجها المرجوة أم لم تصل، فالواقع يجيب عن هذا السؤال أوضح إجابة: أن لا!

      إذن، ما الذي حدث في الثورات العربية، التي هبت كريح عاصف، ثم خمدت كعاصفة في فنجان؟

      (2)

      اشتركت عدة أمور في فشل كل تلك الثورات، بل جعلتها تؤدي إلى تسريع وتوحش جهد العدو للقضاء على الإسلام – بزعمهم. من تلك الأمور:

      1. فقدان الدولة المركزية المسلمة التي هي من لوازم حفظ الدين ورعاية شؤون المسلمين
      2. هجر الدين عامة وتنحيته عن الحياة بشكل تام عام، حتى الأحوال الشخصية التي كانت تخضع لحكم الشرع في الزواج والطلاق والميراث، تعرضت لهجمة أخيرة تقصيها عن الشرع.
      3. فقدان الجيش المسلم الذي يدافع عن البيضة، بل فقدان روج الجهاد، حتى جهاد الدفع الذي هو مركوز في الفطرة الإنسانية، وتحويل كافة الجيوش التي كانت تدين بالاسلام إلى الولاء للحاكم المرتد ولحكم العلمانية وخدمة الغرب الصهيو-صليبي.
      4. السقوط الخلقي والثقافي والعلمي والحضاري الكامل، الذي تلك العوامل السابقة، وشيوع أسوأ الفواحش والموبقات، التي تعين على نشرها الحكومات العلمانية القائمة.
      5. فقد الثروات المحلية الوطنية التي سرقتها، ولا تزال، ملوك وحكام العلمانية، وأهدت أكثرها إلى الغرب، مقابل دعمهم للبقاء في السلطة.
      6. قيام تلك الثورات، باسم الوطن أو القومية، بدلا من الإسلام، ثم تحول بعضها جزئياً للنهج الإسلامي، كالثورة السورية، وانتهاج بعضها النهج العلماني/الإسلامي، كما في حالة إخوان مصر، ونهج "الحداثة" العلمانية الصرفة كحزب النهضة التونسيّ.
      7. ثم، وهو الأهم فيما نرى، البدع العقدية، والخيانات والعمالة والتواطئ والانهزامية التي سيطرت على فصائل عديدة، كداعش والأحرار وحركة الزوابري قبلهما، وكثير ممن باع دينه في سبيل دراهم معدودة ومناصب فانية.

      هذا العوامل، مجتمعة، أدّت إلى أن رأينا ما حدث بتلك الثورات، وما وصل اليه حال الشعوب المنهوبة، والآراضي المحتلة، حتى تساءل البعض: هل كانت تلك الثورات نعمة أم نقمة؟

      (3)

      والرد على هذا السؤال يتطلب تمعنا في الماضي، وتأملا في الحاضر، وتوقعا للمستقبل.

      قانونان من قوانين الظواهر الإجتماعية، وهي من سنن الله سبحانه، يجب اعتبارهما: أنها لا تقع نتيجة عامل واحدٍ منفرد أبداً. كما إنها لا تُنتج فسادا محضا أو خيرا محضاً.

      من هنا يتردد الناظرون في أسباب ونتائج تلك الظواهر، كما أنهم يفترقون في سبل الإستفادة من تلك الظواهر المتكررة.

      قد تحدثنا عن الأسباب التي رأينا أنها تعاونت في فشل تلك الثورات. لكن الدروس المستفادة، والنتائج المترتبة تحتاج إلى نظرة مدققة، تعتبر السلبيات والإيجابيات قدر ما يمكن للمحلل من تفكيك الأحداث، وإعادة تركيبها بشكل يصل بها إلى نتيجة أفضل، باعتبار المستقبل لو تكررت!

      من سلبيات ما حدث:

      1. تمكين المحتل الغربيّ من معظم بقاع المسلمين، وتوطيد وجوده السابق وزيادة سيطرته المالية والعسكرية في بلاد المسلمين.
      2. ظهور طبقة العلمانيين الملاحدة على سدة الحكم بلا مواربة أو خفاء كما كان من قبل، مما جعل جماهير العوام يختلط عليهم الأمر، فينقسموا بين مؤيد سيسيّ بشاري سلمانيّ وبين معارض مسلم، أو صاحب مصلحة.
      3. هدم بلاد المسلمين بشكل غير مسبوق إلا في التاريخ، إلا في اجتياح التتار بلادنا في القرن السابع الهجري. وقد خلّف هذا الدمار ملايين المازحين والقتلى والأيتام والثكلي، وعاد بتلك البلاد، على غزارة ثرواتها إلى العصور الوسطي، بلا شك.
      4. تقوية الجيوش الصهيو-عربية المحتلة، التي تنتمي لحكامها، تعينه على قهر الناس وقتل المسلمين بلا رحمة، كما تعزز الوجود الغربي
      5. سفور الإلحاد والشذوذ وكافة الموبقات الإجتماعية بشكل غير مسبوق، وتبديل الذوق العام للقبول بها بديلا عن القيم الإسلامية والتقاليد المرعية.
      6. أصبح التوجه الإعلامي عميلاً مشركاً بشكل تام شامل لا مجاملة فيه لدين ولا شرف ولا ضمير.
      7. اعتقال وسجن وتعذيب وقتل رؤوس الدعوة والعلم والجهاد من المشايخ في كافة أنحاء الرقعة المسلمة، وعلى رأسها مثلث الشر، مصر والإمارات والسعودية. وهو ما أدي إلى انتهاء وجود القيادة الممثلة للإسلام السني خارج السجون بشكلٍ تامٍ غير مسبوق.

      وقد وقع مثل هذا الاجتياح من قبل، كما ذكرنا، أيام التتار في القرن السابع الهجريّ، حيث دمر المغول الشرق الإسلامي كله، ووقف زحفهم إلى الغرب على حدود مصر. إلا أن الغرب العربي لم يكن أحسن حالاً، فقد كان الموحدون، الذين داخلت البدعة عقائدهم منذ أيام مؤسس دولتهم ابن تومرت، قد انتهت دولتهم وكان الأندلس ممزقا بين ملوك الطوائف، ولم ينجح المرينيون في تأسيس دولة قوية.

      لكن مصر كانت بها الدولة الأيوبية، ثم المماليك، حتى استقر الملك لسيف الدين قطز، بعد أن استسلم غالب أمراء الأيوبيين في الشام للتتار، وأعطوا صفقة أيديهم لهولاكو، وتعاونوا بجيوشهم مع التتار لاكتساح بقية الرقعة الإسلامية. وما أشبه اليوم بالبارحة!

      الفارق الوحيد اليوم اجتياح الغرب للرقعة الإسلامية عام شامل هو "وجود سيف الدين قطز"، ونعنى وجود قائد مسلم يؤمن بأن المسلمين أصحاب كرامة وعلو لا يصح أن يستسلموا، بل دون ذلك الجهاد أو الموت. ليس في الرقعة الإسلامية اليوم قطز واحد، على رأس نظام واحد، يؤمن بالله وبرسوله ﷺ وبكتابه، بل

      صاروا كلهم علقميون خونة، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

      (4)

      فماذا استفاد المسلمون من تلك الثورات؟

      1. ظهرت للمسلمين، بكل وضوح، عوامل الضعف والانهيار التي ضربت في جنبات دولهم ونظمهم، سواء في الانهيار الخلقي أو الاقتصادي أو العسكري، والتخلف الحضاري المروّع الذي تعيشه الجموع المسلمة، في كل مكان.
      2. تأكدت للمسلمين خيانة حكامهم، جميعا بلا استثناء، وكفرهم بدين الله ورسوله ﷺ، وموالاتهم الصريحة للصهيو-صليبية، للحفاظ على عروشهم الفانية.
      3. ظهرت السذاجة السياسية، التي ترتبت على البدع العقدية لدى جماعات كانت تُعدّ هي الأولى والأقوى، حتى اقتلع الكفار شأفتها، فصارت تنحصر في آلاف معتقلين ومعذبين أو مقتولين، وأسماء أفراد هاربين فزعين، لا همّ لهم اليوم إلا أن يعقدوا صفقات مع الغرب، لعله يشملهم بالرضى والعفو، ولات حين مناص!
      4. ظهرت الأوجه الشيطانية لعلماء السلطان وسحرتهم، مثل محمد حسان والبرهامي والغنامي والسديس، وكثير هنا وهناك، في كلّ بلاط، يلعقون أحذية أسيادهم وآلهتهم، رغباً ورهباً.
      5. تميزت صفوف الإسلام والكفر بما لا يدع مجالا لمرتاب إلا أن يكون مع الهالكين. فإن معسكر الكفر اليوم قد خفض راية الإسلام ورفع راية الإلحاد، بلا تورع أو خجل، فلم يعد لجاهل عذر في الانتماء لذاك المعسكر.
      6. ظهرت، في بعض المواضع، قوة المسلمين السنة، حين يجتمعون، ويسيرون في الاتجاه السديد، حتى تسرب العملاء والمبتدعين ودعاة الاستسلام وأتباع الداعمين، فبدّدوا تلك القوة.
      7. بانت القوة المدمرة لتبني البدع مثل بدعة الخوارج التي قادها كلب أهل النار الهالك البغدادي، وسبحان الله، كأنه أول من ادعى القرشية ليصل لغرضه المريض، بل سبقه الكثير منهم ابن تومرت، فخضعت له أعناق الجهلاء والأغبياء كما خضعت أعناق أغبياء الدنيا لخليفة الهوان.
      8. كذلك ظهر فساد بدعة الإرجاء التي حلت بشعوب المسلمين، قادتها جماعات سمّيَت إسلامية، كالإخوان، وعلمانية متسترة بالإسلام كحزب النهضة. كما ظهر ضعف الوجود السنيّ الصرف في أرض الواقع، لا كتب وأبحاث ومقالات. وهذا البعد الأخير، هو، كما أراه، ما جعل تلك الحركات البدعية تقوى على حساب السنة وتتوغل في عقول العوام ببدعها، حتى جارت الصوفية في أثرها، وفاقتها.
      9. انشكفت حقيقة ما يسمى بالجيوش العربية، فعرف المسلمون اليوم من هم أعداؤهم المباشرون، هم طائفة منهم حملوا السلاح لصالح الحاكم الملحد في كلّ رقعة عاش عليها المسلمون يوما ما، فقتلوا أبناء جلدتهم، وحموا طواغيت الدنيا، ونصروا الصهاينة والصليبيين، وتلقوا الثمن رواتب وامتيازات!

      10.  تعيّن على المسلمين السنة اليوم، من لديهم القدرة، أن يخرجوا بحلّ جذريّ لتلك البلاءات العظمى، دون أن يأبهوا لما يقوم به مرجئة العصر، أو خوارجه، أو من يدعي الليبرالية في وقوفه ضد الحكام، أو من ركن للإستسلام والتسليم والتفاوض المهين من أذيال الترك والسلولية.

      (5)

      والسؤال الذي يلح اليوم: ما هو دور ما يُسمى بالجماعات الإسلامية في رقعتنا المسلمة؟

      أعتقد أن كافة تلك الجماعات لم يعد لها دور في إحياء الأمة المسلمة، إذ لا يُبنى بناء على قواعد مختلة، بل يُنقض ويبدأ من جديد، بفهم صحيح، وتوجه مستقيم، وقيادة واعية.

      الجماعات القائمة اليوم، كلها بلا استثناء، عبئ على الأمة، وعلى نهضتها من وهدتها، بل هي من يحمل قيودا ثقيلة في رقبة هذه الأمة من تراث بدعي وممارسات مخزية.

      على تلك الجماعات، إن بقي في ضمير قادتها، أو من بقي منهم، ذرة إيمان بالله ورسوله ﷺ  أن يعلنوا حلّ تلك الجماعت، والتكتلات، والجمعيات والهيئات، وأن يسلموا مفاتيح المستقبل لمن يقدر على فتح أبواب النصر التي أغلقها المولى سبحانه في وجوههم.

      لم تكن لجماعة إسلامية يد في أي من الثورات التي قامت في مصر، ولا سوريا، ولا ليبيا ولا تونس، إلا اليمن  فقد كان جهد القاعدة قائما. بل كانت كلها انتفاضات عفوية، حملت على أمواجها جماعات، لم تكن على قدر الوعي العقائدي ولا الحركيّ لتعرف كيف تستفيد من ذاك المد ّالشعبي.

      الجماعات الإسلامية، بتركيبتها القائمة، لا تصلح للإستمرار، ولا لقيادة أي عمل مستقبلي، إذ هي بين إرجاء وعمالة أو حرورية. أمّا عن القاعدة، فإن عليها تغيير استراتيجيتها التي نخشى أن يكون مستقبلها فيما جاء على لسان الشاب حمزة بن لادن، رحم أباه، فإن فيها، حسب ما أرى، نوع من تجاهل معطيات الواقع والحقائق والتاريخ. بل إن إشاعة تنصيبه، لو صحت، لكانت كارثة حقيقية على ذاك التنظيم، ينبئ بقرب أفوله.

      ما يجب اليوم هو إعادة التفكير لإنشاء تصور حركيّ، يقوم على تصور سنيّ صاف واضح أولا، وفهم كاملٍ لما يحدث على الإرض من معطيات، سلبية وإيجابية، بحيث يكون قابلاً للتنفيذ في هذا الجو الملئ بالعداء للإسلام في كل بقاع الأرض. وأن يشمل هذا التصور الحركيّ، الشعوب، القاعدة العريضة، رغم عجرها وبجرها، إلا  أنّ فيها مدد للتغيير الإسلاميّ، وإن تراكمت عليه طبقات فوق طبقات من ركام الجاهلية وحطامها.

      د طارق عبد الحليم 

      26 سبتمبر 2017 – 6 المحرم 1439