فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      وسائل الدنيا ومقاصد الآخرة بين الثبات والتميع

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ﷺ وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد

      هل تبرر وسائل الدنيا للوصول إلى حقٍ، التخلى عن ثوابت الأخرة، إن بدا إنها لا توصل للحق؟ سؤال يطرق عقول المسلمين كل مرة تعرِض كائنة تتنافر فيها الوسائل والمقاصد. ومثال ذلك النزاع في حكم أردوغان.

      فريق يقول: نحن نعلم "يقينا" أنه لا فائدة من مواجهة الدول العظمى وتحديها علناً، وتجربة قرون أثبتت ذلك. فلما لا نسير في خطاهم، تحت جناحهم، وبوسائلهم، نخلطها بوسائلنا، صلاة وتلاوة ومساجد عامرة. ويمر الزمن وتقوى دولتنا، وتشتد قوة وسائلنا، حتى إذا حان الحين، خلعنا لباسهم، وأزلنا رجسهم، وخلصنا بالإسلام قويا عزيزاً؟

      وفريق يقول: إن الغاية لا تبرر الوسيلة في ديننا، مهما كانت الغاية أو الوسيلة. وقد قال تعالى "وأتوا البيوت من أبوابها"، وقال "ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت". فالوسيلة جزء من الحق، كما أن الغاية جزء منه، فلا ينفصلا. ومن ثم، من ادّعى أن وسيلته حرام باطل ليصل بها إلى حق، فقد كذب في نفس الأمر، وإن صدّق نفسه. وقد علمنا ذلك من سيرة نبينا ﷺ.

      فأي الفريقين أهدى وأولى بالاتباع؟ لنرى فيما يأتي من حديث.

      أمّا عن الفريق الأول فنقول: نعم، حديثٌ منطقيٌ سلس فيه قوة. لكن كلّ فرضية تقوم على مقدمات يجب أن تثبت أولا، عقلا عند المناطقة وعقلا وشرعا عند المسلمين. فتعالوا نرى علام قام مبناه المنطقي.

      1.     أن يثبت عقلا تولّد الحق من الباطل، سواء في الطبيعة أو في العمران واجتماعيات الناس، كأن نزرع بذورا فاسدة فتخرج أشجاراً يانعة، أو أن نربي وليدا في بيئة مجرمة تعلمه كل فساد فإذا هو شيخ إمام عند البلوغ، أو ينكح رجل امرأة تتباين معه في كل صفة، فيعيشا في هناء وسعادة!

      2.     أنه في القرنين الماضيين، ثبت بالتجربة القاطعة عدم إمكان الوقوف عسكريا ضد الغرب، مهما حسنت النية وصلح القصد.

      3.     أن الغرب يسهل خداعه، من حيث لا يختبروا الزاعمين القائلين بهذا القول، ويحللوا تاريخهم، ومسيرتهم طوال حياتهم إلى أدق التفاصيل، كل كلمة، وكل عمل وكل انتماء.

      4.     أن التخفي بالمقصد يجب أن يكون لدرجة انعدامه أصلا، بل الإيمان بعكسه، حتى تتم الوسيلة بنجاح.

      5.     أنه لا يجب أن يظهر أي شك في مسيرة الوسيلة تؤدى إلى أخفت الظن وأوهنه لدى الغرب، فتكون النتيجة إزالة محققة مثلما حدث مع الإخوان.

      6.     أن هناك أدلة شرعية على صحة هذا التصرف، مثل قوله تعالى "واتقوا الله ما استطعتم"، وقوله ﷺ "ما نهيتكم عنه فانتهوا وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم.

      ويقول الفريق الثاني: لا أسلّم بكل تلك المباني، بل في بعضها هرطقة ونفاقا، إن تمت بها الشطل، فإن لم تقع بهذا الشكل انهار البنيان المنطقي كله، لكن ها هي دعوانا:

      1.     أن القرآن والسنة قد استفاضت فيهما الأدلة على أن الفساد لا يخرج منه إلا الفساد، وآيات الله في ذلك لا تُحصى، في الطبيعة وفي الناس "إن الله لا يصلح عمل المفسدين"، "والذي خبُث لا يَخرج إلا نكدا"، "هل جزاءالإحسان إلا الإحسان"، "جزاء بما كانوا يعملون"، "كلّ عمل ليس عليه أمرنا فهو ردّ". فإنه لم يحدث أبدا أن نتج طيب من فاسد، فطرة، بل هم من قبيل النادر الذي لا حكم له.

      2.     أن الاستدلال بموضع الخلاف لا يصح. فإنّ أحداث القرنين الماضيين، تلبس فيها عمل حق بباطل، بل غلب عليهما الباطل في تصرفات منتسبي الإسلام، مثل محمد على، وعبدالعزيز بن سعود، والشريف حسين، وغيرهما ممن تسبب في إسقاط دولة الخلافة. ثم أتي من بعدهم خلف أضل وأشقى، فأضاعوا الصلوات واتبعوا الشهوات. وفرضنا أن قيادة المسيرة على حق، فلا ينتج عنها إلا حق بإن الله "والبلد الطيب يخرج نباته بإذن الله" أي طيبا مثله.

      3.     أن مسألة خداع الغرب، هي من مضحكات الأمور، بل هي عكس فرضكم، فقد فرضتم قوتهم الهائلة، التي تتضمن قوة أمنية مخابراتية لا مثيل لها، فكيف تعودون بفرضية أنه يمكن خداعهم؟ فلا يكون إلا أنكم لن تخدعوهم، بل ستكونون حقا على دينهم، كما هو حال آل سعود ونهيان وخليفة والسيسي.

      4.     وهو تأكيد لما قلنا من أنّ وسيلتكم تتحول إلي مقصد في ذاتها، فتريدون الديموقراطية، وتنشرون فصل الدين عن السياسة، والتخلى عن الأحكام الشرعية، ولا تبالون.

      5.     من ثم، تكون خدعتكم لا شك فيها، فهي ليست خدعة، بل حقيقة تغيرت بها المبادئ والثوابت، وثبت مطلوبنا نهوهو أنه يستحيا أن تنتج وسائل باطلة، مقاصد أنهأمن أنه يستحيل أن تنشأ مقاصد مشروعة بوسائل غير مشروعة، وأن التبديل للثوابت لازم هذا الفكر.

      6.     أما ما أوردتم بشأن أدلة تحسبونها دليلاً لكم، فهي في غير محلها تحويراً وتبديلاً. فقول الله تعالى "واتقوا الله ما استطعتم"، لا يمكن، بل يستحيل، أن يكون مما لا يُستطاع هو طاعته في أمره! هذا خُلف، إذ معناه واتقوا الله بعدم تقواه وطاعته ولا بأس!؟ وذلك من حيث أنّ مبدأ العلمانية والديموقراطية التي تتبنونه، بحق وصدق وإيمان كما رأينا من قبل، هو نقض لطاعة الله في أمره ونهيه، أي خدش لجناب توحيده. فهذا النصّ فيما هو من قبيل التكليف بغير التوحيد، من الشرائع، لا المبدأ ذاته. وهذا ينطبق على حديث رسول الله ﷺ كذلك، بنفس المفهوم.

      فإن قلتم قال تعالى "واتقوا منهم تقاة"، أو "فمن اضطر غير باغ ولا عاد"، قلنا قد تعديتم حد التقية، وأوجبتم على أنفسكم أن يكون عملكم في وسائلكم فيه إخلاص حقيقيّ ليتم قبوله من أعدائكم، وهو قوله تعالى "ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم". فهذا يخرج بكم من التقية بالعمل المحدود، إلى فعل الكفر بلا حدود. كذلك فيمن اضطر، فقد شرط "غير باغ ولا عاد" وهل هناك بغي أكبر من تبديل أحام الله ووضع دستور لا ينص على ألوهيته سبحانه وحق طاعته على خلقه.

      ثم إذا عدنا إلى أردوغان وجدنا تحليلنا ينطبق عليه تمام الانطباق. فالرجل يدعو للعلمانية، وعدم دخول الدين في السياسة، مخلصا في ذلك، رغم أنكم تضعون المفاهيم على لسانه، وهو ينطق بعكسها. وقد قبله لذلك الغرب قبولا محدوداً، لأنه لا يزال يعمل بوسائل لا ترضيهم في باب النسك. أمّا غير ذلك فقد وافق فيه وصفنا لمن تبع وسائل تخالف مقاصد الشرع حذو القذة بالقذة، فشرّع قبول الشذوذ الجنسي، وجرّم من يناهضه، وشرع بيع الخمور، وصرّح بالدعارة والزنا، وقبل قواعد عسكرية صليبية تضرب المسلمين وتقتلهم بدعوى أنه عضو في الناتو. ولا ندري أين يقع الناتو في منظومة التوحيد على العموم، لكن هذا مثال حيّ لمن أراد أن يتبنى وسائل لا يحرمها الشرع ويجرمها، ويتوهم غيره، ويلقى على لسانه، أنه يفعل ذلك تذاكيا ومهارة وشطارة منه، ليصل إلى حكم الله قصداً.

      ألا ما أتعس السفهاء "ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يشعرون".

      ومن هذا المنطلق، حكمنا على قادة هذا التوجه بالمروق من الدين. والحمد لله ربّ العالمين.

      د طارق عبد الحليم      27 مايو 2017 – 1 رمضان 1438

      https://jpst.it/_CP9