فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      أردوغان .. بين العلمانية والإسلام

      السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد

      أعلم أن بحثي هذا قد جاء في وقت تتشابك فيه الآراء، بين منضبط بالشرع في الأحكام الفقيهة الخاصة بالإيمان والكفر، وبين منفلت من الشرع يحكم بهواه، حسب الحاجة، وبين من دعته الانهزامية وألجأه الإحباط إلى تبني رأي معين، يتعلق به كما يتعلق الغريق بالقش.

      كما أعلم أن سيكون للمقال أثر على الكثير، منهم من سيرد بأدب، أو بسباب وشتائم، حسب الأصل والنشأة والعلم، والجماعة التي ينتمى اليها. لكن كلّ هذا لا يغير من إنني أتمنى أن أرى رداً علمياً مدعوما بالأدلة على ما قدمت، نقطة بنقطة، كما أفعل في ردوي على ما أراه مخالفا للشرع في كتابات العديد من الباحثين.

      من الأمور التي شغلت الناس عامة، والمجاهدين خاصة، هو رجب طيب أردوغان. فمن مغالين فيه حتى جعلوه سلطان العصر، وخليفة الزمان، ورأوا فيه القوة والعزة للمسلمين. ومن الناس من توسط، فقال بأنه مسلم يمكن الإعتماد على دعمه وعونه، ومنهم من قال بأنه كافر ليس بمسلم، بل علماني بحت، يحكم بالعلمانية ويحترمها، فلا يجوز التعامل معه أصلاً.

       والحق، إنه من أكره الأمور إلى نفسي الحديث عن كفر فلان أو علان، إلا أن يكون هناك سبب حقيقي يستلزم استقصاء هذا الحكم وبيانه. فالتكفير ليس هواية يتسلى بها الخلق، بل هو حكم بخروج نفس من رحمة الله، وتوقع العذاب الأبدي، وهو من أبشع الأمور وأشقها على من عرف معناها.

      ورجب طيب أردوغان، هو من الشخصيات الهامة، التي تلعب دوراً فاصلاً في مصير المنطقة ككُل. وتاريخ بلاده يضعه في مرتبة عالية من التقدير، إذ كانت عاصمته هي عاصمة الخلافة لقرون عدة، وكانت بلاده مركزا لأقوى امبراطورية في تاريخ الدنيا حتى القرن التاسع عشر، وأطولها بقاء. ثم إن دوره الإقليمي قد أعطاه وزنا مؤثراً للغاية، من حيث موقعه واقتصاديات بلاده.

      والمسألة التي نحن بصددها معقدة أشد التعقيد، والواجب على من أفتى فيها، أن يفرغ الوسع في تتبع جزئياتها، واعتبار مناطاتها، وتنزيل الأحكام الصحيحة عليها، لا مجرد الحكم بعمومات وردت، سواء بالتكفير أو غيره[1].

      ومناط القضية هنا هو: هل هذا جائز أصلاً في دين الإسلام أن يكفر فردٌ ينطق بالشهاتين، ويقيم بعض الشعائر والمباني؟ فإن صح، فبماذا يصبح الحاكم، الذي تحدث باسم الإسلام، وأقام بعض شعائره ومبانيه، كافراً؟

      تلك هي القضية. وهي، كما ترون، معقدة أشد التعقيد، إذ تضرب بفروعها في علم التوحيد والعقائد، وفي علم الفقه بأحكام الدار وأبواب الردة.

      وحتى نفك خيوط هذه المسألة، ونوليها حقها من الدرس، ومن ثم تكون إجابتنا على تلك الأسئلة مبنيةٌ على علمٍ وعدل، فإننا يجب أن نعتبرالتالي:

      • هل جائز أصلاً في دين الإسلام أن يكفر فردٌ ينطق بالشهاتين، ويقيم بعض الشعائر والمباني؟
      • هل يمكن أن تقوم حقيقة الإسلام مع ارتكاب عمل كفر محضٍ متفق عليه؟
      • الفرق بين الفرد العاميّ، والحاكم في أحكام الكفر والإسلام، وبين الحاكم العاصي والكافر.
      • الفرق بين حكم الفرد وحكم الجماعة في أحكام الشريعة الخاصة بالإسلام والكفر.
      • حكم الدار التي يحكمها العلمانيون.
      • متى يقع الإكراه، وما حكمه على الفرد، وعلى الجماعة؟
      • ماذا عن أردوغان؟

      فنقول وبالله التوفيق

      • هل جائز أصلاً في دين الإسلام أن يكفر فردٌ ينطق بالشهادتين، ويقيم بعض الشعائر والمباني؟

      والإجابة واضحة، نعم يجوز، بل هو مما عُلم من الدين بالضرورة. فإن الله سبحانه فرّق بين الكفر الأصلي والردة. فالكافر الأًصلي هو من وُلد لأبوين غير مسلمين، سواء من أهل الكتاب أو غيرهم. والمرتد، هو من وُلد، أو تحوّل إلى الإسلام، طوعاً، ثم خرج عنه. قال تعالى "ومن يرتدد منكم عن دينه" فأثبت هذا الصنف من البشر. هذا واضح لا لبس فيه.

      لكن مسألتنا هي فيمن اختلط فيه ظاهر كفر وإسلام. وهي مسألة الحكم بتكفير فردٍ معينٍ أو جماعة أو طائفة. ولنعتنى بالفرد أولاً فهو الأصل الجزئي الذي ينبني عليه غيره.

      • فإنه من المعلوم أن التوحيد هو 1) معرفة الله سبحانه، وإثبات ما يليق به صفات، ونفي ما لا يليق عنه كالشريك والنظير والولد والوالد ونسب الجن والملائكة. ثم 2) تصديق ما عرفنا، وانقسم الناس في التصديق إلى ثلاثة أقسام، أ) أنه غير لازم للتوحيد، كالكرامية، وهؤلاء خرجوا عن الملة، ب) من جعل التصديق هو مجرد نسبة الصدق إلى الخبر أو المخبر، بمعنى أن ما عرفنا هو حق وصدق، ليس إلا، لكنه لا يستلزم شيئا بعد هذا القدر، وهؤلاء هم غلاة المرجئة وهم ليسوا بهذا من المسلمين، بل هناك من أحبار نصارى جاؤوا بهذا التصديق، فما أنجاهم، كما في قصة أبي ءءءء . ج) من قال إن هذا التصديق يستلزم جنس العمل ليصح به التوحيد، وهؤلاء هم أهل السنة عامة. ثم انقسم أهل السنة إلى قسمين: أولهما: الأحناف، وقالوا أن هذا التصديق بذاته تصديق مخصوص، لا كما قالت المرجئة، فهو يتضمن الإقرار كشرط لصحته، كون هذه الأعمال شرط من خارج الإيمان. وثانيهما، عامة أهل السنة، حيث قالوا بل إن هناك جزء ثالث، بعد المعرفة والتصديق، وهو إنشاء الالتزام، وهو الإقرار والطاعة والانقياد، فهو شطر في التوحيد والإيمان، من داخله، لا شرط فيه.

      وهذا القدر من الفهم يؤدي بنا إلى أنّ التوحيد، في حقيقة أمره ليس بنطق الشهادتين، بل هو بمعرفة مبانيهما، وتصديق معانيهما، والاقرار والانقياد لمقتضاهما، كما ذكر ابن القيم. وهذا ناشئ عن أنّ الله سبحانه لا يُرتّب ثواباً على القول الناقص الذي لا يحمل معناه. ومثال ذلك تسبيح الصوفية بالإسم المفرد "الله"، هو بدعة من حيث إنه ليس بجملة مفيدة، لذلك ترى أن السنة في التسبيح هي جملة مفيدة "سبحان الله" و "الحمد لله"، و"الله أكبر" ومثل ذلك. إذ الألفاظ لم توضع لذاتها، بل لتدل على معانٍ معينة.

      هكذا يجب أن نفهم قول "لا إله إلا الله"، وهكذا فهمته العرب، أصحاب اللسان. ومن هنا نرى أن ما ورد من أحاديث الشفاعة "من قال لا إله إلا الله دخل الجنة" قد جاءت في نفس الصحاح، كالبخارى ومسلم، بألفاظ مختلفة، منها "من قال" ومنها "من عبد الله وكفر بما دونه" ومنها "من وحد الله وكفر بما دونه" .. وكلها ثابت في الصحيحين. فالشهادتين هما عنوان التوحيد، لا التوحيد بذاته. بل إن القرآن قد أنهى هذه القضية في سورة آل عمران 64، فشرح "الكلمة" في قوله تعالى "قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون". فالكلمة، التي تركها إبراهيم عليه السلام في عقبه، وهي كلمة التوحيد، أو كلمة السواء، أو شهادة ألا إله إلا الله، هي عبادة الله وعدم الإشراك به، لا مجرد نطقها. فمن أتي بأقل من هذا القدر، لم يثبت له توحيد.

      • لكنّ يقول قائل، هذا في حكم الإسلام على الحقيقة، فماذا عن ظاهر الدنيا، كيف نحكم على ثبوت الإقرار والطاعة والانقياد، إي أن المرء قد أنشأ الالتزام بالدين.

      فنقول، حقا، هناك فرق بين الإسلام على الحقيقة، والاسلام على الظاهر. وما نرتبه من أحكام في الدنيا، هو على ما ظهر من قول وعمل، لا على ما هو في الباطن والنية، فإن أصل الأصول وقاعدة الشريعة الأولى هي "العمل الظاهر"، ثم الله يتولى السرائر. فمن ظهر منه إسلام، دون ما يعكره، فهو المسلم، وما ظهر من إسلام عكّره كفرٌ يقيني، فليس بمسلم لدينا، وأمره بعدها إلى الله. وهذا ثابت مقرر في العقيدة والفقه والأصول.

      فإن قال قائل، لكن من شهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله، أمامنا، بل وجاء بشعائر وبينات عدل على إسلامه، وجب اعتباره مسلماً بناء على هذه القاعدة ذاتها!، فنقول بالقطع، هذا هو ما تدلّ عليه الشريعة، خلافاً للخوارج. لكن المشكلة تظهر حين يتلبس هذا المرء ذاته بما يدلّ على عدم الإقرار والانقياد، أي خدش جانب التوحيد، فإي ظاهر نُعمل إذن؟

      العلماء مجمعون على أن الوقوع في شرك يقيني يخرج من الإسلام، حتى لو جاء المرء بكافة شعائره الأخرى. فمثلا، لو أنكر أحدٌ الحجاب، وصلى وصام وحج بيت الله كل عام، فهو كافر بالله تعالى، من حيث إنه لم يُتم الإقرار على وجهه. وعلى هذا، فقد أوضح العلماء ما ينقض الإسلام، ولخصه بعضهم في عشرة نقاط، وإن كان ذلك يتغيّر حسب التفصيل والإجمال. ومن الضروري أن يفهم القارئ معنى

      تلك النواقض وحدودها .. وهو ما شرحته في مقال خاص، أنقله هنا في هامش بكامله لأهميته[1].

      إذن ارتكاب النواقض ظاهر يجب أن يُعتبر عند الحكم على المرء في الدنيا، ولا يمكن أن يغفل عنه المفتي أو القاضي. كمن شهد الشهادتين صم حرق المصحف أو سبَ النبي صلى الله عليه وسلم.

      الأمر هنا، الذي نفترق فيه مع المرجئة، وخاصة في العصر الحديث، هو قضية التحاكم إلى شرع الله، هل هي ناقض أم لا.

      • هل يمكن أن تقوم حقيقة الإسلام مع ارتكاب عمل كفر محضٍ متفق عليه؟

      من المعلوم أنّ حقيقة الانتساب إلى الإسلام لها حدّ أدنى، وهو إقامة التوحيد، أو كلمة السواء، أو الإيمان المُجمل، وقبول معنى الشهادتين ومقتضاهما، والاقرار والانقياد والطاعة لهما اعتقاداً وعملاً قلبياً يستلزم وجود جنس العمل ككلّ، ثم يأتي التنفيذ للمطلوبات والكف عن المنهيات، وهو الإيمان الواجب الذي يختلف بين مسلم ولآخر، وما يسعى المسلم إلى زيادة تحصيله ما عاش.

      فإن عرفنا هذا، وعرفنا أنّ مركبات التوحيد لا تحتمل وجود مضادها معها، إذ لا تستقيم في قلب مسلمٍ، وإن افتُرِض أنها مقبولة عقلاً، وإلا فهو مذهب الكرامية، الذين قالوا إنه متى استقرت معرفة الله في القلب، فيمكن أن يجرى معها أي عمل من أعمال الكفر مهما كان.

      والمعروف أن أعمال الكفر الظاهرة تدل بذاتها على الباطن لتلازمهما، خلاف المعصية. فكون العمل كفراً شرعاً هو شهادة من المشرع على باطن الفاعل كما في قوله تعالى "ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون* لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم". فدلل سبحانه على ما باطنهم بالكفر الظاهر دون اعتبار لما قالوا من مخالفة ظاهرهم لباطنهم.

      • الفرق بين الفرد العاميّ، والحاكم في أحكام الكفر والإسلام.

      وهذا الأمر بهيأته تلك، واضح أنه يختص بحكم الجماعة أو الطائفة، إذ "الحكم" يجرى بمعنيين، التنفيذ، والتشريع. والآيات القرآنية التي نزلت في ردّ الحكم إلى الله، تعني ردّ التشريع إلى الله سبحانه، والتشريع لا يكون إلا في جماعة تتواضع على شرع جديد مواز لشرع الله تعالى.

      فالقيام بأعمال تضاد الشريعة، تنفيذا، مثل الظلم وسلب الأموال وغير ذلك، مع الاحتفاظ بالشريعة كمرجعية ثابتة، إذا تقررت لم يكن من حكمها فرار، كما كان الحال في الدولة الإسلامية في غالب عصورها، حتى سقوط الخلافة. ثم تحولت الشريعة إلى قوانين اختلطت بالقوانين البشرية الوضعية، ثم تنحت كمصدرٍ وحيد للتلقى، و"أشركوا" معها قوانين البشر وما وضعوه بعقولهم، تماما كما فعلت اليهود من قبل.

      أمّ في حقّ الفرد، فإن هذا لا يتصور إلا في حالة ردّ الشريعة أو الحكم الشرعي وعدم قبوله، وهو كفر محض كذلك.

      ومدار الحكم على الفرد، يختص بردّه للشرع، ومن ثم استتابته، مع كونه في كامل أهليته، أي لا إكراه ولا جهل ولا نسيان معتبر.

      والحاكم، إذا دققنا النظر، وجدنا أنّ له اعتباران، أولهما كفردٍ مسلم، فالحكم على صحة دينه تتعلق بإتيانه ما يجب عليه من فروض عينية، وعدم ارتكابه مكفّر بيقين، مما اتفق عليه أهل السنة، وعدم وجود موانع مثل الجهل في مواضعه، والخطأ، كما في حديث "اللهم أنت عبدي وأنا ربك". أمّا الإكراه والضرورة فلهما حديث آخر يأتي لاحقاً.

      والاعتبار الثاني، هو كونه رأس منظومة تحكم بغير ما أنزل الله. والحكم هنا يأتي بمعني تشريع غير ما أنزل الله من شرائع، ولا يعني تنفيذ ما خالف الشريعة. فتنفيذ ما خالف الشريعة وحده ظلم وبغي، مع كون الشريعة مرجعية مستقرة. لكن إدعاء قبولها، ثم وضعها جانباً والتراضي بين الناس على أن ينشأوا شرها موازياً يحلّ محلها، فهذا هو الكفر بعينه، وهو ما عناه سبحانه في آية المائدة وغيرها. ونضرب مثالاً على ذلك، حاكمان، أولهما جاءه سكران، فأراد أن يخرجه من الحدّ لوساطة، فأمر بكتابة تقرير أن دمه ليس فيه كحول، ولو كُتب فيه كحول لأقيم عليه الحد، لأن الشريعة مرجعيته في منظومة حكمه. والحاكم الآخر، جاءه السكران، وجاءته الواسطة، فرفضها، وجاءه التقرير بأن نسبة الكحول في دمه عالية مما يدل على سكره، فأنفذ فيه عقوبة السكران التي في منظومته الوضعية وهي السجن أياما وغرامة مالية .. الحاكم الأول عاص ظالم باغ .. والحاكم الثاني كافر خارج من الملة ... وليس هناك أوضح من ذلك مثلاً.

      فالحاكم هنا رأس لمنظومة، منفّذ لتشريعها، مستمر في نصرتها. فإن كانت علمانية ديموقراطية، لا تستند إلى الكتاب السنة، أو تستند إلى الكتاب والسنة في بعضها وإلى قوانين وضعية في بعضها الآخر، فهو في موضع كفر لا شكّ فيه، إذ ارتكب ناقضا لشهادته، وجاء منه ظاهرٌ ألغى ظاهر التلفظ.

      وقد يقول قائل، هو لم يضع التشريع بنفسه، لكنه جاء فوجده، فحكم به؟ قلنا، لا يجوز الإبقاء على الكفر، كأصل ومرجعية لحظة واحدة. فعليه أن يعيد الحاكمية لله ورسوله، ويعلن الشريعة مرجعية نهائية في منظومة حكمه. ثم يمكن بعد ذلك يمكن البدء في عملية تغيير للأوضاع القائمة، حسب رسوخها، وما تقتضيه من تعديل، يتناسب مع الوضع البشري والاجتماعي والاقتصاديّ. فمثلا التحرر من دائرة الاقتصاد العالمي، معركة طويلة المدي في حدّ ذاتها لتشابك المصالح وتداخل الأنظمة النقدية. وهذا يخضع للإجتهاد وما يمليه مجلس الحلّ والعقد في البلاد، الذي لا علاقة له بصورة الديموقراطية بأي شكل من الأشكال[2].

      • حكم الدار التي يحكمها العلمانيون في شرقنا المسلم:

      وهذا الأمر محسوم في كتب الفقه، بلا خلاف يُذكر، إذ أجمع الإئمة الأربعو على شرط أن تكون الشريعة السائدة في البلاد هي شريعة الإسلام، ثم جاء أبو حنيفة بشرطين أضافهما، هما شرط المتاخمة وشرط الأمان الثم جاءت صورة أكثر تعقيداً، فقيّض الله سبحانه لها شيخ الإسلام وعلم الأعلام ابن تيمية ليضع النقاط على الحروف فيها، وهي المعروفة بالفتوى الماردينية، وهذه تفاصيلها:

      ("سئل رحمه الله عن بلد ماردين هل هي بلد حرب أم بلد سلم؟ وهل يجب على المسلم المقيم بها الهجرة إلى بلاد الإسلام أم لا؟ وإذا وجبت عليه الهجرة ولم يهاجر، وساعد أعداء المسلمين بنفسه أو ماله، هل يأثم في ذلك؟ وهل يأثم من رماه بالنفاق وسبه به أم لا؟ فأجاب: " الحمد لله. دماء المسلمين وأموالهم محرمة حيث كانوا في ماردين أو غيرها. وإعانة الخارجين عن شريعة دين الإسلام محرمة، سواء كانوا أهل ماردين، أو غيرهم. والمقيم بها إن كان عاجزًا عن إقامة دينه، وجبت الهجرة عليه. وإلا استحبت ولم تجب. ومساعدتهم لعدو المسلمين بالأنفس والأموال محرمة عليهم، ويجب عليهم الامتناع من ذلك، بأي طريق أمكنهم، من توارٍ، أو تعريض، أو مصانعة. فإذا لم يمكن إلا بالهجرة، تعيّنت. ولا يحل سبهم عمومًا ورميهم بالنفاق، بل السب والرمي بالنفاق يقع على الصفات المذكورة في الكتاب والسنة، فيدخل فيها بعض أهل ماردين وغيرهم. وأما كونها دار حرب أو سلم، فهي مركبة: فيها المعنيان، ليست بمنزلة دار السلم التي تجري عليها أحكام الإسلام، لكون جندها مسلمين. ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار، بل هي قسم ثالث يعامل المسلم فيها بما يستحقه، ويقاتل [ويعامل] الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه" مجموع الفتاوى مجلد28 ص240، طبعة دار عالم الكتب.

      وقد حاول الأتراك في مؤتمر عقدوه في بلادهم عام 2010، لمناقشة تلك الفتوى بذاتها، وحضره جمع من منافقي السلاطين، مثل ابن بيه والطريري، أن يحرفوا معنى الفتوى والمراد منها، وعبثا ما حاولوا، فهي واضحة في إنها تعتني بالبلد التي تُحكم بغير شرع الله وأهلها مسلمون. وكما ذكر ابن تيمية هي دار مركّبة، وهي أقرب ما أرى بحال بلادنا المستعمرة بالحكام المرتدين.

      • هل يمكن أن يُقبل العمل المكفّر بدعوى الإكراه:

      قد قدمنا بحثاً كاملاً في هذا الأمر، وكان في ثناياه ردّ على بحثٍ لطالب علمٍ، أراد أن يثبت أنّ العمل المكفّر يُعذر فاعله في حالة الإكراه، إذ أخرجه من صورة الإكراه إلى صورة الضرورة، بعد أن جهد، عبثا في فصلهما البتة، ثم جعل الضرورة تبيح المحظور، قولا وعملاً! وسأنقل غالب ما أتي في البحث[3] ليكون الحديث هنا متكاملاً لا يحتاج قارئه أن يرجع إلى مواضع أخرى.

      ونثبت هنا خلاصة ما وصلنا اليه في البحث الذي أثبتناه في الهامش، وهو:

      1. أن الإكراه والضرورة يأتيا مترادفين في بعض النصوص من حيث أن الضرورة تُنشأ إكراها، وأن الإكراه يُنشأ ضرورة، ويأتيا بمعنى مختلف حين يكون الحديث عن منشئهما، فالضرورة تكون فيما ليس فيه عمل بشري، والإكراه يكون فيما يأتي بتهديد بشري مباشر.
      2. أن الإكراه على الكفر لا يكون إلا بالقول، لا بالعمل، وهو الصحيح. بل من الأعمال مما هو دون الكفر ما لا يُقبل فيه صورة الإكراه، مثل الزنا عند بعض الفقهاء.

       

      • هل يمكن أن يكون رأس المنظومة الحاكمة مكرهاً؟

       

      كما رأينا، أن الحاكم هو رأس منظومة متكاملة، تشمل مؤسسات اقتصادية وسياسية وعسكرية، وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة، فبكلمته تتحرك الجيوش، والأمن الداخلي والمخابرات الجنائية والعسكرية، ويُقتني السلاح والعتاد. فهو، بطبيعة الحال، في بلاد كمصر وتركيا وكلّ كيان متحكم في أرضٍ ومؤسسات قائمة ثابتة، ومجالس سياسية وإدارية وتشريعية، تسن القوانين وتنفذها، هو حاكم متمكن في أرضه، لا يتعرض لإكراه، خاصة الإكراه الملجئ المفضى لإباحة التلفظ بكلمة الكفر.

      فإن قيل، فماذا عن الإكراه الجماعيّ، ألا يصح أن تكون الجماعة كلها، وهو رأسها، تحت تهديد بالحرب، أو بالعقوبات الاقتصادية، أو غير ذلك، مما يُلجأ الحاكم إلى الإبقاء على المنظومة الكفرية؟ قلنا: وهل أتى زمن في الماضي، أو هل ننتظر زمنا في المستقبل القريب أو البعيد، لا يتعرض له سكان منطقة ما، على أي دين كانوا، ألا يتهددهم عدو لهم؟ ماذا عن كوبا، وماذا عن كوريا الشمالية، وماذا عن تشيلي؟ ثم ماذا عن الفرس والروم في عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم؟ أم يعتبر أصحاب هذا القول بإكراه الجماعة، أن تلك قصص نرويها في فلكلورنا الشعبيّ، لكننا نعيش بكود آخر، هو كود الجبن والاستسلام؟ أليس هذا ما واجه نبينا صلى الله عليه وسلم في أيام المدينة المنورة؟ أليس هذا ما واجه عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم بعدها؟ حروب لا تنقطع. ثم كيف أنّ العراق قد صمدت لحصار اقتصادي سنين عدداً، رغم الأهوال التي واجهتها، ثم دخلت حربا بعدها، لكنها حربٌ دون عقيدة. كيف صمدت إيران المجوس على الحصار سنوات طوال، ثم إذا هي تنتشر كالسرطان في الجسد السنيّ؟ كيف تصمد كوريا الشمالية ضد حصار أمريكا لها؟

      ثم، أين الإكراه في موقف رسول الله إبّان غزوة الخندق؟ لو صحّ إكراه لكان أولى به أن يتصرف بموجبه في تلك الغزوة التي كادت أن تستأصل شأفة المسلمين!!

      سبحان من قال "ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدته، ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين". وما ثبطهم الله سبحانه إلا بدعاوى بعضهم كالتي نسمعها تتردد أيامنا هذه، من القوة الصليبية والإلحادية، وعدم إمكان التصدى لها، إلا بالخضوع وإدعاء الإكراه. إن هذه الدعاوى، تقوم على وهمٍ لا اساس له، من أن هناك إكراه جماعيّ، وأن هناك صواعق ستسقط من السماء لو أعلنا عقيدتنا، وخرجنا بها على أعين الناس.

      ثم كيف يكون إكراهاً، وحكام المسلمين، كافة، بما فيهم أردوغان، يعتبرون أنّ دعوتنا هذه، دعوة إرهابية، وأنها مناهضة لحكمهم وعروشهم عند العرب، ومناهضة للديموقراطية العلمانية عند الترك؟ أين الإكراه في هذا التصرف؟ أين صفة الإكراه هنا؟ مصلحة الإبقاء على منظومة الكفر خوفا من الصواعق المرسلة والحصار المميت والتجويع المتوقع والسيف المسلط على رؤوس الحكام؟ أهذا منبع الإكراه؟ وكيف يرتفع مثل هذا الإكراه، والأجيال تتوالد على أن دعوتنا إرهابية، وأنّ السلمية هي الطريق، وأن الديموقراطية هي الحل، وأن الشريعة ليست ملزمة لحاكم أصلاً؟

      ليس هناك إكراه على شعب ولا على حاكمٍ. بل هو إيمان راسخ بما يفعلون من قتل للدعوة، وتبنى لحكم الجاهلية.

      • وماذا عن أردوغان:

      يقول القائلون، لكنّ أردوغان ليس من عينة حكام العرب، وهاكم الأدلة:

      • إنه ينطق بالشهادتين ويقيم الأركان الأربعة، بل وزوجته محجبة.
      • إنه أسد مغوارٌ تحدى اليهود فجلس رجلاً على رجل أمام بيريز، بل ترك الغرفة احتجاجا عليه.
      • أنه بنى اقتصادا هائلا لبلاده، وضعها على مصاف دول أوروبية كبرى، ورفع شعبها من قائمة الشعوب الجائعة.
      • أنه أطلق حرية لبس الحجاب، وتلا القرآن وبكي للمآسى الفلسطينية، كما بكى على أسماء البلتاجي رحمها الله وتقبلها في الشهداء.
      • فتحه أبواب تركيا للسوريين واللاجئين.
      • أنه يفعل ما قدّمنا فقط خداعا للغرب، لكنه في قلبه يكرهه ولا يرضى به.

      قلنا، أهذه أدلة شرعية يقبلها مفتٍ شرعيّ عالم بدينه؟

      أما عن نطقه الشهادتين، فقد عرفنا أن اعتبارهما يجب ألا يقوم عليه ناقض يلغيه، إذ الشهادتين عنوان للتوحيد وليست حقيقته.

      أمّا عن أنه أسدٌ مغوار تصدى لبيريز وجلس أمامه بعزة، فإنّ هذا يصلح دليلا على قوة شخصية لا على إسلام أو كفر. فكثير من زعماء العالم يجلسون أمام أوباما وحكام صهيون برفعة وتساو، إلا أذلاء العرب وكلابهم.

      أمّا عن بناء اقتصاد بلاده، فهذا دليل على إخلاصه لقومه، ونزاهته وطهارة يده، وهذا، مرة أخرى لا دخل له بإسلام أو كفر.

      أمّا عن إباحته للبس الحجاب، وحزنه على مآسي شهداء رابعة، فهذا قلب حنون طيب، ثم عمل ظاهر من أعمال الإسلام.

      ذلك أن المشكلة هنا، هي ما وقع فيها كافة مرجئ العصر، الإخوان وغيرهم، ممن دفعهم الإحباط والإحساس بالهزيمة إلى التعلق بأردوغان كمن يتعلق بقشة في الماء خوف الغرق.

      قد بينا أن أصل الإسلام قد يوجد في فرد من الأفراد، كما هو الأصل في شعب تركيا، فهو شعب مسلم في غالبه ولا شك. لكن يظهر من أحد أفراده، سواء بعد استوائه واكتمال رجولته، أو بعد توليه منصباً عموميا في حزب أو غيره، أو حاكما كما هي حالة أردوغان، أمارات متناقضة ظاهرة، مثل الصلاة والمباني الخمسة والحجاب وتلاوة القرآن، دالة على إسلام، ثم يظهر بعد ذلك ناقضاً هو من نواقض الإسلام اليقينية، منها:

      • تأسيسه لحزب يتخذ العلمانية مرجعاً ويعلن ذلك في كل مناسبة، كما أعلنها في برلمان مصر في زيارته إبان حكم د مرسي، ونصح المصريين بتنبيها لأنها هي التي يصلح بها الحكم! كما قال ذلك في مناسبات عديدة.
      • يقوم على حكم دولة مرجعيتها الأساسية لا صلة لها بالإسلام، إلا بتصرفات فردية، لا تمت للجماعة بصلة.
      • انتمائه إلى حزب الناتو، وهو حزبٌ لا نشك أن أحداً يرى فيه حامياً للإسلام! ويجعل قواعده العسكرية مسرحاً للطائرات الأمريكية تضرب "الإرهابيين" من السنة، ولا نتحدث عن داعش حتى لا نتوه في مناقشات جانبية.
      • عمله الدؤوب على الانتساب للإتحاد الأوروبي، ليحقق مكاسباً إقتصادية لشعبه، وتشريعه لما هو مضاد للشرع، مثل إباحة الشذوذ ومنع عقوبة "العين بالعين"، إلى جانب منع كافة التشريعات الإسلامية معها.
      • يبكي على شهداء رابعة، ثم يتفاوض مع بوتين، قاتل السوريين وتصريحه أنهما على توجه واحد في مواجهة الإرهاب!
      • توافقه مع الكيان الصهيونيّ بالاتفاقات والمناورات العسكرية، التي هي أدلّ بلا شك من جلسة "رِجْلٌ على رجلٍ!" في تبيان توجهه.
      • أمّا عن فتح أبواب بلاده للمهاجرين، فهي موقف شجاع رحيم من جهة، ونقطة تفاوض مع الأوروبيين لمنع تدفقهم لبلاد الغرب من ناحية أخرى أهم من سابقتها. لكن، مرة أخرى، لا دخل لإسلام وكفر بهذا التصرف.
      • ثم اليوم، أرسل طائرة مقاومة حرائق لإسرائيل لمساعدتها في مواجهة الحرائق المندلعة فيها بفضل الله تعالى. ثم يترك حلب بلا معونات ..!
      • ولا ننسى أنّ ما في نفس المرء ليس عليه دليل، كما قال صلى الله عليه وسلم "لنا الظاهر والله يتولى السرائر". فكيف يقال، وكيف يُعلم ما في قلبه؟ هذه هلوسة وخبط يقرب إثمها من دنس من يكتب الكتاب ثم يقول هذا من عند الله.

      الخلاصة:

           

       أردوغان، رجل قوي الشخصية، محب لبلاده وشعبه، عامل على ارتقاء دولته، يحترم نفسه وقومه، محبٌ لبعض تقاليد جاءت في الكتاب الكريم الذي اتخذته دولته يوماً مرجعا ودانت به شعوبها أيام الخلافة، بل ومحب للمسلمين في قلبه كما يظهر من بعض أعماله، بل حذاؤه برأس حكام العرب مجتمعين. لكنه ليس مسلماً كحاكم يشرّع بغير ما أنزل الله ويحكم بالعلمانية الصريحة، بل ويدعو لها، إذ هذا ناقض للإسلام وإن صلى وصام وزعم محبوه أنه مسلم. وليس هناك معنى لإكراه أو لضرورة إلا عند من قدّم الهوى، والمصلحة القريبة في الحصول على دعم وسلاح، إبّأن الكارثة السورية. أمّا عند عالم مفتٍ لا ينظر إلا بعين الشرع، فلا يكفّر مسلما، ولا يأسلم كافراً إلا بدليل، فهو لا يزال بعيدا عن الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.[4]

      وليس أحب الينا، يعلم الله، أن تعود تركيا: كنظام، إلى حظيرة الإسلام، وأن تتخلى عن العلمانية، وأن تقف في وجه إزالة شرع الله من على سطح الأرض، لكن هي تعين علي ذلك اليوم. وحتى نرى هذا اليوم، فإن حكم الله لا يجب التلاعب به، ولا يجب تبديله لأي سبب كان.

      ثم إن التعاون مع حكم علماني لتحقيق مصلحة معينة، له ضوابط معروفة. لكن لا يحتاج المسلمون أن يغيروا من أحكام الشرع ليبرروا فعلاً من هذه الأفعال. ولهذا موضع آخر من البيان.

      ولعلنا نرى نقداً علمياً محترماً مكتوباً، ليمكن أن نقارن أدلة من وصلوا لغير هذه النتيجة بما وصلنا اليه.

      د طارق عبد الحليم

      4 صفر 1438 – 5 نوفمبر 2016