فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      القطبية .. والفكر التوحيديّ في ميراث أهل السنة والجماعة

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ﷺ وعلى آله صحبه وبعد

      سألني أحد الأبناء الأحباء عن "القطبية"، ما هي، وما حقيقتها، وهل هي جماعة موجودة على الأرض، فإن كانت فما تاريخها؟

      وحتى نجيب على هذا السؤال، يجب أن تعود بنا الذاكرة إلى فترة ما بعد إعدام الشهيد بإذن الله سيد قطب، في عام 1966، ومحمد اسماعيل هواش وعبد الفتاح اسماعيل. وقد كان سيد رحمه الله على علاقة بعدد من الطلاب، خاصة طلاب الهندسة، يجتمع بهم ويدرس لهم المعالم والظلال، وذلك في الفترة بين إطلاق سراحه بعد قضية 1954[1]، وبين إعادة محاكمته عام 1966، وهي الفترة التي ترعرع فيها عمله الإسلاميّ الفكريّ العقائدي، وأخرج المعالم والظلال منقحاً. ثم خرج في عام 1964، وفيها نشأت جماعة أطلقوا عليها جماعة 1665، وكان على رأسها الأستاذ سيد، ومن طلابه عبد المجيد الشاذلي ومجدي عبد العزيز وأحمد عبد المجيد، ومحمد المأمون ومصطفى الخضيري. وكان الشيخ الشاذلي قد تخرج من كلية العلوم – قسم كيمياء - عام 1956، وكان له نشاط ديني مع جماعة الإخوان. حتى التقى بالشهيد رحمه الله، بعد أن تبلورت الخلافات العقدية بين الإخوان وبين الأستاذ سيد رحمه الله، ودارت رحى الصراع داخل سجن طرة بين الإخوان وعلى رأسهم مأمون الهضيبي، وبين تلامذة سيد قطب وعلى رأسهم منظرهم الشيخ الشاذليّ. وقد أنتج هذا الخلاف كتاب "دعاة لا قضاة" من جانب الإخوان، كما أنتج كتاب "حد الإسلام وحقيقة الإيمان" للشيخ الشاذليّ، وشتان بينهما!

      أمّا عن إسم القطبية، فهو اسم أطلقته المخابرات على تلك الجماعة التي عملت معه بعد إطلاق سراحه عام 64، ومن حوكموا مع الاستاذ سيد، وغرضهم كما هو معروف من تلك التسميات، أن ينسبوا الفكر الذي يحملونه لشخص لا للإسلام ذاته، كالوهابية.

      وتلك الجماعة، لا تحمل فكراً غريبا ولا يختص به الأستاذ سيد، بل إن كلا من الأستاذ سيد، المنظر الأول في الاتجاه السنيّ في شرقنا العربي هذا القرن، في باب التوحيد والحاكمية، في الظلال والمعالم، أو الشيخ الشاذلي، وهو المنظر الثاني، الذي وضع للظلال والمعالم الأساس الأصوليّ وأرجعه لبنيات العقيدة السلفية بقوة وحجة، خاصة كتابه "حد الإسلام وحقيقة الإيمان"، بعد أن كانا يهاجمان من قبل الإخوان والنظام أن كتابي سيد رحمه الله كتابيّ أدب لا غير، لا يستندان إلى أدلة الشرع المُحكمة. ثم لم يأت من بعدهما من له أي بصمة في موضوع التوحيد إلا النقل وإعادة الترتيب.

      وهذا الفكر، هو الامتداد الطبيعي لدعوة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب، وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وابن كثير وابن عبد الهادي وابن رجب، وقبلهما أعلام السنة في القرون الثلاثة الأولى. كما إنه خرج من ذات المعين الذي خرجت منه أعمال الإمام المجدد أبو الأعلى المودودي، صاحب السبق في تدوين معالم التوحيد وتجديد رسومه قبل الأستاذ سيد، في القارة الهندية. فليس هناك قطبية بمعنى الفكر، ولا قطبية بمعنى الحركة، بل كانت، واستمرت بعد إطلاق سراح الشيخ الشاذلي رحمه الله وإخوانه، وتأسيس ما عُرف بجماعة إحياء الأمة.

      وقد التقيت الشيخ الحبيب الشاذلي، والحبيب مجدي عبد العزيز رحمهما الله في عام 1976، كما التقيت بكل إخوانهم في مناسبات متعددة بعدها، ولا زلت على اتصال بالحبيب الشيخ محمد المأمون أطال الله عمره. ولكن علاقتي بالشيخ الشاذلي والشيخ مجدي عبد العزيز، كانت علاقة خاصة جداً، وحميمة جداً. قضينا عدة سنوات بحثا ودراسة ومناظرة، في مدينة نصر، نلتقي كل أسبوع مرات لعدة ساعات، وكان لي بعض الأحباب الزملاء، منهم الشيخ عبد الهادي المصري، وغيره. وقد كتبت كتاب الجواب المفيد عام 78، وكتاب حقيقة الإيمان، ولم يرهما الشيخ الشاذلي حيث سافر إلى السعودية قبل صدورهما، على ما تسعف به ذاكرة ابن السبعين من العمر. وكنت على اتصال تليفوني به طوال فترة خروجي من مصر عقب أحداث السادات.

      وقد كان الشيخ الشاذلي رحمه الله يقول "الشيخ أحمد عبد السميع هو قلبي، والشيخ طارق عبد الحليم هو عقلي". وهذا قول أفخر به كثيراً[2].

      الحق أن هذه الجماعة التي وصمها النظام والإخوان بالقطبية، هي الرعيل الثاني في عملية إنشاء الفكر التوحيديّ وترسيخه، بعد أن وضع أسسه من قبلهم الرعيل الأول في القرن الماضي سيد قطب والمودودي بالذات ثم فضل رشيد رضا، وما دونه شراح كتاب التوحيد لمحمد ابن عبد الوهاب، بناء على كتب السلف من أهل السنة الجماعة، وبصمة الشيخين العلّامتين أحمد ومحمود شاكر. وكان الشيخ الشاذلي رأس الرعيل الثاني هو من أصل هذا الفكر ووصله بالأصول، وهو عمل تجديدي لم يُسبق اليه. وليس لأحد جاء بعده أيّ تجديد في هذا الباب "التوحيد" فكلهم عيال على ما كتب الرعيل الأول، ثم ليس منهم من حمل تجديد الشيخ الشاذلي كما حمله العبد الفقير من بعده. إذ كلّ من كتب فيه من بعد، فإنما هو في صيغة دراسية، ونقولات من كتب السلف وكتب الرعيل الأول الذين ذكرنا. لذلك تجد أن كبار من له بصمة في الفكر الإسلاميّ بعد الرعيل الأول لم يكتبوا في موضوع التحاكم، كتابات منفصلة، إلا خلال أبحاث معينة تستلزم قدراً من ذكر الموضوع، مثل ما كتب العلامة رفاعي سرور والشيخ الظواهري، فليس لهم كتاب محدد في موضوع التوحيد، فالشيخان لم يكونا ناقلين، بل صائغين ناقدين. ومع الأسف لا يعرف أبناء الحركة الإسلامية قليلا ولا كثيرا عن هذا الرعيل الذي حمل مهمة تأسيس وترسيخ وتقعيد وتأصيل الفكرة التوحيدية بعد الهجمة العلمانية عقب الحرب العالمية الأولى، فوقفوا لها بالمرصاد. إنما اقتصر أبناء هذا الجيل، خاصة خارج مصر، على من أعاد كتابات ونقول في موضوع التوحيد، دون تجديد فيها، إذ بعدما كتب أبناء الرعيل الأول، وأصل وقعّد أبناء الرعيل الثاني من جيل الأسماء التي ذكرت في الستينيات والسبعينيات، لم ببق في هذا الأمر "التوحيد" وجهة تجديد لأحد. لكن جهل الأجيال التي تبعت الرعيل الثاني بتاريخ الحركة ككُل، جعلهم محدوي النظر، ينسبون الفضل لغير أهله في كثير من الأمور.

      ومن المهم هنا، في هذه الحديث المتعلق بالتوحيد ودراسته، أن نذكر أمراً يتعلق بالسنن وبدورة التاريخ. فإن التوحيد كما هو معلوم، دين الأبنياء جميعا، ثم هو الركن الأساس في دين الإسلام، بل هو دين الإسلام مجملاً. فترى القرآن نزل به مفصلاً والسنة بينته وشرحت مجمله. ثم استقر التوحيد في القرن الأول، وبعد إقامة دولة الخلافة الإسلامية، وتركّز الاهتمام بجمع الحديث الشريف. ثم حين بدأت الهجمة على توحيد الربةبية، في متتصف القرن الثاني، نرى انتعاش الردّ على الفلسفات الواردة والتوجه الاعتزاليّ المستحدث. لكن لم يكن كبير اهتمام بقضية توحيد العبادة والتحاكم من حيث استقرارها ورسوخها. واستمر ذلك حتى جاء التتار، وجاءت معهم فتنة الحكم بالياسق وبغير ما أنزل الله، فكان رد فعل اهل السنة متمثلا في كتب ابن تيمية وابن القيم وتلامذتهما، في باب توحيد العبادة والتحاكم أساساً، كما استمر ردّهم على أهل البدع في الأسماء والصفات وتوحيد الربوبية. وبعد أن انزاح كابوس التتار ودخلوا في الإسلام، توارت قضية التحاكم مرة أخرى من الكتابات السنية، حتى عادت إلى السطح مرة ثانية، في عهد الإمام محمد ابن عبد الوهاب، فتركز تجديده على توحيد العبادة من الناحية الشعائرية أصلاً والشرائعية فرعاً، حيث كان الشرك في الشعائر على أيامه في الجزيرة هو الهمّ الأول للموحدين. ثم برزت قصية توحيد العبادة في جانبها التشريعيّ كأقوى ما ظهرت في تاريخ الإسلام منذ نزول القرآن، عقب الاحتلال الاستعماري لبلدان الشرق الأوسط، وتغيير مرجعيات الحكم إلى القوانين الوضعية، فبدأ من لقّبْتهم هنا بعلماء الرعيل الأول في القرن الماضي عملهم في بيان توحيد الحاكمية والعبادة. فتاريخ التدوين في بابيّ التوحيد الربوبية والعبادة كالمنحنى، تراه يعلو في جانب التحاكم في فترات التغيير التشريعيّ كأيام التتار ثم أيام العلمانية، وتراه عالياً طوال تاريخنا من حيث استمرت البدع النظرية كالاعتزال والإرجاء والتصوف مستمرة على الدوام.

      ففي هذا الشأن، بيان التوحيد، ليس هناك، بعد حلقتي أبناء الرعيلين في عصرنا الحديث، حلقة ثالثة برزت وقدمت جديداً بعد تأصيل وتقعيد الشيخ الشاذلي لما دوّن أبناء الرعيل الأول من الأعلام. وما كتبه البعض من بعد، مثل أعمال جهيمان والطرطوسي والبرقاوي وغيرهم، ما هو إلا إعادة عرض ونقل لنصوص وآيات التوحيد مما دوّن الرعيل الأول ومن الأعلام. 

      هذا بعض مما في صندوق الذكريات ... رزقنا الله الإخلاص في طاعته.

      والله المستعان ..

       د طارق عبد الحليم

      1 صفر 1437 - 2 نوفمبر 2016


      [1] التي أعدم فيها من الإخوان العالم عبد القادر عودة ويوسف طلعت ومحمد خميس حميدة وغيرهم.

      [2] إلا أن البعض، ممن لم يعرف حقيقة علاقتنا وما كان بيننا في تلك الفترة، نسبني إلى تلامذة الشيخ رحمه الله، وهو ما أعتز وأفخر به، لكن الأمر لم يكن على هذا الوضع حقيقة، فقد كنت وقتها في الثلاثين من العمر، فكان الأخ الأكبر لنا. وقد كنا، والشيخ عبد الهادي قد عملنا معا كثيرا لتكوين اتجاها عقدياً مبنيا على فكر شيخ الإسلام والمودودي ومحمد بن عبد الوهاب وسيد قطب، قبل أن نلتقى بالشيخ الشاذلي رحمه الله، وكان يُطلَق علينا "قطبيو مدينة نصر" وهو ما أطلقته علينا الإخوان كذلك خاصة، بعد أن أصدرتُ كتاب الجواب المفيد، ووصمونا بالتكفيريين كعادتهم. وقد كان أثر لقائنا بالشيخ الشاذلي في قولبة هذا الاتجاه بحيث صار خارجا من مشكاة واحدة، أثراً كبيرا وفضله علينا عميما ولا شك، وقد استفدت كثيرا من كتبه وحديثه، ومكنني ذلك من مراجعة الموافقات والاعتصام، وأصول الفقه عامة بعين أبصر وأخبر بمواضع النظر. وقد شرحت وأضفت على بعض ما كتب الشيخ من قواعد في "حدّ الإسلام" في مجموعة أبحاث أسميتها "أبحاث في التوحيد" لتكون دروسا تعليمية للدعاة خاصة. كما نسب البعض بالخطأ كتابي "الجواب المفيد" للشيخ الشاذلي، لكنه أنكره علناً، وليس في ثبت كتبه أصلاً. كما حسب البعض أن كتابي "فتح المنان في بيان حقيقة الإيمان" من وضع الشيخ الشاذلي، وهو خطأ محضٌ، لاشتباه العنوانين في كلمة حقيقة الإيمان. وهو لم ير كتابي إلا بعد سنوات عدة من إصداره، لكن كما بينت، المشكاة واحدة.