فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      شبهة حكم النجاشي

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وبعد

      فهذا ردّ على شبهة النجاشيّ التي يتعلق بها المرجئة، خاصة المحدثين منهم، وكما أوردها صاحب "دعاة لا قضاة" دستور الإخوان الذي أصدروه من السجن في الستينيات، نشرته في كتابي "بيان حقيقة الإيمان" المنشور عام 1979، أنقله هنا بنصّه.

      ويجب أن ينتبه القارئ لما يلي:

      أولاً: أن النجاشي الذي هاجر اليه المسلمون في الهجرة الأولى والثانية، قد أسلم واتبع ما وصله من شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى رفض دفع الخراج لقيصر الروم.

      ثانياً: أنّ هذا النجاشيّ ليس هو الذي أرسل اليه ورسول الله صلى الله عليه وسلم رسله عام تسع من الهجرة، فإن النجاشيّ لقبٌ يحمله كلّ من حكم الحبشة آنذاك، وهو خلط وقع فيه العديد ممن تعرضوا لهذه القصة، من كلا الطرفين.

      يقول ابن تيمية في كتاب الإيمان: "وكذلك لو قيل إن رجلاً يشهد أن محمداً رسول الله باطناً وظاهراً ، وقد طلب منه ذلك، وليس هناك رهبة ولا رغبة يمتنع لأجلها ، فامتنع منها حتى قتل ، فهذا يمتنع أن يكون في الباطن يشهد أن محمداً رسول الله ، ولهذا كان القول الظاهر، من الإيمان الذي لا نجاة للعبد إلا به عند عامة السلف والخلف من الأولين والآخرين إلا الجهمية (جهماً ومن وافقه) فإنه إذا قدر أنه معذور لكونه أخرس أو لكونه خائفاً من قوم إن أظهر الإسلام آذوه، ونحو ذلك ، فهذا يمكن أن لا يتكلم مع إيمان في قلبه، كالمكره على كلمة الكفر ، قال الله تعالى: (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم)، وهذه الآية مما يدل على فساد قول جهم ، فإنه جعل كل من تكلم بالكفر ، من أهل وعيد الكفار ، إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ، فإن قيل: فقد قال تعالى (ولكن من شرح بالكفر صدراً)، قيل: هذا موافق لأولها، فإنه من كفر من غير إكراه فقد شرح بالكفر صدراً ، وإلا تناقض أول الآية وآخرها ، ولو كان المراد بمن كفر هو الشارح صدره ، وذلك يكون بلا إكراه ، لم يستثن المكره فقط ، بل كان يجب أن يستثنى المكره وغير المكره إذا لم يشرح صدره ، وإذا تكلم بكلمة الكفر طوعاً فقد شرح بها صدراً وهي كفر .. الخ"([1]) اهـ.

      ولذلك قال بعضهم: النجاشي شهد الرسول صلى الله عليه وسلم بإسلامه ، وقد كان على رأس نظام الكفر والتثليث بالحبشة ، ولم يعترف بالإسلام اعترافاً جازماً خوفاً على ملكه، وإنما هي إشارة عرف منها الرسول إيمانه .. فنقول وبالله التوفيق:

      1. أنهم اعتمـدوا في هذا الذي قرروه على ما رواه ابن هشام عن ابن اسحق عن جعفر بن محمد عن أبيه ، من خروج الحبشة على النجاشي ، وقولهم له : "فارقت ديننا وزعمت أن عيسى عبد؟ قال: فما تقولون في عيسى؟ قالوا: نقول هو ابن الله. فقال النجاشي ووضع يده على صدره على قبائه ، وهو يشهد أن عيسى ابن مريم لم يزد على هذا شيئاً ، إنما يعني ما كتب في قبائه ، وكان قد كتب فيه هو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، ويشهد أن عيسى ابن مريم عبده ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم ، فرضوا وانصرفوا ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما مات النجاشي صلى عليه واستغفر له".

      وما رواه ابن اسحق عن جعفر بن محمد لم يتحدد له وقت ، فلعله كان في البداية ، ليوافق ما جاء في حديث أم سلمة من خروج رجل من الحبشة عليه. ولكن حديث أم سلمة كله ليس فيه إشارة إلى إسلام النجاشي. والثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل إليه عمرو بن أمية الضمري بعد غزوة الخندق يدعوه إلى الإسلام ، فأخبره النجاشي أنه أسلم على يدي جعفر.

      ولم تكن هذه هي بعثة عمرو بن أمية الضمري الأولى إلى النجاشي ، بل كانت الأخيرة ، أما الأولى فقد كانت بعد غزوة بدر ، فيتضح من هذا أن إسلام النجاشي كان بين غزوة بدر وغزوة الخندق ، ولقد عاد عمرو وجعفر وكل من في الحبشة من المسلمين عقيب فتح خيبر ، وهذا هو بعض حديث أم سلمة : ".. قالت: فقرأ عليه صدراً من "كهيعص" قالت: فبكى والله النجاشي حتى اخضلت لحيته ، وبكت أساقفته حتى اخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم ، ثم قال النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة ، انطلقا ، فلا والله لا أسلمهم إليكما ولا يكادون".

      وكانت هذه زيارة عمرو بن العاص الأولى له بعد هجرة المسلمين إلى الحبشة ، وقبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. وفي حديثها أيضاً: "قالت: فلما دخلوا عليه قال لهم: ماذا تقولون في عيسى ابن مريم؟ قالت: قال جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاءنا به نبينا صلى الله عليه وسلم ، هو عبدالله ورسوله وروحه ، وكلمة ألقاها إلى مريم العذراء البتول ، قالت ، فضرب النجاشي بيده الأرض فأخذ منها عوداً ، ثم قال: والله ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود ، قالت: فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال ، فقال: وإن نخرتم والله ، اذهبوا فأنتم شؤم بأرضي ، والشيوم الآمنون".

      ثم ذكرت أن رجلاً من الحبشة خرج عليه ينازعه ملكه ، وأن النجاشي انتصر عليه ، واستقر له أمر الحبشة ومكن الله له فيها. ثم قالت: فكنا عنده في خير منزل ، حتى قدمنا على رسول الله عليه وسلم بمكة ، وقد هاجرت بعد ذلك أم سلمة إلى المدينة بعد هجرة زوجها أبو سلمة بنحو عام ، ثم توفي زوجها ، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال سنة أربع من الهجرة."سيرة ابن هشام"([2]) .

      1. أورد القرطبي في تفسيره لقوله تعالى: (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ، ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ..)

      وهذه الآية نزلت في النجاشي وأصحابه لما قدم عليهم المسلمون في الهجرة الأولى ، حسب ما هو مشهور في سيرة ابن اسحق وغيره. خوفاً من المشركـين وفتنتهم وكانوا ذوي عدد. ثم هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد ذلك ، فلم يقدروا على الوصول إليه ، حالت بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم الحرب ، فلما كانت وقعة بدر ، وقتل الله فيها صناديد الكفار ، قال كفار قريش : إن ثأركم بأرض الحبشة ، فاهدوا إلى النجاشي وابعثوا إليه رجلين من ذوي رأيكم ، لعله يعطيكم من عنده فتقتلونهم بمن قتل منكم ببدر ، فبعث كفار قريش عمرو بن العاص وعبدالله بن أبي ربيعة بهدايا ، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري وكتب معه إلى النجاشي ، فقدم على النجاشي فقرأ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم دعا جعفر بن أبي طالب والمهاجرين ، وأرسل إلى الرهبان والقسيسين فجمعهم ، ثم أمر جعفر أن يقرأ عليهم القرآن ، فقرأ سورة مريم ، فقاموا تفيض أعينهم من الدمع. فهم الذين أنزل الله فيهم: (ولتجدن أقربهم مودة الذين آمنوا .. – وقرأ إلى – الشاهدين) ([3]) رواه أبو داود .

      1. جاء في "زاد المعاد" جـ3 صـ06 في ذكر خطابه صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي قال:

      ".. وبعث بالكتاب مع عمرو بن أمية الضمري ، فقال ابن اسحق إن عمراً قال له: يا أصحمة إن علي القول وعليك الاستماع ، إنك كأنك في الرقة علينا ، وكأنا في الثقة بك منك ، لأنا لم نظن بك خيراً قط إلا نلناه ، ولم نخفك على شئ قط إلا أمناه ، وقد أخذنا الحجة عليك من فيك، الإنجيل بيننا وبينك شاهد لا يرد ، وقاض لا يجور ، وفي ذلك الموقع الحز وإصابة المفصل ، وإلا فأنت في هذا النبي الأمي ، كاليهود في عيسى ابن مريم .

      وقد فرق النبي صلى الله عليه وسلم رسله إلى الناس ، فرجاك لما لم يرجهم له ، وأمنك على ما أخافهم عليه ، بخير سالف وأجر ينتظر ، فقال النجاشي: أشهد بالله أنه النبي الأمي الذي ينتظره أهل الكتاب ، وأن بشارة موسى براكب الحمار ، كبشارة عيسى براكب الجمل ، وأن العيان ليس بأشفى من الخير .

      ويقول في رده على الرسول صلى الله عليه وسلم: "أما بعد فقد بلغني كتابك يا رسول الله ، فيما ذكرت من أمر عيسي ، فورب السماء والأرض إن عيسى لا يزيد على ما ذكرت تفروقاً([4]) ، إنه كما ذكرت وقد عرفنا ما بعث به إلينا ، وقد عرفنا ابن عمك وأصحابك ، فأشهد أنك رسول الله صادقاً مصدقاً وقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأسلمت على يديه لله رب العالمين.

      وتوفي النجاشي سنة تسع ، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بموته ذلك اليوم ، فخرج بالناس إلى المصلى فصلى عليه وكبر أربعاً. قلت: وهذا وهم والله أعلم ، وقد خلط راويه ولم يميز بين النجاشي الذي كتب إليه يدعوه فهما اثنان ، وقد جاء ذلك مبيناً في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى النجاشي وليس بالذي صلى عليه "([5]).

      1. جـاء في زاد المعاد جـ3ص62 في كتابه صلى الله عليه وسلم إلى ملك عمان: "فسألني أين كان إسلامك([6]) ، قلت عند النجاشي ، وأخبرته أن النجاشي قد أسلم ، قال فكيف صنع قومه بملكه؟ فقلت: أقروه واتبعوه ، قال: والأساقفة والرهبان تبعوه؟ قلت نعم.." إلى أن يقول:

      "ما أرى هرقل علم بإسلام النجاشي؟ قلت: بلى. قال: بأي شئ علمت ذلك؟ قلت: كان النجاشي يخرج له خرجاً ، فلما أسلم وصدق بمحمد صلى الله عليه وسلم قال: لا والله لو سألني درهماً واحداً ما أعطيته. فبلغ هرقل قوله فقال له النياق أخوه: أتدع عبدك لا يخرج لك خرجاً ويدين بدين غيرك ديناً محدثاً به. قال هرقل: رجل رغب في دين فاختاره لنفسه ، ما أصنع به ، والله لولا الضن بملكي لصنعت كما صنع"([7]) .

      1. وما ذكره في "زاد المعاد" عن كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي مع عمرو بن أمية الضمري ، وما ذكره أيضاً عن بعثة عمرو بن العاص إلى عبد وجيفر ابني الجلندي ، وحواره مع عبد بن الجلندي ، يتفق مع ما جاء في سيرة ابن هشام أن عمرو بن العاص بعد غزوة الخندق ، وإحساسه باقتراب ظهور أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قرر هو ونفر من قريش أن يرتحلوا إلى الحبشة ، فإن ظهرت قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد إلى مكة ، وإن ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان هو عند النجاشي فلا يصل إليه ، ثم إنه لما وصل الحبشة ، وزار النجاشي ، وقرب إليه ما معه من هدايا ، وجد عنده عمرو بن أمية الضمري ، فسأله أن يعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتله ، فغضب النجاشي ، وضربه بمروحته ضربة كاد يطير لها أنفه ، وقال له: تسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى لتقتله؟ ، قلت: أيها الملك أكذاك هو؟ ، قال: ويحك يا عمرو أطعني واتبعه فإنه والله على الحق ، وليظهرن على من خالفه كما ظهر موسى على فرعون وجنوده ، قال: قلت : أتبايعني على الإسلام؟ قال: نعم ، فبسط يده فبايعته على الإسلام ، ثم خرجت إلى أصحابي وقد حال رأي عما كان عليه ، وكتمت أصحابي إسلامي.

      وبعد كل هذا يقال عن العبد الصالح النجاشي ، أنه عندما اعترف بالإسلام ، لم يعترف اعترافاً جازماً ، وكان على رأس نظام الكفر والتثليث ، يحكم بغير ما أنزل الله ، عجباً! لقد قالوا ما لو أدركه "على عبدالرازق" قبل شؤمه الذي كتب ، لاشتد بهم فرحه.

      1. أما عن إمكان الخلط بين كون النجاشي مات ملكاً ولم يحكم بحكم الله ، فهو وهم كما بينا ، نتج من اعتبار أن النجاشي الذي كتب له رسول الله صلى الله عليه وسلم عام ست هجرية ومات ملكاً عام تسع ، هو النجاشي الذي قابله عمرو بن العاص ، والذي صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

      فإن هذا غير ذاك ، كما ذكر ابن القيم في "زاد المعاد" ، وذكر أن صحيح مسلم أوضح ذلك.

      جاء في صحيح مسلم: :حدثني يوسف بن حماد والمعنى حدثنا عبدالأعلى عن سعيد عن قتادة عن أنس أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى وإلى قيصر وإلى النجاشي وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله تعالى ، وليس بالنجاشي الذي صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم".

      وذكر مسلم نفس الحديث بسندين مختلفين عن هذا ، كلها عن أنس ، ولم يذكر فيها قوله: "وليس بالنجاشي" ولكن يتضح من مقارنة ذلك مع قصة عمرو بن العاص ، أن رواة السندين الأخيرين قد وهموا ، أو نسوا ما ثبت في رواية الطريق الأول . والله أعلم.

      ويؤيد ذلك ما ورد في "البداية والنهاية" لابن كثير ، فقد قال في روايته عن هجرة المسلمين الأولين إلى الحبشة ، وذكر خطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي سنة تسع قال: ".. هكذا ذكره البيهقي بعد قصة هجرة الحبشة ، وفي ذكره ههنا نظر ، فإن الظاهر أن هذا الكتاب، إنما هو إلى النجاشي الذي كان بعد المسلم ، صاحب جعفر وأصحابه ، وذلك حين كتب إلى ملوك الأرض يدعوهم إلى الله عز وجل، قبيل الفتح ، كما كتب إلى هرقل عظيم الروم .. إلى قوله:"..

      فهذا الكتاب إلى الثاني لا إلى الأول ، وقوله فيه إلى النجاشي الأصحم، لعل الأصحم مقحم من الراوي بحسب ما فهم. والله أعلم)اهـ .

      ثم أورد بعدهـا خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي الأول ، الذي أرسله مع عمرو بن أمية الضمري ، ورد النجاشي عليه ، قال فيه: ".. فأشهد أنك رسول الله صادقاً مصدقاً ، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأسلمت على يديه لله رب العالمين، وقد بعثت إليك يا نبي الله بأريحا بن الأصحم بن أبجر ، فإني لا أملك إلا نفسـي ، وإن شئت أن آتيك فعلت يا رسول الله، فإني أشهد أن ما تقول حق" .

      مستخلص من كاب "فتح المنان في بيان حقيقة الإسلام" د طارق عبد الحليم ص 82 وبعدها

      8 شوال 1437 – 13 يوليو 2016


      ([1]) "الإيمان" ص 188.

      ([2]) راجع قصة النجاشي من "سيرة ابن هشام" جـ1/338:334.

      ([3]) "القرطبي" جـ6/255.

      ([4]) التفروق : غلافة بين النواة والقشر.

      ([5]) "زاد المعاد" جـ3 ص 60 ، 61.

      ([6]) يقصد عمرو بن العاص .

      ([7]) "زاد المعاد" جـ 3 ص 62.