فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      قصة صراع .. بين الحق والباطل

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ﷺ وعلى آله وصحبه وبعد

      ما أعظم القصص القرآنيّ، وما أهداه لمن عقل عنه، وما أعناه لمن استوعب معناه.

      ترى القصص القرآنيّ، يتردد مرة بعد أخرى في آيات الذكر الحكيم، فيحسبه الجاهل تكراراً! بل هو تفصيل لمعنى أجمله الله سبحانه في قوله "ولن تجد لسنة الله تبديلا"فاطر 43.

      نعم، ليس لسنة الله تبديلا ولا تحويلا. الباطل دائما وأبدا لا يغيّر موقفه من الحق. تتكرر مشاهده على مرّ التاريخ، مع كافة الأنبياء، بين كافة شعوبهم، وطغاة حكامهم، سنة الله في الذين خلوْا من قبلهم.

      وهاكم مشهد صراع .. صراعٌ بين الحق في أجلى صوره وأقواها، يحمله رجلٌ عُرف بقوته وشدته، ورجوعه إلى الحق دوماً، وبين الباطل كأشد ما يكون الباطل، في بهائه المزيف وزخرفه المصطنع، صراع بين موسي عليه السلام وفرعون مصر. ونعود إلى الماضي، إلى تاريخ يعود لأكثر من 40 قرناً من الزمن.. لنشاهد تلك المقابلة التي جرت بين موسى وفرعون، حية كأنها تمت بالأمس القريب ..

      فرعون يسأل، كأنه يبغي الحق "قَالَ فِرۡعَوۡنُ وَمَا رَبُّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ﴿٢٣﴾" ؟

      موسي يجيب، متطلعا للجمع كله، لا لفرعون، فالرسالة اليهم أساساً "قَالَ رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَآۖ إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ ﴿٢٤﴾" بصيغة الجمع.

      بدأ فرعون يشعر بالقلق، بأن الآت شر له مما قيل، فلجأ إلى أول حيلة في جعبته، الاستهزاء بموضوع الكلام، كأنه كلام لا يُعقل، كلامٌ مجنون "قَالَ لِمَنۡ حَوۡلَهُۥٓ أَلَا تَسۡتَمِعُونَ ﴿٢٥﴾"، استمعوا لهذا الهراء الذي يقوله موسى، بلهجة استخفاف وتهكم واضحة!

      لكن موسى لم يلتفت اليه، لم يقع في شركه، لم يسر المناقشة في الطريق الذي أراده فرعون، بل سيّرها حسب ما يريد، فواصل مواجهة الجمع المخاطب، كأن فرعون لم ينطق حرفاً "قَالَ رَبُّكُمۡ وَرَبُّ ءَابَآئِكُمُ ٱلۡأَوَّلِينَ ﴿٢٦﴾"، يواصل إيضاح حججه وبراهينه، غير ملتفت لحديث عدوه، منتهزا فرصة أن عدوه غفل عن قوته الحقيقية التي تكمن في المواجهة والبرهان.

      هنا، عرف فرعون أن حجة موسى قاهرة، لا تُدفع بسخرية وتهكم، فلجأ إلى الحيلة الثانية، تدمير الشخصية وتلويثها "قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ ٱلَّذِيٓ أُرۡسِلَ إِلَيۡكُمۡ لَمَجۡنُونٞ ﴿٢٧﴾"، نعم مجنون لأنه تحدى السلطة القائمة، الطاغوت الحاكم، فلابد أن يكون فيه خلل معيب! هو مجنون، أو أن "وَيَذۡهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ ٱلۡمُثۡلَىٰ"طه، أما شخصية قرعون، فهي المثلى، وكريقته هي المثلي، هي سبيل النجاح والرشاد، والتنمية والتعمير، وتوفير الغذاء والكساء " مَآ أُرِيكُمۡ إِلَّا مَآ أَرَىٰ وَمَآ أَهۡدِيكُمۡ إِلَّا سَبِيلَ ٱلرَّشَادِ"غافر.

      فهل خضع موسى وسكت؟ لا، بل استمر كأن فرعون غير موجود على الأرض. إصلاار عجيب على الدعوة، والتمسك بالحق في وجه القوة الغاشمة "قَالَ رَبُّ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَمَا بَيۡنَهُمَآۖ إِن كُنتُمۡ تَعۡقِلُونَ ﴿٢٨﴾".

      هنالك أدرك فرعون أنّ هذا رجل لا يقاوَم بالحديث والحوار، وأن دعايته المضادة لن تغنى عنه شيئا، وأن منافقيه من سحرة الاعلام وعباد الطاغوت من "رجال الدين" لن ينصروه على نبي الله، فلجأ إلى ما يلجأ اليه كل طاغية كافر مستبد، التهديد بالقتل، والسجن، وتشريد الأولاد واستحياء النساء "قَالَ لَئِنِ ٱتَّخَذۡتَ إِلَٰهًا غَيۡرِي لَأَجۡعَلَنَّكَ مِنَ ٱلۡمَسۡجُونِينَ ﴿٢٩﴾". إما أن تخضع ونفاوض وتتبع ما نحن عليه، وتترك أحكام الله، فهي لا تصلح لنا، وتلتزم ما يُملى عليك، وإما السجن والقهر.

      جاء دور فرعون ليُظهر أن كلمته هي الحق، يبيّن آيات الله للناس "ليحي من حي على بينة ويهلك من هلك على بينة، فجرى بينهما هذا الحوار الذي انتهي بأن تلاقت آيات الله وباطل فرعون، في مواجهة غير متكافئة. "قَالَ أَوَلَوۡ جِئۡتُكَ بِشَيۡءٖ مُّبِينٖ ﴿٣٠﴾ قَالَ فَأۡتِ بِهِۦٓ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ ﴿٣١﴾ فَأَلۡقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعۡبَانٞ مُّبِينٞ ﴿٣٢﴾ وَنَزَعَ يَدَهُۥ فَإِذَا هِيَ بَيۡضَآءُ لِلنَّٰظِرِينَ ﴿٣٣﴾ قَالَ لِلۡمَلَإِ حَوۡلَهُۥٓ إِنَّ هَٰذَا لَسَٰحِرٌ عَلِيمٞ ﴿٣٤﴾".

      مرة أخرى يجد فرعون نفسه أمام ملئه مهزوما مدحوراً، فلجأ إلى حيلته السابقة، إن هذا لساحر عليم، "يُرِيدُ أَن يُخۡرِجَكُم مِّنۡ أَرۡضِكُم بِسِحۡرِهِۦ فَمَاذَا تَأۡمُرُونَ ﴿٣٥﴾".  يريد أن يخرجكم من أرضكم! انظر كيف أسند الأرض للقوم، ليس لنفسه في هذا المقام، من حيث قال قبل ذلك "قَالَ يَٰقَوۡمِ أَلَيۡسَ لِي مُلۡكُ مِصۡرَ وَهَٰذِهِ ٱلۡأَنۡهَٰرُ تَجۡرِي مِن تَحۡتِيٓۚ أَفَلَا تُبۡصِرُونَ" الزخرف، لكن هنا مقام التمثيل والتخييل والتسهوك، فيقول: هذه ليست أرضي ولا ثرواتي، إنما أن أعمل ليل نهار، أكدّ وأشقى  لنهضتكم وعزكم، ولو استطعت "لبعت نفسي من أجل مصر"!   

      ثارت الطبقات الفاسدة المستفيدة، إعلاما وعسكرا وقضاءّ، فقالوا، ليس من بدٍ أن نهزمه بسلاحه، هو ساحر فلنأت بالسحرة فنفضحه. ولم يعلموا أن قدر الله جار وسننه لا تتخلف، وأن الحق لا يخبو، فكان هذا الترتيب الإلهي: "قَالُوٓاْ أَرۡجِهۡ وَأَخَاهُ وَٱبۡعَثۡ فِي ٱلۡمَدَآئِنِ حَٰشِرِينَ ﴿٣٦﴾ يَأۡتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٖ ﴿٣٧﴾ فَجُمِعَ ٱلسَّحَرَةُ لِمِيقَٰتِ يَوۡمٖ مَّعۡلُومٖ ﴿٣٨﴾ وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلۡ أَنتُم مُّجۡتَمِعُونَ ﴿٣٩﴾ لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ ٱلسَّحَرَةَ إِن كَانُواْ هُمُ ٱلۡغَٰلِبِينَ ﴿٤٠﴾ فَلَمَّا جَآءَ ٱلسَّحَرَةُ قَالُواْ لِفِرۡعَوۡنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجۡرًا إِن كُنَّا نَحۡنُ ٱلۡغَٰلِبِينَ ﴿٤١﴾ قَالَ نَعَمۡ وَإِنَّكُمۡ إِذٗا لَّمِنَ ٱلۡمُقَرَّبِينَ ﴿٤٢﴾ قَالَ لَهُم مُّوسَىٰٓ أَلۡقُواْ مَآ أَنتُم مُّلۡقُونَ ﴿٤٣﴾ فَأَلۡقَوۡاْ حِبَالَهُمۡ وَعِصِيَّهُمۡ وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرۡعَوۡنَ إِنَّا لَنَحۡنُ ٱلۡغَٰلِبُونَ ﴿٤٤﴾ فَأَلۡقَىٰ مُوسَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلۡقَفُ مَا يَأۡفِكُونَ ﴿٤٥﴾ فَأُلۡقِيَ ٱلسَّحَرَةُ سَٰجِدِينَ ﴿٤٦﴾ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا بِرَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ﴿٤٧﴾ رَبِّ مُوسَىٰ وَهَٰرُونَ ﴿٤٨﴾". انقلب عملهم الأسود عليهم، دان السحرة بالحق. وإنهم ورب الكعبة لفي كفرهم أفضل آلاف المرات من أمثال إعلاميي اليوم، السفلة المرتدين، الذين يرون الحق ويعرفونه، ثم يزيفونه على علم.

      وعاد كيد فرعون خسارعليه. فما كان إلا أن قرر التنكيل بكل ما له صلة بموسى وهارون، استئصالهم من الأرض، قتلا واعتقالا وحبسا واغتيالا، وتشريدا لهم لأبنائهم وأسرهم "قَالَ ءَامَنتُمۡ لَهُۥ قَبۡلَ أَنۡ ءَاذَنَ لَكُمۡۖ إِنَّهُۥ لَكَبِيرُكُمُ ٱلَّذِي عَلَّمَكُمُ ٱلسِّحۡرَ فَلَسَوۡفَ تَعۡلَمُونَۚ لَأُقَطِّعَنَّ أَيۡدِيَكُمۡ وَأَرۡجُلَكُم مِّنۡ خِلَٰفٖ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمۡ أَجۡمَعِينَ ﴿٤٩﴾ قَالُواْ لَا ضَيۡرَۖ إِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ ﴿٥٠﴾ إِنَّا نَطۡمَعُ أَن يَغۡفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَٰيَٰنَآ أَن كُنَّآ أَوَّلَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ﴿٥١﴾". الشعراء. حتى أتاهم نصر الله فأنجاهم، بما فعل موسى عليه السلام من وقفة حق في صراع مع الباطل "وَإِذۡ نَجَّيۡنَٰكُم مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ يَسُومُونَكُمۡ سُوٓءَ ٱلۡعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبۡنَآءَكُمۡ وَيَسۡتَحۡيُونَ نِسَآءَكُمۡۚ وَفِي ذَٰلِكُم بَلَآءٞ مِّن رَّبِّكُمۡ عَظِيمٞ" البقرة.

      قصة صراع يتكرر، وحقائقه تتقرر، فانظر فيها يا رعاك الله، فهي ماثلة أمام عينيك، أو قريبا من ديارك.

      د طارق عبد الحليم

      10 رمضان 1437 – 15 يونيو 2016