فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      أحداث أوروبا .. أسباب ونتائج - الجزء الرابع والأخير

      انتهينا في الجزء الثالث إلى أنّ "هناك عدد من القواعد الشرعية والمفاهيم التي تقع تحتها الأحكام المتعلقة بهذا الشأن، شأن توسيع رقعة المواجهة، بعد أن وصلنا إلى نتيجة أن:

      1. العدو الأول والأصيل هم الحكام العرب ونظمهم وجيوشهم.
      2. المواجهة تتم أصلاً على أرض المسلمين في عقر دارهم.

       من تلك القواعد والمفاهيم أنّ:

      • "التكليف منوط بالقدرة"، فالانسان لا يُكّلف بما لا يقدر عليه "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها"
      • الطلب الشرعي درجات عديدة، إيجابا وندبا وإباحة. والإباحة أنواع منها التخيير متساو الطرفين ومنها العفو ورفع الجناح، وتتغير صفة الطلب بين الفرد والجماعة.
      • دفع المضرة مقدم على جلب المصلحة، ودفع المضرة القريبة منها أولى من دفع البعيدة، والأعظم منها فالأقل.
      • أن مفهوم العام منه ما هو عام بإطلاق، وعام مخصوص، وعام يدخله الخصوص. وكلّ من هذه الأنواع قد تختلف في خطاب الفرد عنها في خطاب الجماعة.
      • أن قاعدة "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب" ليست على إطلاقها. فالعموم الوارد على النص المخصوص يمكن تخصيصه والاستثناء منه، وأقرب مناطاته هو سبب نزوله، فيلحق في النظر أولا بما شابهه.

      نظرة شرعية

      يجب على الدارس للشريعة، والفقه بوجه خاص ان يحدد المجال الذي ينظر فيه حتى لا تختلط عليه الأحكام. وفي مسألتنا هذه، نود أن نشير إلى أن هناك فرق عظيم بين الآيات القرآنية التي تتحدث عن الإسلام والكفر، ضوابطهما ومعانيهما وحدودهما من ربوبية وألوهية وصفات الله عز وجل، وأبواب الولاء والبراء، وبين آيات الجهاد التي تختص بقتال من تمّ توصيفهم بالكفر حسب الآيات الأولى، أحوال الجهاد وأنواعه وضوابطه ومناطاته. وقد ذهب كثير ممن ابتلينا بهم في عصرنا هذا، خاصة من الحرورية، إلى الخلط بينهما، فعمموا الخاص، وأطلقوا المقيد، وخلطوا المناطات، وهي من أهم صفات أهل البدع، ومُعرِفات الفِرَق. فإذا بهم يذهبون إلى أنّ "كلّ كافر يقاتل ويقتل، إن قُدر عليه، في أي مكان أو حالة، سواء في جهاد طلب أو دفع صائل. ثم لم يفرقوا بين آيات الجهاد التي نزلت في جهاد الطلب، كنا سنرى، مثل التوبة وآيات القتال في البقرة، بعد الحديبية، والذي هو من باب جهاد الطلب  وبين ما نزل في دفع الصائل وقتاله، الذي هو من باب دفع الظلم وردّ العدوان.

      ففي الآيات المختصة بتحديد التوحيد ومعاني الاسلام والكفر، جاءت آيات كثيرة جداً، تصف الأعمال المكفرة، في أعلى مناطاتها[1]، وخاصة في سورة المائدة، التي نزلت بعد الحديبية، مثل "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"[2]، و"أفحكمَ الجاهلية يبغون، ومن أحسن من الله حكما لقوم يؤمنون"[3] ، و"ومن يتولهم منكم فإنه منهم"[4] و "قد كان لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنّا بُرآء منكم ومما تعبدون من دون الله، كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده"[5]، و"يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم "[6].

      أما أحكام الجهاد، فقد تركزت في سورتي الأنفال والتوبة، وأسموهما القرينتين[7].. وبعضها مما نزل قبلها بقليل في البقرة، ففيهم مسائل:

      إذا نظرنا في آيات الجهاد، خاصة في سورة التوبة، أو الفاضحة كما أسماها ابن عباس، والتي تنزلت بعد فتح مكة، وكانت آخر سورة نزلت في القرآن[8]، لوجدنا فيها مسائل عديدة تتعلق بموضوعنا هذا:

      • آيات الجهاد العام وإعلان النفير، وردّ عهود المشركين، الذين لم يعاهدوا، أو استيفاء عهود من عاهد إلى أجلها دون تجديد، تم بعد استقرار دين الله بالتمام، وإتمام التمكين للإسلام في مكة والمدينة، وغالب قبائل الجزيرة من حولها "فسيحوا في الأرض أربعة أشهر وأعلموا أنكم غير معجزي الله"[9].

      وهذا أمرٌ يجب النظر فيه بتمعن وتمحيص. فإن كافة تلك الآيات القادمة نزلت بعد التمكين، ومنها بعد فتح مكة، فتطبيقها على وضع المسلمين اليوم خلط في مناطاتها، لا يليق بعالم أبداً. كما أنها في جهاد الطلب، فأحكامها لا تتعلق بجهاد الدفع.

      • قول الله تعالى "وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة" التوبة 36  قال الطبري: "(وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة)، فإنه يقول جل ثناؤه: وقاتلوا المشركين بالله، أيها المؤمنون، جميعاً غير مختلفين، مؤتلفين غير مفترقين، كما يقاتلكم المشركون جميعًا، مجتمعين غير متفرقين"[10]. وقال القرطبيّ (أي محيطين بهم ومجتمعين)[11].

      وهذا المعنى غير متعارف عليه بين العامة وأنصاف المتعلمين، بل يعتقدون معناها أن قاتلو كلّ المشركين، كما يقاتلونكم كلهم، فكافة تعود على المسلمين، لا على القتال، كما لو قيل وقاتلوا كافة المشركين". وهذا فرق دقيق حقيق بالاستيعاب. إذ قد أخذه من لا علم له وطار في الآفاق، أنه يمكن ان نقاتل كافة المشركين في أي مكان.، في كل حال ووقت، وبأي وسيلة كانت.

      • أمّا قول الله تعالى في البقرة "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا"190 إلى قوله تعالى "وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم ألى التهلكة"195، فقد نزلت بعد الحديبية. فقد سبقها الحديث عن الحج وأحكامه "يسألونك عن الأهلة" ولحق بها الحديث عن الحج وأحكامه "وأتموا الحج والعمرة لله" 196.
      • جاء في تلك الآيات الخمس من البقرة قوله تعالى "واقتلوهم حيث ثقفتموهم، وأخرجوهم من حيث أخرجوكم"191. جاء في القرطبيّ (رجلٌ ثقفٌ لَقْفٌ أي محكماً لما يتناوله من الأمور)[12].

      فالمقصود هنا ليس ثقفتموهم أي وجدتموهم، كما يفهمه كثير من الناس، بل حيث يكون من الحكمة التي يدل عليها المٌقاتل الثقفُ، لا في أي مكان.، في كل حال ووقت، وبأي وسيلة كانت. فقد يكون من الحكمة قتالهم في بعض المواضع، وقد لا.

      • قوله تعالى "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله"البقرة 193، جاء في القرطبي في تفسيرها (أمرٌ بالقتال لكل مشرك في كل موضع .. والحديث "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" .. فالآية والحديث على أن سبب القتال هو الكفر"[13]. قلنا:

      وكون السبب هو الكفر لا يعني أنّ كلّ كافر فرد في أيّ مكان يجب قتاله وقتله، فإن في هذه الآية إطلاق مُقيَّدٌ بالدعوة أولاً، وإلا فلا مجال للدعوة ابتداءً. كما انه حكم للجماعة لا للفرد، إذ يجب على الجماعة المتمكنة أن تدعو ثم تقاتل حين القدرة.

      • قوله تعالى "قاتلوا الذين يلونكم من الكفار" التوبة 123، فهي واضحة في أنّ الأول هو قتال الأقرب فالأقرب. قال القرطبيّ (فيه مسألة واحدة وهو أنه سبحانه عرفهم كيفية الجهاد وأن الابتداء بالأقرب فالأقرب من العدو)[14]. قال الكبريّ (قاتلوا من وليكم من الكفار دون من بعُد عنكم)[15].
      • وأما قوله تعالى "اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كلّ مرصد" التوبة 9

      ففيما أرى، أنها الآية الوحيدة في هذا السياق التي تدل على قتال الدفع، إلى جانب آيات دفع الظلم ورد العدوان. والأقرب في فهم "حيث وجتموهم" أي في بلادكم، بدليل قوله تعالى بعدها "واحصروهم، قال القرطبيّ (يريد عن التصرف إلى بلادكم والدخول اليكم)[16]. ويقول الطبريّ (واحصروهم: يقول وامنعوهم التصرف في بلاد الإسلام ودخول مكة)[17]. فالمعنى هنا هو أنه من رأيتم منه خطراً لغزوكم ودخول بلادكم فامنعوه، بكل وسيلة من الدخول. لكنّ هذه الوسائل، مرة أخرى، محكومة بما في سورة البقرة من نهي عن قتل الصبيان والنساء والرهبان والزَّمنى والشيوخ والأُجَراء[18].

      ثم إذا نظرنا في السنة النبوية، وجدنا أنّ جهاد الدفع حدث في أعلى صوره، في غزوة الخندق، التي وقعت عام خمسة من الهجرة الشريفة، ولم نر رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل مجموعات صغيرة "تنغمس" في المشركين المتآمرين على المسلمين، رغم علمه بما كان يدور بين قريش وغطفان وبني النضير بعد إجلائهم. فهذا جهاد دفع لا شكّ فيه. أمّا عن غزوة بني النضير في عام أربعة من الهجرة، التي سجلها القرآن في سورة الحشر، فقد كانت جهاد طلب، ولذلك حرّق رسول الله صلى الله عليه وسلم نخلهم لإضعافهم، وكانوا مجاورين له في أرض المدينة، ولم يُعرف أنه قتل أحد منهم.

      مما تقدّم من نظر في الآيات القرآنية التي نزلت في خصوص الجهاد، وفي بعض أحداث السنة، نرى أنّها:

      أولاً: نزلت بعد الحديبية والفتح، وهو وقت التمكين التام لرسول الله صلى الله عليه وسلم في جزيرة العرب بعامة، وفي مكة والمدينة بخاصة، دون وجود ما يهددهما من خارج.

      ثانياً: هذه الآيات تخص جهاد الطلب، وهو الفتح (الغزو لنشر الدعوة)، لا جهاد الدفع الذي يقع دون تمكين، وبأي وسيلة كانت لحصر المشركين عن التصرف في أرض المسلمين والاستيلاء عليها، مع مراعاة مقيدات الأمر بالقتال كما ذكرنا مما تقدم في البقرة.

      ثالثاً: هناك فرق بين جهاديّ الطلب والدفع، وهو حدود ما يمكن في كليهما، من حيث القدرة على الخروج للطلب والقدرة على دفع الصائل التي يتاح فيها كل وسيلة مقدور عليها في أرض الإسلام. وضرورة وجود التمكين في أحدهما دون الآخر.

      رابعاً: التأكيد هو على أنه يجب إزالة العدو الأصليّ الذي عرّفناه فيما سبق بأنه حكام بلاد المسلمين وملوكها وأمرائها، بعد معرفة حكمهم الشرعيّ بالردة والكفر، فهم أولى وأقرب، طلياً ودفعاً، عند أيّ عاقل.

      فإذا عرفنا الحكم الشرعيّ في هذا المحل، أمكننا أن ننظر إلى المصالح فيه والمفاسد، من حيث تتبع الحكم الشرعي بعد تحديده، لا العكس كما بيّنا.

      والمصالح اليوم في اتباع الحكم الشرعيّ في التركيز على الأنظمة، دون عمل التفجيرات في بلاد الغرب الصليبية، متعددة، منها:

      أولاً: عدم تشتيت الجهد وإضاعة المصادر في مثل تلك العمليات التي لم، ولن تأت بهدم تلك الأنظمة، إلا عند محدودي الخبرة بطبيعة تلك الدول وقدرتها وسياسات حكوماتها.

      ثانياً: لمّا شحت المصلحة في مثل تلك الأفعال، فإنه يمكن القول أنّ عدم القيام بمثلها يجعل الحكومات الصليبية تلهث وراء مبرر أمام شعوبها لضرب المسلمين وغزوهم. ويقول قائل، هم لا يعدمون سبباً، قلنا، نعم، لكننا نجعله أسهل عليهم وأشد تأثيراً على قاعدتهم الانتخابية التي يخشونها أكثر مما يخشون إلههم! فمثلاً غزا بوش الصغير العراق بزعم أسلحة الدمار الشامل، التي ليس لها أصل، لكن قاعدته الانتخابية رفضت هذا الغزو، وسرعان ما أعلنوا ذلك، وما كان قبولهم الأصلي إلا تأثراً بموضوع 11 سبتمبر. بينما وقفت كل الشعوب الغربية مع حكوماتها الصليبية في ضرب "المجاهدين" باسم مقاومة تنظيم الدولة الحروري، رغم علم الحكومات أن المستهدف أولاً هم السنة، إلى أن ينتهي دور مغفلي الخوارج، فيعودوا عليهم بالدمار، كما هو حادث هذه الأيام. أمّا الشعوب، فهي لا تعرف فرقاً بين نصرة ودولة، ولا بين سنة وحرورية. فكانت أفعال الحرورية من قطع الرؤوس مشجعاً وضامنا للغزو الصليبي، ودعم بشار والسيسي.

      ثالثاً: أنّ هذه الضربات لن تأتي بتدمير دولة من تلك الدول، ولو قتلت ألفاً دفعة واحدة. فما الغرض منها إذن؟ هو على أحسن تقدير، ردّ العدوان بعدوان، وشفاء صدور المؤمنين، الذين يرون أبناءهم وأهاليهم يقتلون في كل لحظة. لكننا نرى أنّ هذا الشفاء وإن كان مشروعاً إلا أنّ الجهاد لم يُشرع للإنتقام، بل لتحقيق غايات محددة، هي حماية أرض المسلمين أولاً، وفتح أرض غيرهم لنشر الدعوة ثانياً، حال التمكن.  

      رابعاً: أنّ مصلحة كسب الشعوب الغربية، أو جزء منها، ووقوفها ضد حكوماتها في عدوانها، أكبر فائدة من مقتل عشراتٍ أو مئاتٍ من الأهالي المدنيين، في حانات أو فنادق أو مطارات، رجالا ونساء وأطفالاً.

      خامساً: تأتي إيران المجوس، وهي ما يلينا من أرض العدو، لم لا تكون الضربات والتفجيرات على أرضها؟ فهي الأقرب مما يلي المسلمين، وهم العدو الخارجيّ الأكبر خطرا وحجماً اليوم، من روسيا والغرب معا. كما إنها أصبحت حاكمة في بلاد المسلمين، في لبنان والشام والعراق، فمكافحتهم وحصرهم بأي وسيلة هو من باب دفع الصائل أصلاً.

      الخلاصة

      ونخلص هنا إلى أنّ تلك الأحداث التي تقع في أوروبا أو أمريكا، ليست على النهج القرآنيّ للمتأمل الدقيق، الذي يجمع أطراف الأدلة، ولا يعتسف ولا يتحرى نتائج محددة، بل ينظر إلى الدليل كرائد متبوعٍ، ثم ينظر في مصلحة الأخذ به.

      ومن هنا كذلك ننصح كلّ الجماعات، التي تتبني مثل هذه الأحداث، أن تفكر في عواقبها، وأن تدرس مآلاتها، وأن تتأكد من حكمها الشرعيّ. وما قدمناه في هذا البحث، قد يكون معينا وموجها في هذا الإطار.

      د طارق عبد الحليم

      1 أبريل 2016 – 22 جمادي ثاني 1437

      [1]  آيات القرأن لا تأتي إلا بأعلى المناطات في صفات المؤمنين والكافرين والمنافقين، وتُبيّن السنة ما بين ذلك من المناطات. راجع الموافقات ج3 كتاب الأدلة، المسألة السادسة ص 140، طبعة دار المعرفة 1975

      [2]  المائدة 44، وقد بيّنا في عدة أبحاث موضع قول ابن عباس "كفر دون كفر" فارجع اليها، منها ما ورد في الطبري بتفسير أحمد ومحمود شاكر ج 10 ص 245 وبعدها، طبعة دار ابن الجوزي

      [3]  المائدة 50

      [4]  المائدة 51

      [5] الممتحنة 4

      [6]  الممتحنة 13، وفيها بيان أن موالاة الكافرين من أمور التوحيد التي لا تحل ولا في الضرورة.

      [7]  انظر القرطبي ج 8 ص3، طبعة المكتبة العربية 1967

      [8]  انظر التحرير والتنوير ج 10، ص5، طبعة مؤسسة التاريخ

      [9]  التوبة 1

      [10]  انظر الطبري ج 14 ص242 طبعة دار ابن الجوزى

      [11]  القرطبي 8 ص 136

      [12]  القرطبيّ 2 ص 351، وورد نفس المعني في الطبري

      [13]  القرطبي 2 ص 354.

      [14] القرطبي ج 8 ص 297

      [15]  الطبريّ ج 14 ص 574

      [16]  القرطبي ج 8 ص 73

      [17]  الطبري ج 14 ص134

      [18]  القرطبيّ ج2 ص351