فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      القول الأمين في الإقامة بين ظهراني المشركين

      • 3032 قراءة
      • 0 تعليق
      • 13:39 - 02 نوفمبر, 2015

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وبعد

      قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "(أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين) قيل: يا رسول الله ولم؟ قال: (لا تراءى ناراهما)[1]. وسبب الحديث أن رسول الله بعث خالد بن الوليد إلى ناس من خثعم فاعتصموا بالسجود فقتلهم فوداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بنصف الدية ثم قال أنا بريء من كل مسلم أقام مع المشركين لا تراءى ناراهما.

      وواضح من سبب الحديث أنّ وجود هؤلاء القوم المسلمين من خثعم بين ظهراني المشركين قد تسبب في قتلهم خطأً، ولذلك قضي بنصف الدية، لأنه صلى الله عليه سلم حمّلهم نصف الدية لوجودهم بين المشركين. وهو نصّ على التحريم في وقت جهاد الطلب، وظاهر في غيره.

      والعموم في قوله صلى الله عليه وسلم في لفظ كلّ مسلمٍ، لابد أن يكون مخصوصاً، سواء بوقتٍ أو غرضٍ، فقد صحّ أن قوافل تجارية كانت تخرج من المدينة إلى اليمن والشام وأرض الروم أيامه صلى الله عليه وسلم، والقوافل تقيم فترات من الزمان، وليس من المستبعد أن يتخلف منها متخلف لقضاء حاجة أو إتمام صفقة. ولو كان العموم على إطلاقه لناقض العادة ولم يكن جاريا على معهودها، وهو لا يستقيم مع الشريعة، بل يعد من التكليف بما لا يطاق. قال الشاطبيّ "وثبت فى الأصول الفقهية امتناع التكليف بما لا يطاق وألحق به امتناع التكليف بما فيه حرج خارج عن المعتاد فإذا كل أصل شرعى تخلف عن جريانه على هذه المجارى فلم يطرد ولا استقام بحسبها فى العادة فليس بأصل يعتمد عليه ولا قاعدة يستند إليها"[2].

      كما جرى على ذلك عمل السلف والخلفاء من بعده. فإن الحاجة البشرية للتنقل والترحال لا يمكن حصرها ولا يأت شرع بتحريمها. ومن ثم، فإن هذا العموم في الحديث، مخصوص بالعادة والعرف، وبأوقات جهاد الطلب، وبالمصلحة مثل طلب علم ينفع المسلمين وليس له نظير بينهم، وبدفع ضرر قائم مثل التطبب من داء لا دواء له إلا في أرضهم، أو الفزع من ظلمٍ واقع يخشى منه الحبس أو القتل، حتى يرتفع سبب الاستثناء.

      وقد جاء نص الحديث "بين ظهراني المشركين"، فالأصل فيه هو عدم الإقامة في أي تجمع يغلب عليه الشرك، وهو يشمل الدول الحديثة بطريق الأولى، وهو ما يدور عليه قولنا.

      وسنناقش عدة نقاط في هذا الباب:

      1. إذا نظرنا إلى دول العالم وجدناها تنقسم إلى رقعتين، رقعة يغلب على سكانها الشرك، سواء من أهل الكتاب أو المجوس أو غيرهم، يشاركهم فيها ما بين واحد إلى عشرة بالمائة من تعدادها، في أوروبا وأمريكا الشمالية  خاصة وهي الأوسع. ورقعة يغلب على سكانها الإسلام، أصلاً، وإن خرج جمع منه إلى الكفر والعلمانية والزندقة وغيرها، وهي ما يسمى بالبلاد الإسلامية.
      2. ليس في أيّ بلد من هذه البلدان ما يمكن أن يُطلق عليه دار إسلام بتعريفها الذي ينص على أنها تُحكم بشرع الله وحده، وهو ما تؤكده كافة دساتيرها التي تسيّر أمور التشريع فيها، عدا المملكة السعودية، التي ظاهر دستورها الإسلام، وإن خالفته الممارسة في أفعال تجعل هذا الظاهر باطلاً في الدلالة واقعاً[3]. فأصبحت تلك الأوطان، من هذا النظر، كدول، سواسية مع سائر دول العالم كله.
      3. يمكن النظر الي "البلاد الإسلامية" من حيث هي مجتمعات بشرية، بعض النظر عن حكوماتها أو صفتها الإسمية كدول، بل فقط باعتبار حال غالب أفرادها. ولهذا السبب بيّنا أن الحديث يشمل معنى الجماعات أصلا، والدول بطريق الأولى.
      4. بالنظر إلى "الدول" القائمة، لا يوجد ما يمكن أن يميز أحدها عن الآخرى، تشريعياً، إلا ما جاء في تفصيلات بعض قوانينها الخاصة بالأحوال الشخصية، والتي لم يبق عليه المشرعون فيها إلا للعادة والتقاليد الموروثة، لا لصلتها بعقيدة الإسلام. ومن ثمّ فليست عمان الأردن أو قاهرة مصر بأفضل من ستوكهلم أو نيويورك، خاصة أن الأحوال الشخصية في البلدان الأوروبية مفتوحة بشكل عام، لا تمنع، عرفاً وقانونا، أي ممارسة لشعائر أو معاملات شخصية على أي دين أو تقليد، إذ يتم فيها الزواج الإسلامي، بل والتعدد دون إشكالات، كما لا يمنع القانون من وضع الوصية على أي شكل يريده الموصي. بل هي أفضل من مصر أو تونس، على سبيل المثال في حرية الشعائر الإسلامية، لا تزال.
      5. وبالنظر إلى تلك الدول كتجمعات مدنية، يأتي النظر فيها إلى الحديث من حيث أن المنع أصلاً وقع على "ظهراني المشركين"، وهو ما قد يؤدى إلى أفضلية الإقامة بين الجموع التي يغلب علي أهلها الإسلام، بغض النظر عما يسودها من قوانين. وهذا أقرب إلى الاعتبار من حيث إنه يؤدى إلى ما يدل عليه العموم في الحديث. فإن الحياة المستمرة بين ظهراني المشركين، كمجتمع تورث تعود المعاصي وعدم نفرة القلب منها، إلا من عصم الله، كما تؤدي إلى زوال الصلة بين الجيل الثاني وما بعده عن أصلهم، وتستبدل عادات المشركين وأعرافهم وطرق حياتهم وفكرهم بعادات المسلمين وأعرافهم. وكم من عائلات ذابت في تلك المجتمعات وفقدت هويتها بالكامل، ومنها من فقد بعض أفرادها، يقع فريسة النمط الغربي بالتمام، ويترك الإسلام اسما ورسما.
      6. ثم إنه يجب النظر هنا إلى دواعى الإقامة في تلك الدول. وهي تنحصر في طلب الرزق، وطلب العلم الدنيوي، والتداوي، والتمثيل الدبلوماسي، والفارين من ظلم.
      7. أما عن التمثيل الدبلوماسي فهو أصلاً محرمٌ في ظل الأنظمة الطاغوتية العربية.
      8. أما عن التداوي فلا بأس به حتى تنقضي الحاجة اليه، وهو من قبيل كشف عورة المرأة للطبيب، ومثله طلب العلم الدنيوي، وكذلك التجارة فيما لا يحرمه الشرع.
      9. أما أسّ المشكلة فهو في طالبي الرزق، إذ من ناحية يقال: لا يرتفع التحريم إلا لدفع ضرر لا لطلب مصلحة، وتوسعة الرزق طلب مصلحة تحقيقاً، فلا يحلّ بسببه الإقامة في تجمعات الشركية، إلا إن اعتبرنا هذه التجمعات كدول تتساوى كلها في الحكم، وأغضينا البصر عن البعد الاجتماعي في المسألة. ومن قائل: إنّ الحياة في البلاد التي يغلب على سكانها الإسلام أصبحت تنحدر بأهلها إلى حد الفقر والعوز، والحصول على المال حاجة مؤكدة شرعاً، فدفع ضرر العوز هنا ثابت. وهذا يقودنا إلى القول بأن أمر الإقامة في تلك الدول، في الحال التي عليها بلاد المسلمين اليوم، لطلب الرزق، تقع بين التحريم، والكراهة ورفع الحرج لحين زواله. وهو أمر يعود إلى كلّ مكلّف بتحقيق مناطه الخاص، والنظر في أحواله بنفسه، لا يفيده فيها مفت أو عالم. لكن الشرط هو عدم نية الإقامة الدائمة على وجه التأبيد، إذ إن ذلك يرفع حكم التحريم الأصلي، وهو ما لا يجوز شرعاً، بل يجب استصحاب نية العودة لبلاد المسلمين بعد ارتفاع الحاجة. وهذا القول الذي تبنيناه يتنزل على حال من يرى أنّ الحديث يشمل الجماعة المسلمة، لا الدولة المسلمة، وإلا فلا فرق.
      10. أمّا عن الفار من الظلم، خوفا من ضرر السجن أو التعذيب أو القتل، أو الضرر المادي والمعنوي بعامة، فإن الضرر مرفوع في الشريعة، إذ هو في حال المستضعفين، وقد أوجب الله عليهم أن ينزحوا إلى مكانٍ يُؤمن فيه على الحياة والنفس والمال. وقد ورد في آيات الذكر الحكيم، عتاباً على المستضعفين ممن ظلّ تحت طائلة من لايراعى إلّا ولا ذمة "إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا". وهذه الآيات، وإن كانت قد نزلت أصلاً في نزوح المستضعف في بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام، فمفهوم الخطاب فيها إنها الحث على الخروج من بلاد الظلم إلى مكان يجد فيه عدلاً وأماناً، كما صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في السيرة بحادثة هجرة المسلمين إلى الحبشة " لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكًا لا يظلم عنده أحد".

      فرفع الظلم هو مبدأ أساسي من مبادئ الشريعة لا يصح أن يعارضه جزئي فيها. وقد عُرف عن البلاد الغربية أنها يسود فيها العدل الموافق للطبيعة البشرية، وإن اختلف الحال في العقد الأخير، نتيجة الهجمة على الإسلام في كافة أنحاء العالم، إلا إنه لا يزال اللجوء إلى بلد غربيّ أفضل للمسلم الداعية الفار بدينه وحياته من أية وحشية تُمارس في بلاد العرب. وقد رأينا كيف أن قطر قد تركت بعض الدعاة لبعض الوقت على أرضها، ثم رضخت للظلم السعودي فأخرجتهم إلى تركيا، على حين!

      وهذا ما تيسر لنا بيانه في هذا المقال، والله وليّ التوفيق.

      د طارق عبد الحليم

      2 نوفمبر 2015 – 20 محرم 1437


      [1]  أخرجه ابو داود والترمذي والطبراني والقول الذي نختاره هنا هو صحة السند المرسل عن قيس ابن حازم كما ذكر الترمذي ونقل عن البخاري هذا القول.

      [2]  الموافقات للشاطبي ج1 ص 99، وراجع تعليقنا عليها في كتابنا "التقريب في فهم الموافقات"

      [3]  وهو ما تؤكده السياسة الخارجية لهؤلاء الملوك خلال العقود السابقة، ويكفي هنا الإشارة إلى أمر ةاحد وهو دعم السيسي المرتد عن دين الله، فيكون حكمهم حكمه، وتدعمه السياسة الداخلية التي ترى فيها الدعاة إلى الله في السجون والمعتقلات. وقد مررت شخصياً بتجربة في العام السالف دلت على التعاون التام بين مخابرات مصر والسعودية بما لا يدع مجالاً للشك في دعمهم الكامل لنظام السيسي.