فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      هذا قولي وأمري إلى الله .. عن أبي محمد المقدسيّ

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وبعد

      دارينا كثيرا، وحاورنا كثيرا، ووجدنا أعذارأ، وردّدنا أفكارا، لكن الموضوع صار مصدراً لإنقسام بين أبناء الطائفة الواحدة، كأننا لم نكتف من انقسام الدواعش، الذين قسموا الساحة وشقوا الجهاد وأقاموا شرخاً عميقا، سيودى بالحركة كلها. فإذا بهذه الفتوى تأتي من صاحب علم وسبق، تقسم ما تبقى من الساحة، وتثير جدلاً عقيما لا يستفيد منه إلا الدواعش.

      وصاحب الفتوى هو الشيخ أبو محمد المقدسي، والفتوى هي أنّ هؤلاء الدواعش ليسوا بخوارج، بل بغاة، لهم حكم البغاة، بل منهم من لا يجب حتى إجراء حكم البغاة عليه.

      وقبل أن أبدأ مقالي هذا، أود أن أبين أن الشيخ المقدسي رجل من رجالات الساحة منذ أواخر الثمانينيات،دوّن عدداً من الكتب التي أكسبته شهرة، وإن لم تكن أكاديمية بمعنى الأكاديمية الصرفة، لكنها لاقت قبولاً بين أوساط الشباب وقتها، لحاجة الساحة إلى من يرفع همتها ويوجه طاقتها، ويقف في وجه الطواغيت، يبيّن قول السنة فيهم، بلا خوف. والرجل قد أخذ نصيبه من السجن والاعتقال والبعد عن الأهل والأحباب، لم نسمع أنه رضخ لأي من هؤلاء الطواغيت. فلله دره في هذا المضمار.

      لكن، لكل جوادٍ كبوة، ولكل عالم هفوة. والذي يستحق إدارة الفكر هنا هو إنك إن تسأل أيّ صاحب علم صادقٍ: هل يجوز عليك الخطأ؟ لقال بلا تردد: نعم ولا شك. لكن تسأله: ففيم أخطأت أنت، في أية مسألة؟ لوجدته حائراً لا يجيب! فإن ذهبت تعرض عليه مسائله واحدة واحدة، لدافع عنها واحدة واحدة، ففيم أخطأ إذن؟ الأمر إنّ المرء لا يرى خطأه، لكنه يعلم إنه قد أخطأ على الجملة، والتعيين يكون ممن حوله من القادرين على تمييز الخطأ من الصواب.

      والشيخ المقدسي قد أخطأ في فتواه، وأخطأ في تطبيقها على السواء، وشذّ في قوله هذا عن جمع أصحاب العلم الذين تحدثوا في هذا الأمر، ولا نعنى بهم فقهاء السلاطين بطبيعة الحال.

      الدواعش العوادية، خوارج بلا شك. تجمعهم طائفة لها رأس وجيش وسلاح، وأمراء وأتباع وداعمون. يقولون بتكفير كلّ من عداهم من الطوائف، ويقتلون رؤوس المجاهدين، في كلّ مكان، بل وكلّ مخالف لهم، بل، كما قال ذنبهم طه الكشاش، في كلمته الأخيرة، من أنّ كل من قاتلهم أو لم يبايعهم فهو كافر. فأصل التكفير بما ليس بمكفّر هو الأصل الكليّ الجامع لهذه الطائفة كلها، وهو ما يدخلها في عداد فروع الحرورية عند كل عالم بالفرق، بلا استثناء، إلا من شذّ، ولا حكم للشاذّ كما هو مقررٌ في الأصول، وفي العقول. ولن أدخل في تفصيلات أصولية أكثر من هذا في هذا الموضع، فقد دونت فيه الكثير، كما دوّن غيرى.

      لكنّ الشيخ المقدسي لا يقدم تأصيلاً حقيقياً لرأيه في إنهم بغاة، أو على الأصح، في إنهم ليسوا بحرورية. بل قدم مجموعة "تبريرات" لا يصمد أحدها عند التفنيد.

      منها إنهم خليط من الخوارج والجهلة والمغرر بهم. وهذا "الدليل" هو عمود حجته. والحق، إنّ هذا ليس بدليل أصلاً. فأولاً، نحن لا نتحدث عن أفراد متفرقين، بل عن طائفة بأكملها كما وصفنا، وهي ليست طائفة سنة قطعا، فما هي إذن؟ هي طائفة حرورية، وفرع من فروع الخوارج، من أسوأ من عُرف منهم على مرّ تاريخنا. هل فيهم جهلة ومغرر بهم، نعم! لكن، هذا لا ينعكس على حكم الطائفة، وإلا لم يكن الروافض روافض، ولا المعتزلة معتزلة .. ولانعدمت الفرق كلها وذابت! وهو ما لم يقل به أحد. هل كان خوارج عليّ كلهم علماء متفقهون؟ لا، كان فيهم الجاهل والمُغَرّر بهم ولا شك. فلم أطلق عليهم الحرورية الخوارج؟ أكان عليّ قاسي القلب غير معتبر للمصالح، جاهل بما عليه تركيبة قومه؟

      هذا أمرٌ يحتاج الشيخ المقدسي أن يبيّنه لأتباعه ولرفاقه قبل أن يبينه لناقديه ومعارضيه، بل هو أمرٌ يحتاج أن يحسمه مع نفسه أولاً وقبل كلّ شئ.

      ومنها إنه والشيخ أبي قتادة يكمل بعضهم بعضاً، من حيث يقول هو إنهم بغاة، ويقول الشيخ أبي قتادة هم خوارج حرورية! ولا أدرى بم يجاب عن هذا الدليل! فالحق لا يعضد بعضه بعضا بالتضاد والفرقة. أحدهما، المقدسي أو أبي قتادة على خطأ والآخر على صواب.

      ولا يقال هنا بل هو ممكن كما قالت المُصَوّبة، فإننا نقول إن ذلك يمكن السكوت عليه إن كان للرأي ما يعضده، أو كان له عدد من المؤيدين من أصحاب العلم، أو كان مما لا يضر في قضية أمة كهذه. وهذا الأخير هو الأهم، وهو ما دعانا للتصدى لهذا الرأي الشاذ، وإلا لم نعر هذا القول اهتماما اصلاً.

      ومنها إن له تلامذة ينظرون اليه وينتظرون إشارته، فهو لا يريد أن يستغل التأمر الدولي فتواه وقوله! مرة أخرى، لا أعلم ما نوع هذا الدليل؟ أهو نصي، أو استقرائي، أو مصلحي؟ وما دخل توصيف الطائفة في هذا الأمر؟ أليس هذا أحرى أن يكون سبباً في توخي الحق، وترك السياسة جانباً؟

      ثم إن توصيف الطائفة، وإن لم ينصرف على كلّ أفرادها، إلا إنه من المشاهد، والمشاهدة دليل اعتمده المقدسي ذاته، أن كافة من يبايع هؤلاء من فاقدي العقل من الشباب، الذي يتلذذ برؤية إصدارات دموية، تخصص فيها الدواعش.

      ثم الطامة الأخيرة هي ما وقع في موضوع التعزية في أحد الدواعش، ثم تعليل الشيخ المقدسي لهذا. فإن تعزيته والد الداعشي لا غبار عليها من حيث إننا مأمورون بتطييب خواطر المكلومين، خاصة والأب ليس داعشياً. وقد نافحنا عن المقدسيّ ضد سباب كلاب الدواعش والحمد لله، لا إكبارا لأحد، ولكن نصرة للحق، فإني لم ألاقي الرجل ولا تحدثت اليه يوماً، وهو من جيل أصغر من جيلي، فلم يكن ممكنا أن نلتقى وأنا في الأردن قديما.

      وإن كان الشيخ المقدسي رضى بذلك السباب، فنحن والله لم نرض به. لكن أن يخرج بعدها فيقول عن المقتول محمد جمال إنه لا يحمل عقيدة الدواعش، وإنه يعرفه، أو ابنه يعرفه أو شئ من هذا القبيل، وإنه متأكدٌ من سلامة عقيدته! فهو أمرٌ يجب أن يترفع عنه المشيخ المقدسي في مجال الساحة الجهادية اليوم.

      الشاب بايع داعشاً، واستمع إلى إصداراتها، ووجده المجاهدون في معسكرهم ومعه سلاحهم، فهل جلس الشيخ المقدسي معه ساعات قليلة قبل الحادث، ليعلم ما هو عليه؟ ألا يصبح المرء مسلما ويغدو كافراً؟ كم من أسبوع أو شهر مضت منذ تحدث اليه آخر مرة؟ ألا يكون مُمكنا أن الرجل قد بدّل؟ أليست بيعته لداعش دليلا على هذا التبدل؟ ثم أيّ رسالة نرسلها للمجاهدين، أن تتركوا من تعرفون من الأصحاب القدامى في ساحة القتال؟ أتردد في القتال؟ وإن قال لم يكن هذا في ساحة قتال، قلنا، أليس للحرورية حكم يطبق عليهم ظاهراً، ثم يبعثون على نياتهم؟ أليس هذا مما يبعث الاضطراب والتردد في نفوس المجاهدين، وهم يلقون أشرس عدوٍ، وجّه ظهره للنصيرية ليقاتلهم ويقتلهم؟

      نحن نقدّر الحرج الذي فيه الشيخ المقدسيّ من حيث ابتليت الساحة، في الأردن بالذات، بانحراف الكثير من أبنائها لهذا الفكر الضال. وكثير منهم أهله وعشيرته وأحبابه. ومن الصعب حقاً أن يقف المرء هذا الموقف ممن له بهم هذه الصلة، فهو يتلمس لهم الأعذار، ويريد أن يجد في اختلاف الرأي مندوحة من أن يضع نفسه هذا الموضع. لكن أليس هذا قَدَرُ من رصد حياته للحق؟

      ندعو الله سبحانه أنّ يوفق الشيخ المقدسي أن يعود إلى الحق في هذا الأمر، فإن زلته هذه لها أثرها على الساحة، وإلا فله في الصمت مندوحة.

      د طارق عبد الحليم – 11 رمضان 1436