فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      مقاصد الشريعة ...والتجديد السني المعاصر - الوثيقة الكاملة

      إعادة نشر مقال نشر بالموقع على شكل حلقات بتاريخ 15 مارس 2011

      (1)

      الدوامة التي يعيشها الفكرُ الإسلاميّ السنيّ، بين إتجاهاتٍ عديدةٍ على الساحة في شِقّي الدّعوة، الفِكر والحَركة، والتحديات العريضة التي يتعرض لها الإسلام في عقر داره من العلمانيين والليبراليين، ومن ناحية، والقبط من ناحية أخرى، أدعَى لأن يسعى السّاعون من أهل العلم لحَسم الخلاف فيه، نظراً لطبيعة المرحلة القادمة في مصر خاصة، وفي العالم العربيّ المسلم عامة.

      ولو ذهبنا نتقصى الفروق القائِمة على مُستوى الفِكر والعَقيدة، نجد أن من هذه الفروق ما له أثرٌ على العقيدة والحَركة جميعاً، ومنها ما يؤثر على العقيدة دون الحركة، ومنها ما يؤثر على الحركة دون العقيدة. كذلك نجد أنّ منها ما زال أثره بعد سلسلة الثورات التي تجتاح العالم العربيّ من مشرقه إلى مغربه.

      ونحن، في مقالنا هذا، ندّعى أن الخلافات العقدية القائمة، إن أغفلنا الشِرذمة القليلون الذين ينتمون لإتجاه الرافِضة، تظل مقبولة في ظلّ دولة مُسلمة يتنتمى اليها أهل السنة، وعدد من أهل البدع، الصغيرة أو المغلّظة، دون أن تتجاوز إلى الشِرك. كذلك ندّعى أنّ الخلافات الحَركية، والتي تأثر بها منهج هذه الإتجَاهات الفكرية بشكلٍ شبه كاملٍ، ترجع جلّها إلى إنعدام النظر الفقهيّ في مقاصد الشرع، أو ضعفه على أحسن تقدير.

      وإذا ذهبنا ننظر في التوجّهات العَقدية والحَركية للمسلمين من أصْحاب النظر الفقهيّ، نجد إنّها تنحصر في الآتي:

      1. أهل السّنة والجماعة: وهؤلاء يتّفقون على ضرورةِ الرجوع إلى الكتاب والسّنة بشكلٍ كاملٍ وتامٍ في القوانين التي تحكم المُجتمع، من خلال التوعية وإحياء الأمة. وكذلك يتفق هؤلاء على رَفض الشَكل الديموقراطيّ الغَربيّ الذي يُرجعونه إلى أن المَرجع في القانونية الدستورية فيه هي للشعب، وليست لله سبحانه. ينشأ عن هذه النقطة خلاف كَبيرٌ في تصوّر الحَركة وبالتالي شكل الحكم المقبول إسلامياً، وفي عدد كبيرٌ من المسائل الحساسة في الداخل والخارج، كالمسألة القبطية ومسألة ولاية المرأة وغيرهما. وهم يؤكدون على فرضية الجهاد بشروطه وموانعه، وبما يناسب طبيعة الشعوب النفسية والجغرافية، وطبيعة المرحلة الزمنية التي يمرون بها.
      2. الجهاديون: : وهؤلاء يتّفقون على ضرورة الرجوع إلى الكتاب والسّنة بشكلٍ كاملٍ وتامٍ في القوانين التي تحكم المُجتمع، مع الإختلاف في تصوّر طريقة التغيير المطلوب. ومن الواضح أن هذا الإتجاه قد فقد كافة مقوّماته الفكرية التي تقوم على إستخدام القوة للتغيير بادئ ذي بدءٍ، كوسيلة وحيدة أصلية واصيلة لتغيير النظم.
      3. الإخوان المسلمون: وهم، كانوا أبداً في خندق الفِكر الإرجائيّ، الذي أثر على حركتهم في قبول الإنخراط في الأشكال البرلمانية الديكتاتورية التي تقوم على الفِكر العِلمانيّ، والتغاضى عن بعض المسلمات الفقهية كولاية المرأة والنصرانيّ. وهذا ما يفسر عدم إشتراكهم في التَخطيط  للثورة منذ لَحظتها الأولى، ثم في دورِهم المّشبوه في "التحَاور" مع النّظام البائد في مصر، جنباً إلى جنبٍ مع أسوأ الأحزاب الديكورية العَميلة، وبعيداً عن الحَركة الوطنية بشَكلٍ عام، مما أفقدَ الكثير من العَامة ثقتهم في الحَركة ومصداقية توجّهاتها لصَالح المجتمع، لا لصَالح وجودها الذاتيّ.
      4. السلفيون: وهؤلاء يتّفقون على ضرورة الرجوع إلى الكتاب والسّنة بشكلٍ كاملٍ وتامٍ في القوانين التي تحكم المُجتمع، مع خطئ هائل في النظر لمعطيات الواقع من ناحية، وهو ما دفعهم لرقض الثورة أولاً، وتوجهات شخصية مصلحية لدى عدد كبير من رؤوسهم من ناحية أخرى مما دفعهم لإستغلال الثورة لصالح تلميع صورهم لاحقاً. هذه التضاربات في التوجه تعكس خللا في الفهم عن الواقع وتحقيق مناطات الأحكام والهوى المردي، مما يضع مصداقية تحركاتهم على المحكّ.
      5. الليبراليون "المُسلمون": وهؤلاء متذبذبون في درجة تمسّكهم بقضية الرُجوع إلى الكتاب والسّنة بشكلٍ كاملٍ وتامٍ في القوانين التي تحكم المجتمع، إذ بينما يصرّحون في بعض القضايا بما يفيد إما عدم ضرورة هذا الحسَم فيها، أو بمحاولة إرجاعها إلى الشرع من خلال التلاعب بمفاهيم إسلامية كالوسطية والتجديد وقبول التعددية، مثل محمد سليم العوا ومحمد عمارة وفهمى هويدى. وقد أظهر الكثير منهم مؤخراً ولاءه للعلمانية الليبرالية أكثر من الإسلام، في عديد من القضايا.
      6. الصوفية: وهؤلاء، على أنّهم من أصحَاب البِدع المُغلّظَة والتي تصِل في بعض صُورها إلى الشِرك، فهم كانوا على الدوام خَدَمٌ للنظام القائم أيا كان إتجاهه. ولا يجب أن نعتبر هؤلاء حركة إذ هم مذهبٌ عقديّ خارج عن السّنة التي هي منهج الأغلبية، فلا نقيم لهم وزنا في موضوعنا هذا.
      7. "الدُعاة الجُدد المُستقلون": وهؤلاء أسوأ القوم حالاً وأخبثهم طوية وأجرأهم على دين الله سبحانه وأخطرهم على عقيدة المسلمين. إذ ليس لدى هؤلاء علم يستندون اليه، بل هم وليدي العصر الفاسق الذي حبس وإعتقل وكمم وطارد وطرد أصحاب النظر الإسلامي الصحيح، ونصف الصحيح، داخل مصرٍ وخارجها، وسَمَح لأجْهزة الإعلام بتلميعِ هؤلاء، مثل عمرو خالد، ليكونوا بديلاً لأهل الحق، أو أنصافه. وهؤلاء ممن يجب الحذر من أثرهم على العامة، وممن يجب أن يَكشف الدعاة المصلحون دورهم الخبيث، بعد أن رُفعت عن أفواههم الكمامات، وأتيح لهم حمل الميكروفونات.

      ومما لا شك فيه أن التجديد، بمفهومه السنيّ الصحيح، والوسطية، بمعناها السلفيّ المحدّد، وقبول التعددية، في إطار منهج أهل السنة والجماعة، كلها مما يتطلبه المسلم الآن في بلادنا، إذ إن مقولة أنّ الإسلام صالح لكل زمان ومكان، يجب أن يتبعها تطبيق مباشر لها في أوجه الحياة المختلفة، وإلا أصبحت شعاراً لا معنى له. وما التقصير في تطبيق قولة الحقّ هذه إلا لقصور فهم المتصدّين للحركات الإسلامية من جهة، وإنحرافٍ في فهم من حاول تطبيقها من ناحية أخرى.

      ومن الضرورى الآن أن نسعى لفهم مقاصد الشريعة، في رتبها العليا، وقواعدها الكلية، ومن ثم في تطبيقاها الشرعية واحكامها الفقهية، ليسلم لنا نظر سنيّ صحيحٌ فيما يعرض علينا من المسائل الحيوية التي نتعرض لها في آننا هذا. وهو ما سنحاول عرضه في مقالاتنا القادمة من غدٍ إن شاء الله تعالى.

      (2)

      يقصِدُ الشرع الإسلاميّ إلى الحِفاظِ على الضَرورات البشَرية الأسَاسية والتي هي الدين، النفس، العقل، المال، العرض، ومن خلال هذا الهيكل، وفي طيّاته، تندرِج كافة مَظاهر الحَياة الإنسانية التي يتناولها التشريع في دَرجاته الثلاثة، الضَرورات والحَاجيات والتحْسينيات، سَواء بالإيجاد أو بالإلغاء. وهذا القَدرُ مَعلومٌ لدارِسى الأصول بشكلٍ عام.

      ولنضرِب مثلاً بموضوعِ الإستفتاءات والتَظَاهرات السِلميّة قي ظِلّ حقِ التعبير.

      فحقُ التعبيرِ يدخل تحت بند حِفظِ الدين، كالدعوة، التي هي صُورةٌ من صُور حُرية التعبير، وهي حِفظٌ للدينِ من بابِ الإيجابِ والوجود، وهو – أي حقّ التعبير - حفظٌ للنفسِ من جِهة العدم، للدِفاعِ عن الحَقّ ورَفضِ الظُلم، إذ لا يُمكُن أن تُحفظ النفس إلا برفعِ الظَلم والقَهر. فهذا ما يجعل هذا الحق، وهذه الحرية، من أعلى مقاصِد التشريع. لهذا فإن هذا الأصل يجب إعتباره بشكلٍ أساسيّ في أية أحكام شَرعيةٍ تتعلق بما ينضوى تحته، كموضوع الإستفتاء والتظاهرات السلمية. فالإستفتاء هو مظهرٌ من مظاهر التعبير عن الرأي، ومُمارسةً عمليةً لهذه الحرية، على شريطة أن يتحقق الأصل الشرعيّ بضَمانِ الحرّية التامّة الحقيقية التي يتحقق بها مَقصد الشَرع، وإلا فإن عدم تحقّق هذا الشَرط يَجعلُ مَقصِد الشرعِ غير مُتحقّق، بل يَكون تلاعباً بالشَرع وتحيّلا عليه. ومن هذا النظر، خَطّأنا من أحلّ الإستفتاءات في ظل العهد البائد، ووقفنا بشدة ضدّ من شارك فيما كان من انتخابات، يستمدُّ منها النِظامُ الخَارجُ عن شَرعية الإسلام شرعية وُجوده، تلاعباً بالشرع ومقاصده. فالعبرة هنا بما تمليه مقاصد الشريعة وما يحفظها على المسلمين حقيقة لا إدعاءاً.

      كذلك النظرَ في التظَاهِر السِلميّ في وجه الحَاكم الظَالم، أو الكَافر بطريق الأولى، إذ يقع تحت نفس الأصل، لكن على المستوى الجماعيّ، لا الفرديّ، مما يجعله الصق بالضَرورة من الإستفتاء أو الإنتخاب. فممّا هو مَعلومٌ في الشَرع أنّ ما كان مندوباً بالجُزء (أي على الفرد) كان فَرضَاً على الكُلّ (أي على الجَماعة)، لمَا تعنيه مصلحة الجماعة من أهمية أعلى من مصلحة الفرد. لذلك فإن مراعاة هذا الأصل في صورة التظاهرات السلمية أولى وأكثر وجوباً من الإشتراك في الإستفتاءات أو الإنتخابات.

      فأن يأتى من يَستشهِد بحديثٍ عن طَاعة الحَاكم الفاسق، عليه أن لا يخرُج منه بما يضرِب دين الله بعضَه ببعض، وأن لا يلتزم الظاهرية في فهم الحديث، بل يجب أن ينظر في لفظ الحديث نظراً فاحصاً، وأن يجمع بينه وبين غيره من الأحاديث والنصوص التي توضّحُ مناطاتها بالفهم المُستقيم، الذي لا يُعارِض مقاصد الشريعة وقواعدها الكلية. فإن وُجد مثل هذا التَضارب، وأُغفِل أصلُ كليّ لصالح جزئية شرعية، أو العكس، كان ذلك من قِصَر نظرِ الناظرِ، لا من تقصير الشريعة في البيان.

      من هنا نرى خطأ الإخوان فيما تبنّوه من خَطّ سياسيّ في ظلّ العهد البائد، يسمح بالإشتراك في الإنتخابات، إذ لم يتحقق فيها مقصد الشرع، بل كانت تحيّلاً عليه. ومن هنا نعرف لماذا فشل هذا الخطّ من العمل طوال عقودٍ طويلة. كذلك وقع النظر الإخوانيّ في الخلط بين مقاصد الشرع وبين حسابات المصالح والمفاسد، وهو ما سَنحاول بيانَه في موضِعٍ آخر إن شاء الله تعالى.

      كذلك يمكنُ أن نميّز الخَطأ فيما اجتهد فيه السّلفيون، الذين حَرّموا التَظاهُر في ظلِ الواقعِ الجَديد، كما حرّموا العَمل السياسيّ في العهد البائد، ، فكان تحريمهم السابق مبنيّ على إعتبار الجزئيات لا الكليات والمقاصِد، لكن صَادف الحق، وكان تحريمهم الحالّ للتظاهر، مبنيّ كذلك على إعتبار الجزئيات لا الكليات والمقاصِد، فصَادف الباطل. وكان خطؤهم مُركباً، لأنه مبنيّ أساساً على عدمِ النَظرِ في المَقاصِد، ثم لعدم التفريق بين مَناطِ المَاضى والحَاضِر.

      هذا مثال على النظرِ الأصوليّ المُجدّد الذي يَقصِدُ إلى النظرِ في مَناحي الحَياة ويَضبِط فتاوى المُفتين، ويوجّه نظر النّاظرين. والأمثلة على هذا النمط الفقهيّ الأصوليّ كثيرةٌ متشّعبة، حاولنا أن نواكِب توجّهاتها فيما سبق أن حَرّرنا حول المَفَاهيم التي يتلاعبُ بها العلمانيون، وأنصَاف العلمانيين، كالوسَطية والتجديد والتعدّدية، والتي هي من قبيل القواعد الكلية، على مستوى المقاصد ذاتها.

      ونحن ندعو إلى إنشاء لجنة فقهية أصُولية مُتخصّصة، ممن لهم العِلم الشرعيّ القَادر على تَحرير المَسائل التي برزَت على سطح الحياة الإسلامية في هذا الزَمن، في ضوءِ مقاصدِ الشَرع الحَميد، فتكون توجيهاتهم مَناراً لأمثالنا من طَلبة العِلم.

      (3)

      قد نوّهنا في المقال السابق إلى ضرورة الفصل بين ما هو من مقاصد الشرع، وما هو من حِسابات المصالح والمفاسد، ومن ثمّ بين ما هو المقاصد العامة والكليات الشرعية التي تثبت بجزئياتٍ متناثرة في الشريعة، تستلهمها من الأحكام الشرعية الثابتة، وبين حسابات المصالح والمفاسد التي تتخذ مجالها أساساً في تلك الحوادث التي ليس فيها حُكمٌ شرعيّ خَاصٌ، وإن أمكن إدراجها تحتَ قاعِدة كليةٍ أو مقصدٍ شَرعي عامٍ ثابتٍ، وهي ما أطلق عليها العلماء "المصالح المرسلة".

      ومقاصد الشريعة العاَمة يندرج تحتها كلّ الكليات والقواعد العامة، في مدارها الأعلى، ثم كافة الأحكام الشرعية فيما هو أدنى من ذلك في مراتب النظر. كما لا تتناقض هذه المَقاصِد مع أيّ من الأحَكام الشَرعية. فمثلا مقصد حِفظ النفس يُعضّده أكل الخنزير وشرب الخمر في الضرورة، فالحفاظ على مقصد الشرع أعلى درجة من الحِفاظ على منطوقات الأحكام الشرعية. لا يقال أن حُكم شرب الخمر وأكل الخنزير هو كذلك حُكم شرعيّ، لأننا نتحدث عمّا وراء الأحكام ذاتها، ثم إن من قال هذا فهو ظاهريّ لا حديث لنا معه. وهذه المقاصد يجب حفظها، بأن نأتي بكل ما يحققها، وأن نُبطلُ كلّ ما يمنعها، وليس في الشريعة ما يُضاد مثل هذه المَقاصد بأي شكلٍ من الأشكال. 

      وكما اسلفنا في مَثلِ الحُرية عامّة، وحرية التعبير كشكل خاصٍ منها، الحُرية أمر يندرجُ تحت مقصِدىّ حفظِ الدين والنفس، حفظِ الدين بحرية الدعوة إيجاباً، وحفظ النفس برفع الظلم سلباً، لا يشُك في هذا عَالمٌ، إذ دلّت عليه كافة ما ورد في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أتي له كافة الناس يسألونه ويخاطِبونه بما يرضى وما لا يرضى، فلم ينهى أحدٌ قطّ، وقوله صلى الله عليه وسلم "خير الشُهداء حمزة بن عبد المطلب ثم رجلٌ قامَ إلى رجلٍ فأمره ونهاه في ذات الله فقتله على ذلك" أخرجه الحاكم من حديث جابر وقال صحيح الإسناد، وهذا يدلّ على عِظم قدر الحرية، وحق التعبير والدفاع عنها ولو بالموت دونها، وهو أوضَحَ من ان ندلّل عليه. ولتحقيق هذا المَقصد، يجب على المُجتمع المُسلم عامة، ويندب للفرد خاصة، ان يشارك في كل عملٍ من شأنه أن يأتي بالحرية، ويمنع الكبتَ والظلم.  

      ويجب هنا أن نتحّدث عن قضِيةِ "التحاكم إلى شرع الله"، التي هي الحُكمُ العَام والقضيّة الكُلية التي تدخُل تحتها كلّ مَقاصِد الشَرع لحفظِ الضَرورات الخَمس، ومصادرِ القواعدِ الكليّة بلا إستثناء. لكن هذا الأساس الركين ليسَ إلا الصُورة الكُلية لتحقيق كلّ هذه المَقاصِد عن طريق كافة الأحْكام الشَرعية. وهذا الأساس هو ما يجب الحفاظ عليه، وهو لا يكون إلا بالحفاظ على كافة ما يحقّقه يقيناً أو ظناً غالباً، وبإبطال ما يُخِلُ به يقيناً أو ظَناً غَالباً. فلا يجب الإخلال بما يدعم هذا المَقصدِ الأعلى سَلباً أو إيجاباً. ومن هنا لا يجب أن يُنظر الى قضية التحاكم على أنها في مستوى الأحكام الشرعية، أو تطبيقاتها ومناطاتها، ولا يجب أن يُقال أنّ حُكماً شرعيا او مَناطاً يتعارض معها، إن كان في حقيقة الأمر يدخل تحت مقصدٍ من مقاصد الشريعة العامة وأحكامها الكلية، مع التحرّز بكونها تحققه يقينا أو ظناً غالباً.

      فإذا نظَرنا إلى الإستفتاء، وهو شكلٌ من اشكال التعبير، وليس هو حق التعبير أو حقيقة الحرية ذاتها، إذ هو آلية من الآليات التي إنْ أدّت إلى تحقيقِ القّصدِ الشَرعيّ، كانت مقبولة، وإن أدت إلى عدمِه بطُلت. هذا دون حسابٍ لمصالح أو مفاسد.

      وآلية الإستفتاءات، بحد ذاتها يمكن أن تندرج تحت باب المَصلحة المُرسلة، شَكلاً لا موضوعاً، إذ موضوعها هو "التعبير" عن حقيقة قائمة بالفعل، تخدِم قصدَ الشَارعِ الذي اثبتناه آنفا، سواءاً بإيصال رأيٍ أو إبدائه اصلاً. فهي كآلية لا غبار عليها، فإن أدت إلى إرهاب عدو الله وعدونا، وإظهار هويّة الشعب الإسلامية،  فهي محقّقةٌ لقصد الشارع، معينةٌ على تحقيق الحُكمُ العَام والقضيّة الكُلية التي تدخُل تحتها كلّ مَقاصِد الشَرع، وهي قضِيةِ "التحاكم إلى شرع الله"، ومن هنا لا يصح شرعاً أن يُنظر اليها على أنها معارضة لشكل الإستفتاء الذي أثبتنا صحته شرعاً.

      وإذا نظرنا إلى الإستفتاء المِصريّ الأخير كمثالٍ على ما ذَكرنا، نرى أنّ:

      • الإستفتاء كان على موادٍ مُحددة تتعلق بمدة الرئاسة وطريقة الإنتخاب (من قال أنّ الرئيس لا يُقال مدى الحياة كالخليفة، نقول هو خلاف فقهي غير معتبرٍ فيما نحن فيه) ولم يكن فيه أمرٌ يتعلق بتطبيق الشريعة كمبدأ عام. ولا متعلقٌ بما حوّره أو زوّره المجلس العسكريّ بعدها، إذ لم يكن ذلك في حسبان أحد.
      • العدو العِلماني كان متربّصاً، ليكون رفض هذه التعديلات مَدخلاً لرفع قضية الشريعة إبتداءاً من دستور البلاد، فبينما نحن نريد أن نرفع سقف الستور لتصبِح الشَريعة هي المصدر الوحيد للقوانين، إذا بنا، بنظرٍ قاصرٍ، نعود إلى دستورٍ لا يعترف بالشريعة إبتداءاً، ويكون عملنا قد عارضَ وخالف مقصد الشرع، من حيث يحسب من قال بذلك أنه يُحققه.
      • النزاهة في الإجراءات كانت مضمونة لكل من له عينان وعقل، وذلك لقرب عهد الثورة بالناس، فإنتفت شبهة التلاعب بالشريعة التي شابت إجتهاد الإخوان في خوض الإنتخابات في ظل الوضعِ البائد، وهو الخسارة حتى بحساب المصالح والمفاسد.
      • أن خوضَ الإنتخابات في ظلِ دستورٍ عِلماني لا يقر بالشريعة حرامٌ لا يجادل فيه أحدٌ، لكن الإستفتاء ليس كالترشيح للمجالس النيابية، الذي إعتبرته الإخوان من باب حِساب المصالح والفاسد، خطأً منهم وقلة إلمام بالشَريعة. إذ أقصى ما يقال في حال الإستفتاء أنه مجرد سؤالٍ وجواب، لا متلق لقوانين بها.
      • أنّ هذا الإستفتاء بيّن ما سبق أن نبّهنا اليه في مَقالات سَابقة، من أنه يجب على من يمارسَ الدعوة أن يعامل الشعب على أنه شعبٌ مسلمٌ، وهو ما ظهر في هذا الإستفتاء، إذ كان أستفتاءاً على هوية هذه الأمة

      فأن يشاع أن الإستفتاء السَالف الذكر هو شِركٌ لا يجب الدخول فيه، هو قول يدلّ على سَطحية في النظر نخشى على قائليها ومروجيها من التطرّف المُردى، وإتباع النظر القاصر، والسَير وراء مظهر التشدّد الذي عادة ما يناسبُ الروح الشبابية. ونوجّه الشَباب إلى دراسة كتاب العلامة الإمام الطاهر بن عاشور "مَقاصد الشَريعة الإسلامية"، فهو عظيمٌ في هذا الباب.

      ثم عودة إلى ما نراه من مَلامحِ التجديد السُنيّ فيما يأتي إن شاء الله تعالى.

      (4)

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم 24 مارس 2011

      وصَلتني عدة تسَاؤلات وتعليقات، أظنها آراء وتوجّهات مُستقرات أكثر منها تعليقاتٍ، فَرَضَت علىّ أن أنحَرِفَ عن الإستمرار في الحديث عن صُلب الموضوع، إلى إيضاحِ بعض ما يتعلق بهذه التساؤلات والتعليقات، إذ إن الغَرضَ من الكِتابة هو التفاعُل مع القارئ ومحاولة إيضاح ما يغمُض منها على بعض القرّاء من المهتمين بالقراءة والتعقيب.

      وقبل أن أتناول هذه التساؤلات والتعليقات، أود أن أوضح نقطة أو إثنتين، ليكون إيضاحُنا على بينة، وبلا غبش (رغم عِلمي بأن ذلك عزيزٌ على كلّ من تناول قلماً أنْ يَحسِم خِلافاً يُرضى كل قُرائه).

      • الإشتراك في إنتخابات مجلس نيابيّ لا يتّخذُ شَرع الله سُبحانه مَرجعاً أساساً لا يخلِط به غيرُه، حرامٌ شرعاً، وخلطٌ في فهم التوحيد، لا يشك في هذا أحدٌ ممن يتبع منهج أهل السنة والجماعة. لكنّ يجب أن يكون معلوماً أنّ تبني هذا المّوقف ممن هم في مجال الدعوة يجب أن يلحقه بديلاً حَركياً منهَجياً للتغيير، إذ ليس من طبيعة الأمور أن يُترك توجيه المجتمع بيد العلمانيين اللادينيين، يسِنّون القوانين ويصرّفون الأمور، ويوجهون التعليم والإعلام وما يشاؤون دون تدخلٍ، إلا أن تكون هناك بدائلٌ واضحة لإعلاء كلمة الله، ولعل في دراسة الحركات الإسلامية خلال العقود الماضية أن يكون هَادياً في هذا الشأن، وألا يكون التعَجّل والإعتِساف والشَبابية هي الحكم فيه.
      • كذلك يجب أن يكون دور العَامل النَفسيّ مفهوماً، في أي عملية فكرية في العقل البشريّ، دينية أو غير دينية على السواء، إذ إنّ أسْهل مسارٍ للعقل هو الإستمرار على ما هو عليه، وهو ما يَحدُث عادة في اللاوَعيّ، لذلك نجِد أن طبيعة النظر في كلّ جديدٍ ليست صعبة فقط، بل وتلقى مُقاومة من العقل، لعدم وجود القوالب الفِكرية الكافية ، والتي تتكون وتتطوّر على مَدارِ السِنين، ومع موالاة القراءةِ والنَظرِ والفَحصِ، وتراكُم الخِبرةِ والتَجربةِ، في مجال الشريعة وغيرها، والقادرة على إستيعاب صور ومركباتٍ جديدة، نعرفها في المصطلح الشرعيّ بالإجتهاد في أعلى مراتبها، أو الفتوى في مناطات جديدة فيما هو أقل من ذلك.
      • يجب على الشَباب أن ينتبه، في فَهمِه وتناوله لهذه الأمور، إلى أنّ الرأي في هذا المجال هو "فتوى" في حد ذاته، مما يوجب التحرز من "إبداء الرأي"، والأفضل أن يكون قولهم إستفهامياً لا تقريرياً.

      ثمّ إلى التساؤلات والتعليقات.

      • ما المقصود من أن السلفيين حرّموا العمل السياسي من باب الجزيئات (كما ورد في المقال 2)، هل يمكن التوضيح جزاكم الله خيراً

      القصد من أن السلفيين حرّموا العمل السياسي من باب الجزيئات، كما يتضح من القول قبلها، أنهم إعتمدوا على أحاديث (وهي الجزئيات) وإن صحت، إلا إنها تعارضُ مقاصِد الشَريعة في هذا المَناط كما بيّنا، وما ذلك لعيبٍ قي الأحاديث، بل لخطأ في النظر منهم، حيث ضربوا الجزئيات بالكليات عن طريق خلط المناطات. ومن شاء التوسع في هذه النقطة، فليرجعُ إلى كتاب الإعتصام للشاطبيّ فهو اصل في بيان هذا الأمر.

      • قولنا (وهذا يدلّ على عِظم قدر الحرية، وحق التعبير والدفاع عنها ولو بالموت دونها، وهو أوضَحَ من ان ندلّل عليه. ولتحقيق هذا المَقصد، يجب على المُجتمع المُسلم عامة، ويندب للفرد خاصة، ان يشارك في كل عملٍ من شأنه أن يأتي بالحرية، ويمنع الكبتَ والظلم.) هل كل من يدافع عن هذه الحرية يدافع عنها بمفهومها الإسلامي الذي لا يتنافى مع شرع الله عز وجل أم بمفهومها العلماني؟ وكذلك لو فرضنا أن الحرية المنشودة هي التي حضّ عليها الشرع وجعلها من مقاصد الشريعة فهل يحل لنا أن ندافع عنها ولو بارتكاب الشرك ولو باعطاء حق التشريع للبشر ولو بتأييد رجل محاد لشرع الله عز وجل من أجل أن يدافع عن هذه الحرية؟

      والرد على هذا بطبيعة الحال هو ما يعتقده كلّ مسلمٍ موحّدٍ، اننا في مجال الحديث عن الإسلام والمسلمين، فالحرية التي نعنيها هنا بالذات، هي الحرية التي تؤدى إلى تطبيق شرع الله سبحانه، ولا يحلّ الدفاع عنها بإرتكاب الشرك، أو بإعطاء أي بشرٍ حقّ التشريع من دون الله، أو تأييد رجلٍ مُحادٍ لله ورسوله، ولو دافع عن هذه الحرية. وهذه كلها بديهيات لا أعلم فيم التساؤل عنها. على كلّ حالٍ، أضيف هنا أن مبدأ الحرية هو مبدأٌ عامٌ خلقه الله سبحانه ليحيا به الإنسان، مسلماً كان أم كافراُ، وإن لم تتم هذه الحرية في أعلى درجاتها إلا بالإسلام، ولذلك وصف عمرو بن العاص رضى الله عنه الروم بقوله "..وخامسة حسنة: وأمنعهم من ظلم الملوك"، وهو مقتضى الحرية بلا شك. وقد قال تعالى ممتنا على الناس بالإسلام :ويضع عنهم إصْرهُم والأغلال التي كانت عليهم" الأعراف 157، فوَضْع الإصر والأغلال يتضمن معاني الحرية كلها.

      • قولنا (وآلية الإستفتاءات، بحد ذاتها يمكن أن تندرج تحت باب المَصلحة المُرسلة، شَكلاً لا موضوعاً، إذ موضوعها هو "التعبير" عن حقيقة قائمة بالفعل، تخدِم قصدَ الشَارعِ الذي اثبتناه آنفا، سواءاً بإيصال رأيٍ أو إبدائه اصلاً.  فهي كآلية لا غبار عليها،) هل يعنى أن آلية الاستفتاء لا غبار عليها وكأننا نتكلم على الإستفتاء مجردا عن أي ظروف أو سياقات نحن نتكلم عن استفتاء يجرى في إطار أن حق التشريع في كل أمر من الأمور بإطلاق هو ملك للشعب وأن الحسن ما حسنه الشعب والقبيح ما قبحه الشعب فكل أمر مطروح للاستفتاء من غير نظر هل أباح الله لنا إبداء الرأي في مثل هده الأمور أم قال فيها سبحانه وتعالى ولا يحل لأحد مهما عظم شأنه أن يبدي رأيه أو يعقب على حكمه فلا أظن فضيلة الشيخ أن الاستفتاء إذا نظر عليه وهذه القرائن تحتف  به إلا أن يكون محرما فضلا عن أن يكون شركا.

      أبدأ بالقول تعقيباً أنه يجب أن نُفرق بين الإنتخاب في مجلسٍ يقوم على شريعة مخلّطة، وبين الإستفتاء الذي هو، بكل بساطة، سؤال وجواب.

      ثم القول بأن (استفتاء يجرى في إطار أن حق التشريع في كل أمر من الأمور بإطلاق هو ملك للشعب)، فنقول:

      الإستفتاء في اللغة هو السؤال كما ذكر إبي إسحاق، وهو يكون في الحق والباطل، وقد سأل الله سبحانه الكفار "فإستفتهم أهم أشدّ خلقاً" وهو ما يبيّن أن السُؤال لا غَضَاضَة فيه، إنما الإجابة هي المشكلة التي يقع فيها الكافر ويجتازها المُسلم لأنه يعلم أنه بالنسبة له تقريراً وتحصيلُ حاصلٍ. فإن سأل سائل: أتريد شرع الله محكماً؟ فلا بأس، بل يجب، الإجابة بنعمٍ تحت أي ظرفٍ أو طرحٍ أو تصورٍ.

      وما قول المُعَلِق إن صَادف رَجلاً في الطريق، فأوقفه، ثم سأله: هل ترى أنّه يجب أن نتّبع الشَريعة، ام لا؟ فماذا يكون موقف المُعَلِق هناك؟ إما أن يردّ عليه بأنه بالطَبع يرى ويريد تطبيق الشريعة، أو أن يمسك عن الردّ كالأبكم، وهو جنون ما بعده جنون! هذا سؤال وجواب ليس فيه تحكيمٌ وغير تحكيمٍ. فالعقل العقل يا أولى الألباب.

      ثم نحن نطرحُ إطاراً بديلاً لما طُرح في هذا التساؤل التقريريّ أعلاه، وهو في الحقيقة الأقرب للحقّ، هو إطارُ أنّ سؤالاً طُرح على شعبٍ مسلمٍ  أن يقرر ماذا يرى في تطبيق الشريعة؟ وهذا بالضبط ما حدث بطريق غير مباشرٍ، ومن هنا فقد ذكرتُ في تحليلي أنّ آلية الإستفتاء هي مقبولة شَكلاً في هذا الإطار إذ هو "سؤالٌ وجواب" لا أكثرَ ولا أقلّ.

      • وهل ترى فضيلتكم أنه يجوز الاستفتاء على قبول الشريعة الاسلامية دستورا وقانونا يحكم به في المحاكم هل سيكون واجبا على كل موحد أن يشترك في مثل هدا الاستفتاء.

      وببيان ما ذكرت آنفا من نظرٍ، لا أدرى كيف يُسأل مُسلمٌ إن كان يقبل الشريعة الاسلامية دستورا وقانونا يحكم به في المَحَاكم، فيغلق فمه ويولي مُعرضاً؟ إلا إن عَاد إلى خَلط المَفاهيم، وإجبار القواعِد والإلتواء بالمُسلّمات لتخدم موقفاً ثابتاً لا يريد أن يتزحزح عنه.

      • وهل إذا قبلت الأغلبية حكم الله  في هذا الاستفتاء لأنهم مسلمون فاستجاب الحكام احتراما لرأي الأغلبية لا طاعة وإدعانا واحتراما لأمر الله هل هذا يكون حكم الله وتطبيق لشرع الله عز وجل؟

      وما علينا ما يقولون، فقبولهم برأي الغالبية لا طاعة ولا إذعانا هو محسوبٌ عليهم لا على المسلمين، إذا قال المسلمون لمن سأل: بالطبع نريد الشريعة، إما بهذه الطريقة أو بغيرها إن لم تُفلح هذه، فأجابوا بالقبول، إذن هي الشريعة، فما علينا وقتها إلا أن نأخذ بزِمام الحُكم ونغيّر كلّ ميكانيكيات التعَامل لتضمن أن لا يكون هناك إحتمالٌ لتدخل رئيسٍ أو مجلسٍ برلمانيّ في هذا التصوّر التشْريعيّ بعد، ومن هذا تخليص الجيش من رئاسته العلمانية، وكذا بقية المؤسّسات كلها. وهل البديل أن ننتظر حتى يؤمن هؤلاء فيقبلون تحكيم الشريعة عن رضا لا عن أغلبية!؟ أم أن يقول المسلمون: رغم أننا نعرف أننا الأغلبية التي سُتطبّق الشريعة في أرضنا، إلا اننا لن نقبل تطبيقها لأننا نريد أولاً أن يقبلَ المُتربّعُ على كُرسي الوزارة الآن هذا التطبيق إذعاناً؟ أين يقع هذا في باب الإفتاء ومقاصد الشريعة ومنظومة الشريعة كلها!؟

      وأود ان أضيف هنا أنّ التصَور الذي يلمح له المُعَلِق لا يسمح بأي شَكلٍ من التَغييِر إلا بالقُوةِ والإنقِلابِ، إذ لا صورة لشَكلٍ سِلميّ مقبولٍ للمسلمين لتولّى السُلطة في هذا التصور، وإن قال الشعب كلمته بقبولها، ثم رضي النظام بهذا. وهو إحتمالٌ قائمٌ ولاشك، وإن كان ضعيفاً، لكن أودّ أن أنبّه أن ذلك لم يكن منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول دولةٍ مُسلمة بالمدينة، والتي كان غالبيتها من المسلمين وأقليتها من غيرهم، والقتال إنما كان فتحاً لغيرها.

      • قولنا (الإستفتاء كان على موادٍ مُحددة تتعلق بمدة الرئاسة وطريقة الإنتخاب). ومن قال أن الرئيس إدا كان مسلما موحدا مطبقا لشرع الله عز وجل مجاهدا لنشر الإسلام محققا للعدل والحرية في إطار الشرع فلا يحل له أن يستمر في الحكم أكثر من ثماني سنين وتجرى انتخابات لتحل محله حاكما كافرا علمانيا معاديا لدين الله عز وجل .

      نقول، إننا ذكرنا أن هذا من باب الفقه لا العقيدة، وإلا إن كنّا سنرى كلّ أمر من أمور الحياة أمر عقيدةٍ ومفاصلة، فسنكون صورة مطوّرة للتكفير والهجرة، وسنمشى بين الناس بالتكفير في كلّ أمر نختلف فيه فقهياً. وفي التصور الذي طرحته أعلاه، والذي يقوم على الشريعة بإطلاق، مع تخليص المؤسّسات من الإتجاهات الخَرِبة، يمكن ببساطة أن تكون هناك مواصفاتٍ للترشيح تضمن أن لا يتقلد الحكم من هو ليس أهل له. وهذا التصور المطروح بحدّ المدة، يحدّ من إحتمالات الديكتاتورية التي هي من سِمات النَفس إن طَال أمَد سطوتها كما رأينا في ما لا يحصى من حالاتٍ في تاريخنا، وأين لنا عمر بن الخطاب أو عمر بن عبد العزيز في عصرنا هذا. ولا بأس أن يتغيّر هذا التصور إلى رئاسة مدى الحياة إن رأي الفقهاء ذلك، إذ هو موضوع إجتهادي قابل للأخذ والعطاء.

      • قولنا: (النزاهة في الإجراءات كانت مضمونة لكل من له عينان وعقل، فإنتفت شبهة التلاعب بالشريعة التي شابت إجتهاد الإخوان في خوض الإنتخابات في ظل الوضعِ البائد، وهو الخُسارة حتى بحساب المصالح والمفاسد.) هل كل اعتراضكم على الإخوان في سلوكهم الطريق السياسي وتشنيعكم عليهم بحق وتضليلكم لهم بحق في العهد البائد كان فقط من أجل عدم توفر النزاهة في الإجراءات أم للمخالفات العقدية التي تشوب هدا الطريق ولإقرار من يدخل هذه المجالس الشركية لحق التشريع للبشر حاكمية الشعب واحترام الدستور الكفري والقسم على ذلك من غير إكراه ملجئ؟

      في ضوء ما قررنا أنفا، نكرر أن الإنتخابات ليست كالإستفتاءات، إذ لها ما يسبقها وما يلحقها من محذورات شرعية، عقدية وحركية، فنقدنا للإخوان كان على الأساسين العقدي والحركيّ، ولذلك ذكرت كلمة "حتى" للتحديد، أي إذا نظرنا إلى البعد الحركيّ وإن لم يكن هو الفيصل في هذا. ولكن للتوضيح، لا ولم أرى تكفير الإخوان أو نوابهم إذ لهم تاويل خاطئ يرفع عنهم صفة الكفر في هذا الأمر.

      • (أن خوضَ الإنتخابات في ظلِ دستورٍ عِلماني لا يقر بالشريعة حرامٌ لا يجادل فيه أحدٌ، لكن الإستفتاء ليس كالترشيح للمجالس النيابية، الذي إعتبرته الإخوان من باب حِساب المصالح والفاسد، خطأً منهم وقلة إلمام بالشَريعة). هل الدخول محرم فقط أم أنه شرك بالله عز وجل خاصة مع القسم على احترام الدستور والرضاء بأصول اللعبة الديموقراطية وهو شرعية رأي الأغلبية وليس حكم الله عز وجل ولا أدري هل فضيلتكم ستؤيد دخول المنتسبين للتيار الإسلامي المجالس الشركية أم ترفض؟

      ذكرت قبلاً أنّ الدخول في هذه المجالس المؤسسة على الشرك باطل وشركٌ لا يجب فعله. لكن ليس كلّ من يرتكب شركاً بمشرك كما عليه إجماع أهل السُنة، إذ من له تأويل، ولو مدحوض مرجوح، يكون قد فعل حراماً، ولا يكون مشركاً. ولا أعرف أحداً من أهل العلم المعتبرين كفّر أعيان الإخوان بهذا الفعل. أما عن تأييدى للدخول في البرلمان الجديد، فهذا يتوقفُ على ما سيكون عليه الوضع التشريعي وقتها، ولكل حادث حديث.

      وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

      د طارق عبد الحليم

      15 مارس 2011