فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      بين مفهوم القوة والنصر في الفوضى الشرق-أوسطية

      الحمد لله الذي لا يحمد سواه، المحمود على كل حال، وبكل لسان ومقال، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد

      أصبحت الحالة الفوضوية التي يعيشها الشرق الأوسط، في رقعته "المسلمة"، خاصة بهذه الكثافة والسعة في التمزق والتدخل الأجنبي، غير مسبوقة في تاريخه عامة. وقد عرف المسلمون من قبل معنى سقوط الخلافة، أيام سقوط الدولة الأموية في الأندلس، وعرفوا ما تلاها من أحداث وتفرق وتنازع، أدى إلى انهيار المغرب العربيّ كدولة واحدة، وإن كان هناك محاولات أنهكتها حرب المرابطين والموحدين. وهو نفس ردّ الفعل الذي رأيناه عقب سقوط الخلافة العثمانية، وإن كان أقل حجماً، للفارق بين المشرق العربي والمغرب العربيّ.

      الواقع اليوم هو واقع فوضى أحسبها مقصودة، خُطط لها تخطيطاً بارعاً بعدما حدث في "الربيع العربيّ" مباشرة. فهي ليست تداعيات، بل هي مخططات مرسومات، تم تنسيقها لضرب الشعوب ذاتها، لا ضرب حركات فيها أو جماعات جهادية بذاتها.

      فالظاهر أنّ العدو العالمي قد عرف أنّ الشعوب لا تزال فيها قدرة على توجيه الأحداث. والغريب أنهم نسوا أنّ ذلك من سنن الاجتماع البشري. الطاقة الكامنة في الشعوب المستضعفة. وقد رأوها في الثورة الفرنسية على الأخص. لكنهم اعتمدوا طويلاً على رفاهية الحاكم الظالم الموالي لهم، يكبت شعبه دون تكلفة، كما هو الحال مع جميع حكام كلّ الدويلات العربية بعد سقوط الخلافة. وليسمح لي القارئ أن أطلق عليها "دويلات" إذ ليس منها واحدة تتأهل لتكون "دولة" متكاملة الشروط،، وعلى رأسها استقلالية القرار.

      شملت الخطة الجديدة كل أطراف العالم العربيّ، خاصة تلك الدويلات التي ظهر فيها مدّ "ثوري" سواء كان طبعه إسلاميا أو مخلطاً، من حيث اعتبروه تربة خصبة لإعادة الحياة في الشعب الميتة. فرأينا ما حدث في مصر، كيف وصل إسلاميون إلى سدّة الحكم، ثم سقطوا بأسرع وقت ممكن، لا ليعودوا للصراع، بل للمشانق والمعتقلات. ثم كيف سكت الغرب عن بشار، إلا جعجعة بلا طحن، أعواما يقتل ويحرق، حتى جاءت فرصة الصلح معه، بعد تمزيق الساحة الجهادية على يد كلاب أهل النار. ورأينا ما حدث في ليبيا من تأليب النزعات القبلية والإقليمية، ثم استدعاء قوى العلمانية الجبانة، وقوى الحرورية الجديدة لإيجاد جوّ عارم من الفوضى التي لا يعرف أحد لها وجهة. ثم اليمن، الذي سلمه الغرب للصفوية مقابل اتفاق نووي، وهم يعلمون أن الصفوية لن يكون لهم استقرار هناك، إذ لن يسكت السنة عليهم، فهو ترسيخ الفوضى كذلك.

      الأمر أنّ المسلمين لا يعون أطراف المعادلة التي يريدون أن يغيروا أطرافها. تماما كمن يريد أن يزن شيئا بميزان أو يكيله بمكيال أويقسيه بمقياس، لكنه لا يعرف شيئاً عن الموازين أو المكاييل أو المقاييس، أنّى له أن يصل إلى وزن أو كيل أو مقاس؟

      السنن الإلهية ثابتة لا تتغير ولا تستبدل، سواء في الحياة الطبيعية أو الظواهر الاجتماعية. والله قد كتب النصر للمسلمين إن أخذوا بأدواته وأعدوا له العدة. ورأينا أنّ "القوة العددية" لم تكن عامل النصر من قبل، من حيث أن العامل الانساني البحت كان عليه المعول الأكبر في النصر، حسب مفهوم "القوة" في تلك العصور.

      لكن ما يجب أن يلحظه المسلمون، أنّ مفهوم "القوة" قد تبدل، ومن ثم وسائلها وطرقها. لم يعد العدد هو الحاسم في النصر، إلا في مراحله الأخيرة، ربما! ومن ثم فالشجاعة القلبية في المواجهة قد تأخر دورها في الحسم، إلى المراحل المتأخرة كذلك.

      معايير "القوة" اليوم ليست هي معايير "القوة" بالأمس. ومن أشد الخطأ أن نعامل "القوة" ومعاييرها، ومن ثم، النصر وعوامله بنفس المبدأ الذي كان عليه المسلمون في عصر النبوة أو ما بعدها.

      لقد رأينا فيما نقله لنا التاريخ، أن انقلاب معايير "القوة" هو ما قضى على الخلافة العثمانية بعد أن ظهر عليهم العدو الأوروبيّ بوسائل لا قبل لهم بها. وهذه سنن لا يمكن أن نلتف حولها، بأي شكلٍ من الأشكال. بل إن العمل من خلالها هو من مستلزمات الإيمان بسنن الله، والعمل بعكسها وافتراض النصر دون اعتبارها هو خلل في الرؤية الإيمانية، أقرب إلى التصوف منه إلى أيّ شئ آخر.

      تبدلت معايير القوة، من العدد والشجاعة أساساً، إلى نوعية التسلح، وتقدمه التقنيّ، وإلى القوة الاستخباراتية وجمع المعلومات، وهو، مرة أخرى، عامل تقنيّ بحت، ثم القوة الإعلامية وأثرها الذي لا يُنكر. ثم ما حدث من صغر رقعة العالم اليوم، على اتساعه بما جدّ من وسائل اتصالات وأقمار صناعية، تنقل الخبر والصور لحظياً، وتكشف مواقع العمليات العسكرية على شاشات عملاقة تُظهر نوع المشروب الذي يحتسيه جالس على قهوة باليمن في غرفة عمليات بواشنطن! ثم غلى الحزق السياسيّ الذي يخدم القوة العسكرية لا العكس، فكما قلنا من قبل، إن السياسة والعسكرية لا يجتمعان، بداية أولهما نهاية للأخرى، إلا إن تقاربت القوتان المتحاربتان في الساحة القتالية أشد التقارب.

      إن من لا يدرك أبعاد "القوة" اليوم، لن يقدر على مواجهتها. بل سيلعب به أصحابها، ويجندونه لأغراضهم، ثم يقضون عليه، حين تتم مهمته. وهي ما نراه اليوم في حالة تنظيم "الدولة" الذي جندوه ليكون عونا في القضاء على بقية الجماعات، ومنها القاعدة، ثم يكون التعامل معه بعد ذلك سهلٌ ميسور.

      ولا يحسبن جاهل إننا نلقى باليأس في قلوب المسلمين، ولا يحسبن غِرٌ إننا لا نضع نصر الله وقوة الإيمان في المعادلة الصعبة. لكن السُنة علمتنا الربط بين الأسباب والمسبَبَات، إلا في حالة المعجزات والكرامات. فعلى هذا بنى الله سننه الكونية. ومن لم يفعل ذلك كان أشعريّ أو صوفيّ أيهما يختار. وقد بيّنا ذلك في بحث مطوّل بعنوان "مفهوم السببية عند أهل السنة"[1].

      لقد كسب أهل أحد المعركة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا اخْتلّ معيار القوة وعواملها، بسبب مجموعة لم تتبع قوله صلى الله عليه وسلم. فأن يفترض أحدٌ أنّ المسلمين مضمون لهم النصر مهما كان إعدادهم أو تهيأهم للمعركة، ومهما كانت طبيعة القوة السائدة في العصر، لهو ساذج غرٌ لا يعرف معنى التوحيد، ولا يفرق بين السنن الكونية والشرعية، في تسيير حياة البشر.

      كما أننا لا نقول بأنه من الواجب أن يتحصل المسلمون على تلك التقنية وهذا النوع من القوة لمواجهة النظم المرتدة، ودفع الصائل. فإن دفع الصائل، له معادلات تختلف عن غيرها، مما يستشهد به الأغرار من انتصارات المسلمين في الفتوحات. فإن الأرض تدافع عن أصحابها بلا شك. لكنّ ذلك لا يلغي قيمة التفوق التقني الهائل، وعدم التكافؤ الرهيب بين المسلمين وبين القوى الصائلة من الأنظمة ومعها.

      لذلك فإن الخطأ الرهيب الذي أوقعتنا في القوى العالمية، من خلال تنظيم "داعش" هو الانحراف عن طبيعة حرب "دفع الصائل" إلى حرب مواجهة مع قوى لا قبل للمسلمين بها اليوم، إلا أن يتغلبوا على نظام قائم، تغلباً حقيقياً ينشأ عنه كيانٌ مستقلٌ عسكريا واقتصاديا وسياسيا، له حدوده التي يصنعها توحد المقيمين علي أرضه.

      وقد رأينا مثالاً من هذه السنّة الكونية، في ثورة الخميني الهالك الخبيث، حين استعمل القوة الكامنة في الشعب الرافضي، وحرّكها بحيث استولى على البلاد، ومكّن لنظامه عسكريا واقتصاديا وسياسيا، حتى أصبحوا اليوم في طريقهم لإعادة تكوين الإمبراطورية الصفوية، بل وأكبر منها رقعة.

      وهذا الذي حدث في إيران عام 1979، كان من أسباب انتباه الغرب للقوة الكامنة في الشعوب المستضعفة. ولذلك لم يضربوا بشاراً، مع كثرة النداءات بضربه، وبشاعة ما فعل ولا يزال، حتى جاؤوا بداعش عاملاً يقلب الميزان، ويعطي الشرعية لمساعدته على قتل شعبه.

      أمر "القوة" و"النصر" ليس خيالاً في أذهان مجموعة أطفال وسوقة وجهلة رويبضات، يرددون كلماتٍ يعيشون عليها شهوراً أو حتى أعواماً. بل هو أمر أمة تعرف خطوات إعادة البناء، وطبيعة ما تواجه، وتفرق بين السنن الكونية والسنن الشرعية، وتأخذ بالسبب، أخذاً شرعياً ثم ترفع يدها بالدعاء، تجأر إلى الله بالدعاء.

      د طارق عبد الحليم

      24 مارس 2015 – 4 جمادي الثاني 1436

      [1]  نشرت عام 1986 في مجلة البيان اللندنية في ثلاثة أجزاء http://tariqabdelhaleem.net/new/Artical-75، http://tariqabdelhaleem.net/new/Artical-76، http://tariqabdelhaleem.net/new/Artical-77