فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      حرب العصابات في مجال السياسة الشرعية

      تعقيب على مقال شؤون استراتيجية

      الحمد لله الذي لا يحمد سواه، المحمود على كل حال، وبكل لسان ومقال، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد

      لا شك أن السياسة الدولية الحالية أشد تعقيدا وأبعد غوراً مما يتصور كثير من عناصر الجماعات الجهادية، بل وقياداتها على حد سواء. والمؤامرة العالمية، ليست كما يحب أن يصورها البعض إنها على الإسلام وحده، بل هي على كل قوة تتحدى الشكل الجديد الذي رسمته الدول الظافرة بعد الحرب العالمية الثانية، كما حدث مع كوريا وكوبا فيتنام وغيرهم.

      لكن الثابت أن تحدي الإسلام لهذا النظام هو أكبر تحدٍ أمام الغرب رغم إنه غير مباشر، بل وغير مؤثر، حالياً، من حيث إنه ليس هناك دولة مركزية أو نظام قائم يحميه، بل إن من يحمل شعاره، كالسعودية وغالب الدول العربية قد باعوه ابتداءً من أجل السيطرة والبقاء في الحكم، حيث فهموا قواعد اللعبة، وضعفوا عن أن يتصدوا لها وانساقوا وراء دواعي الشهوة العارمة، لضعف الدافع الديني والانغماس في الملذات الدنيوية.

      هذا التحدى، إلى جانب الأهمية النفطية للمنطقة العربية، هو ما دفع الغرب إلى وضع الاسلام على رأس قائمة الارهاب العالمي، الذي وضع هو – الغرب – تعريفه، ثم وضع مقاييسه، ثم حكم على من وقعوا تحت هذا التعريف، ثم أدانهم وعاقبهم، فهو المنشأ والخصم والحكم وولي التنفيذ في آن واحد!

      كل هذا معروف معلوم، لكن المشكلة، أو المأزق التاريخي الذي فيه الأمة، إننا لم نر إلى الآن حلاً عملياً ناجحا له، ولا يزال السؤال يراوح في مكانه أن: كيف السبيل إلى الخروج، بله النصر؟

      وقد رأينا طريقين للخروج من المأزق، أحدهما يعتمد فكرة القتال البحت الذي يحمل شعار الجهاد، صدقاً كما في حالة عدد من الجماعات الجهادية في العقود الأخيرة، أو كذباً كما في حالة داعش العوادية في العراق والشام، وكلهم اجتمعوا على رفض السياسة بشكل قاطع، إلا ما كان من تطور أخير في التنظير القاعدي، والذي أشرت اليه في مقال لي[1]، حيث ذكرت أن القاعدة، وعلى رأسها الشيخ الشهيد أسامة بن لادن، والشيخ الحكيم أيمن الظواهري، قد عدّلا من سياستها في مهاجمة الغرب أولا، إلى تبني إسقاط النظم واستخدام الحاضنة الشعبية.

      والطريق الآخر هو طريق السياسة والانخراط في دهاليزها ودروبها، ومحاولة السيطرة على مؤسساتها من الداخل، سواء انبطاحيا استسلاميا كالاخوان، أو محاولة الخداع والالتفاف المضطرب مثل السرورية. وقد باء هؤلاء بفشل ذريع القى بهم إما في السجون والمعتقلات كالإخوان، أو تركهم في الصف الأخير كأنهم نساً منسيا كالسرورية.

      وقد قرأنا ورقة من الأخ عبد الله بن محمد (شؤون استراتيجية) [2]، تطرح رؤية تطبيقية نسبها لمجاهدي ليبيا عن وسيلة الالتفاف حول السيطرة العالمية على مصائر الدول ومصائر أفرادها.

      ولا نختلف مع الباحث في مقدمات بحثه من الناحية التاريخية، فهي حقائق ثابتة لا يختلف عليها الناس، من العقلاء. لكن النظر هنا في طرحه لرؤية جديدة قديمة، أسماها حرب العصابات السياسية. وهو إطلاق موفق يخدم الرؤية التي قصدها من حيث الإيحاء بالتلازم بين القتال والسياسة. وهو حلم كلّ مثاليّ في تاريخ البشر!

      والحق أن الطرح المختصر الذي وضعه الأخ الباحث، لم يحوى كثيراً مما يهم الناظر أن يتعرف على تفاصيله، ليقيم مقومات نجاحه أو فشله، شرعيته ووضعيته. لكننا سنعمل مع ذلك القدر المتاح، ولعل الباحث أن يطلعنا على تفاصيل ما قصد بشكل أوفى في ورقات قادمة.

      يتلخص رأي الباحث، فيما نرى، في نقطتين رئيستين:

      • أنّ الجهاد والقتال وحده، كوسيلة لإقامة دولة هو عمل غير مجدٍ من حيث سيطرة النظام العالمي الموضوع على مقاليد تزكية الدول واعتمادها أولاً وأخيراً.
      • أن لابد للجماعات الجهادية أن تندمج في العملية السياسية في البناء الدولي القائم في داخل نظامها، وتمنعه من عملية إفشال سعيها بمنع مبررات هذا الإفشال. وذلك بالاندماج مع الشعب والسيطرة على مؤسساته من ناحية، وتفويت الفرصة على الغرب من عزلهم سياسيا من جهة أخرى.

      هذا هو ملخص ما تقدم به الأخ الباحث.

      ولا شك أن هذ التوجه، كما وصفنا، جديد قديم، إذ هو خليط من المحاولات التي ذكرنا أعلاه، في سبل الحل العسكري أو السياسي. لكن الخلطة في رأينا، ليست بهذه السهولة، بل هي أشبه لدينا بمن يخلط في معمل كيمائي مواد متفجرة، إن لم يكن حسابه دقيقاً أشد الدقة، انفجرت فيه المادة وكان هو ضحيتها الوحيدة.

      وأية رؤية تتعلق بحياة المسلم، فرداً أو جماعة، عامة أو خاصة، يجب أن تتقيد بالقيود الشرعية، التي رمز لها الباحث بتعبير "السقف الشرعي". وهذا السقف، لا يجب أن يكون "غطاءً يدارى سوءة المسلم، يمكن له من تحته أن يمارس ما يريد من تجاوزات، طالما السقف فوق رأسه يغطيه! بل يجب أن يكون حقيقة واقعة، يحياها طبق الممارسة الشرعية إفتاءٍ وتطبيقاً.

      والناظر في أية رؤية كذلك يجب أن يكون مدركاً للواقع إدراكاً صحيحاً تاماً، من حيث مسببات ذاك الواقع، بشكل دقيق، تفصيلياً لا إجمالياً. كذلك يجب عليه أن ينظر في المقاصد إذ لا يصح العمل إلا بصحتها لا بمجرد وجود "سقف" لها. كذلك يجب أن يكون مدركاً للمآلات، أي ما يمكن أن يترتب على قرارته من اندماج أو تفاوض أو مشاركة أو مغالبة.

      ونذكر القارئ، والباحث، أنّ الأمر الشرعي تقع به المصلحة ويتحقق به الفوز، بتلازم حتمي كونيّ، قد جعله الله خاصية لأمره الشرعي[3]، فمن فرّق بين المصلحة في رؤية أو طرح وبين الأمر الشرعي الموافق للمعقول والمنقول، لم يصب هدفا ولم يحرز نجاحا بلا بد.

      وفي هذه الرؤية التي طرحها الباحث نرى كثيرا من الفجوات والثغرات فيما ذكرنا آنفا من النقاط. ونحن نود لو كان مزيداً من التفاصيل موثقاً فيما عرض، لكن نذكر بعض الفوائد والمآخذ الشرعية والوضعية علي ما جاء.

      لاشك أنّ إعلان الدول لا يجب، بالمعنى الشرعي للوجوب، ومن ثم لا ينتج خيرا إلا إن اكتملت أشراطه، حتى لا يكون عبرة للمعتبرين. وقد رأينا ثلاثة أمثلة من هذا الإعلان في السنوات الأخيرة، أولها تونس، والتي بسبب علمانية القائمين عليها تحولت مرة أخرى إلى علمانية صرفة. والثاني مصر، ورأينا كيف أن بدعة من وصل الأمر إلى أيديهم وعدم فهمهم للواقع الدولي أو المحلي أو حتى الوطني المصري وعمق دولة مبارك، قد أوقعت الحكم في يد عصابة صهيونية مارقة عسكرية ملحدة، تجاهد المجاهدين. والثالث هو كيان ابن عواد الداعشيّ، وقد رأينا كيف شقت بخرافتها صف الجهاد الشاميّ، ثم إذا بها في انحسار إلى زوال بلا شك.

      ثم يجب أن يكون مفهوما أن دخول ممثلي الجماعات الجهادية في الكيانات البرلمانية لتحقيق "السقف الشرعي"، هو أولاً مرفوض شرعاً من حيث النص والواقع غير المنفصلين إلا في عقلٍ لم يستوعب الشرع. وقد بيّنا من قبل في مواضع عدة، كما بيّن غيرنا، أن دخول هذه البرلمانات ابتداءً لا يصح إلا إن تحقق القصد وحصلت القدرة على متابعة الشرع، لا إقامة الحدود نقصد، بل متابعة الشرع فيما تمليه النصوص الصحيحة والقواعد الثابتة. وثانيا، الخطأ الأكبر في ذلك الطرح هو إنه افترض أن السياسة والقتال يمكن أن يتسايرا. وهذه بساطة شديدة في الطرح وفي تقدير السياسة الغربية الحالية، من أنها أن تحطم كل أمل في تحقيق تقدم للمسلمين على الأرض. ذلك أنّ السياسة تنتهي عند أول طلقة رصاص، والطلقات تتوقف عند نصب مائدة السياسة. وهذا مبدأ معتمد عند الغرب لا استثناء فيه بأي شكلٍ من الأشكال، صاغوه وبينوه واستعملوه ما لا يحصى من المرات، وقد ضحّوا برهائن من أجل عدم "التفاوض" مع الارهابيين" اللذين هم من حمل سلاحاً ولو دخل برلماناً!

      فمقولة أن يتوازى العمل العسكري المطلوب لإقامة الحق ودفع الظلم بإزالة الأنظمة القائمة في تلك الدول "المسلمة" مع العمل السياسي من خلال كياناتها القائمة، باطلٌ شرعي ووهم واقعيّ، هو أقرب في الإيهام لوهم العوادية الداعشية في إقامة "دولة" عن طريق سفك دماء المجاهدين من مخالفيهم!

      وكلمات الباحث تصور مجموعة من المحاربين القدامي الذين حاربوا القذافي، من الجماعة الإسلامية المقاتلة، وبعض شباب الإخوان وبعض العلمانيين. فهم خليط رأي ضرورة الإمساك بعصا السياسة مع محاربة النظام الحكومي وقوات تنظيم داعش. وقد تحولت ليبيا بهذه الفوضى إلى دولة فاشلة ساقطة. والأمر أن ليس هناك جيش حقيقي يمكن أن يقال إنّ مجموعة المؤتمر الوطني قد اخترقته. بل إن الغرب قد أفشل مشروعهم على الفور بمقاتلي حَفتر، وبالبرلمان الليبي. فما هو النموذج الذي يريد الباحث أن يسير عليه المجاهدون؟ أيّ نتيجة جعلت الباحث يرى أنّ هذا النموذج هو الأفضل نتيجة والأصح توجهاَ؟

      الأمر هو أن التغلغل الشعبي أحد طرق مواجهة الأنظمة بلا شك، وهي إشراك الأمة في المواجهة بلا شك. فالأمة هي المدد، بعد الله سبحانه، الذي يمد الحركات التي تواجه النظم بالعدد والعدة. لكن أمر التغلغل في المؤسسات القائمة أمر يُحسب حسابه ألف مرة، فهو غير عمليّ كما ثبت في مصر في مواجهة الدولة العميقة. و لا يكون له أثرٌ إلا إذا سيطر أحد الطرفين بالكاملن وعمل علية إحلال واستبدال، كما حدث في ثورة المجوسي الخميني. ولا يصح أن نقارن مثلا بما فعل النصيرية منذ أكثر من قرن في الشام للاستلاء على سوريا، فهؤلاء لا يحرمون شيئا ابتداء في وسائلهم مثل اليهود، كما إن الحاضر قد أصبح مغايرا لما سبق، وانكشف لدى الكلّ ما يقصد اليه الكلّ، فاللعب أصبح على المكشوف كما يُقال.

      الحلّ لا يمكن في أنصاف الحلول، ولا ثلاثة أرباعها. الحلّ لا يكمن في إمساك العصا من النصف. الحلّ يكمن في مواجهة النظم المرتدة العميلة في الشرق، مع تأمين الدعم الشعبيّ عن طريق الدعوة والبيان ونشر الحقائق، والصبر.

      د طارق عبد الحليم

      17 مارس 2015 – 27 جمادى أولى 1436

      [1]  رؤية في سياسة القاعدة في عقدها الثالث ج1  http://tariqabdelhaleem.net/new/Artical-72854 & ج2 http://tariqabdelhaleem.net/new/Artical-72855

      [2]  ردّ ومتابعة لمقال الاستاذ عبد الله بن محمد https://justpaste.it/jvxj

      [3]  راجع كتابنا "المصلحة في الشريعة الإسلامية" الفصل الثالث: الحلال والحرام في ضوء المصلحة الشرعية، ص24