فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      رؤية في سياسة القاعدة في عقدها الثالث .. الثابت والمتغير ج1

      الحمد لله الذي لا يحمد سواه، والصلاة والسلام على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد

      (1)

      حين أتحدث عن تنظيم القاعدة، فإنني أتناوله كمحلل سياسي مستقل، لا ينتمى للقاعدة ولا غيرها، بل كمراقب للأحداث عن قربٍ قدر الإمكان، دون التدخل في صناعتها أو صياغتها. كذلك، فإني أحاول جهد الطاقة، كمحلل سياسيّ، ألا أكون طرفاً في الصراع الدائر بين القاعدة وبين غيرها، سواء من التنظيمات "الإسلامية" أو القوى الدولية المعادية للإسلام بشكل عام. وذلك حيادٌ يستلزمه النظر التحليليّ، وإن لم يرض عنه النظر الشرعيّ، الذي لا أرى أن إعلانه ضروريّ في كلّ آونة ومكان.، فهو أمرٌ شخصيّ من حيث إنّ الله لم يتعبد أحداً بولاءٍ لتنظيمٍ أيّاً كان، ولكن بالولاء له سبحانه ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولدينه وأهل دينه عامة. والبيعة التي ينجو بها المرء من ميتة الجاهلية هي البيعة العامة لخليفة شرعيّ مسلم سنيّ، لا لحاكم طاغ طاغوتي، ولا لمسخ حروري عوادي.

      والقاعدة، كتنظيمٍ، له حسناته التي يراها المسلم بعين دينه، وله أخطاؤه التي يقدرها المراقبون من كلا الطرفين، المسلم وغير المسلم. فالقاعدة، كأي تنظيم أو تشكيل جماعيّ، يعتمد تقييمها على عين الناظر ورؤيته أولاً وأخيراً.

      والقاعدة، بلا شك، وباعتراف العدو والصديق، قد صمدت كتنظيم، مدة أكثر من ربع قرن أمام دول عظمى، حاولت ولا تزال، أن تدمرها تدميراً. واستطاعت أن تنشأ لنفسها مكاناً مركزياً في خراسان، تدير منه أفرعها في أنحاء بلاد المسلمين كليبيا واليمن والمغرب والجزيرة، ومؤخراً في شبه القارة الهندية، حيث اتخذتها طالبان تحت جناحها ومهدت لها سبل البقاء والعمل، كما مهد أهل المدينة لرسول الله صلى الله عليه سلم، مع فرق أنّ ليس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قائد أي تنظيم يجب على الكلّ طاعته إلا إن اتحدت كلمة المسلمين السُنة على وليّ أمر عام. وهذا في حدّ ذاته نصرٌ كبيرٌ فيه استمرارية للحركة، وتفوق وتجارب تحصنها بالخبرة والعلاقات الخارجية وفهم الواقع والتصرف الأحكم.

      وما أظن أن هذه الخبرة إلا قد انتجت تغيراً ملحوظاً واستراتيجياً في سياسة القاعدة، قبيل استشهاد الشيخ أسامة بن لادن رحمه الله، ثم سار عليه خليفته الشيخ د أيمن الظواهري حفظه الله، بخطى وئيدة، مبنية على فكرٍ وخبرة لا يستهان بهما.

      (2)

      وهذا التغيير الاستراتيجي، وإن كان له بعض السلبيات، يتمثل، فيما أرى، في بعدين. الأول هو النظر في البعد العميق للأمة الإسلامية، والثاني هو تبني منهج التخلص من الخطر الداخلي على الأمة والمتمثل في حكامها المحليين، كدور جهادي أساسي، مقدّمٌ على مواجهة الغرب الصليبي. وسننظر في هذين البعدين نظرة أقرب وأعمق إن شاء الله تعالى.

      أمّا عن النظر في العمق الاستراتيجي للأمة، فإن التجارب التي خاضها الجهاد الإسلاميّ قد أظهرت كلها دون استثناء أنّ إغفال الأمة، واعتبار أنّ التنظيم الجهادي، مهما قويت شوكته هو الأمة، وأنّ أفراده هم أفرادها، هو خلل سياسي وخطأ شرعي يودى بهذا التنظيم، بغض النظر عن تكفير الأمة الذي هو مصيبة أخرى مرّ بها الجهاد الإسلامي في ثلاثة تجارب خلال العقود الأربعة السالفة، وأراد الله سبحانه أن نكون شهود عيان لها، وهي حركة شكري مصطفي في مصر في منتصف السبعينيات، وحركة الزوابري في الجزائر في منتصف الثمانينيات، ثم حركة ابراهيم بن عواد السامرائي في العراق والشام، وهي الأسوأ عقيدة والأكثر انحرافا ودموية من سابقتيها. لكن المبدأ واحد، وهو أنهم كلهم اعتبروا "إنهم هم الأمة وأن أفرادهم هم المسلمون، وأن عداهم هم الكفار المرتدون"، حكومات وأفرادا. وهذا هو ما جعل تلك التنظيمات كلها ذات عمق ضحلٍ جداً، وإن حاول تنظيم ابن عواد أن يصحح ذلك الخطأ بالدعاية والإعلام، واستجلاب شباب غرٍ ليكون له عمق استراتيجي يمده بما تمد به الأمة أبناءها. لكنّ هذا التصرف أثره جدّ محدود من حيث إن المبدأ لا يزال كما هو، وهو أنّ "من بايعنى هم الأمة، ومن خالفني كافر مرتد" وهذا الفكر الحروري لا يمكن معه أن تحيا حركة أو تمتد إلا إلى فترة تطول وتقصر حسب وعي الأمة أولا، وسياسة مخاصميها ثانياً.

      وقد وعت القاعدة هذا الدرس، وإن لم تكن استراتيجيتها مماثلة لتلك الحركات الحرورية ابتداءً، لكنها، فيما نرى، تخبطت بعض الوقت وتردد نظرها في ترجمة القطبيات والمودوديات، وتراث ابن تيمية وابن عبد الوهاب، وهو أمرٌ نراه طبيعي في المراحل الأولى من أي تنظيم يجد نفسه أمام هذا التراث الهائل من ناحية، وهذه التقيدات البشرية والتنظيرية والتحديات السياسية والعسكرية من جهة أخرى.

      لكنّ هذا التردد لم يستمر إلا إلى بعد الانتهاء من حرب أفغانستان، ثم بعد ما حدث في حرب العراق عقب غزو الولايات المتحدة لها، حيث بدأ التغير في النظر "للأمة" في عصر أسامة رحمه الله، وظهر هذا جلياً في أثناء انتفاضة الشعوب ضد حكامها، في مصر وليبيا واليمن وتونس، والتي أظهرت مدى الغضب الكامن داخلها، ومدى القوة التي يمكن أن يمثلها هذا البركان إن أُحسِن توجيهها. فأيّد أسامة رحمه الله تلك الحركات علانية، وباركها، بل ودعا إلى توجيهها وإعانتها على تصحيح مسارها بمجالس شورى استشارية. ثم، كان اغتياله رحمه الله وتقبله، وتولى من بعده رفيق دربه، ومنظر حركته، الشيخ الجليل د أيمن الظواهري، الذي سبق الشيخ أسامة رحمه الله في هذا المضمار من حيث بدأ رحلة جهاده في الستينيات، قبل أن ينضج الشيخ أسامة رحمه الله في رحلة جهاده.

      ونظرة الشيخ الفاضل أيمن للأمة هي نظرة تعتمد الأمة كحضنة شعبية، بما فيها من حسن وسئ، وتقي وعاصٍ، إلا من ابتلاه الله بالبدعة الجماعية، أو بالكفر البواح. ومثال الأولى هو تلك الجماعات التي تمارس بدعا تنشرها وتعمل على تخريب عقائد الأمة كالصوفية والحرورية، ومثال الثاني، هم أولئك الحكام، الذين ارتدوا من أبواب لا حصر لها، من أي جهة نظرت اليهم. لكن القاعدة اليوم تُفرق، فيما أحسب، بين هؤلاء النفر من رؤوس البدع وجنودهم، والحكام وجيوشهم، وبين الأمة المطحونة التي وإن وقع كثيرون منها في أعمال ردة وموالاة للباطل، فإنه يمكن استنقاذها، أو أكثرها، أو أقلها،  بالدعوة والبيان والبلاغ[1].  

      (3)

      أما التغيير الآخر، فنحسبه " تبني منهج التخلص من الخطر الداخلي على الأمة والمتمثل في حكامها المحليين"، كدور جهادي أساسي، مقدّمٌ على مواجهة الغرب الصليبيّ. وما ذلك لضعف في المواجهة، أو مداهنة للغرب الصليبي كما يرون، لكنه تحوّل يواجه الواقع ويعيشه، دون أحلام خيال، أو استسلام لأوهام. فإن القضاء على الولايات المتحدة، كما يتصايح سذاج الحركات الجهادية، لم يتأتَ بتدمير البرجين في 11 سبتمبر[2]، أو بضرب بارجة اليمن أو غير ذلك، غير الكسب النفسيّ. فكل تلك الهجمات هي هجمات موضعية تؤلم ولا تضر، ثم تعطى غطاءً شعبياً لمزيد التدمير. الاتجاه الأصح هو تحرير البلاد من حكام الطاغوت، الذي يأتون بالغرب ابتداءً ويعينونه، فهم الأولى بتوجيه النظر اليهم، وهم من يفعل الظلم ويعتقل ويقتل ويسرق ويوالى. والغرب ليس إلا ساع لمصلحته ومصلحة أسياده من اليهود، فإن وجد طرقا ممهدة على يد حكامٍ خونة فلم لا يسلكه؟

      الأصل إذن ليس هجمات على الغرب، إلا في ديارنا كما فعلت طالبان، ففي هذا سذاجة وقلة نفع وجلب مفاسد تربو على أضعاف مصلحتها. وها هي دعوة طه حمام العدناني بضرب وقتل النصارى في كل دول العالم، ماذا حققت؟ مقتل ثلاثة أو أربعة أفراد! هذا تغفيل وانحراف في بوصلة الجهاد. وهو ما أدركته القاعدة مؤخراً.

      وقد يقول قائل، فلم إذن نفذت القاعدة ضربة تشارلي أبيدو، ولم تنفذها حرورية العوادية؟ قلنا، تشارلي أبيدو ليست هدفا من أهداف الغرب، كغرب، ولم تنبع من استراتيجية ضرب الغرب وشنّ حربٍ عليه. تشاري لأبيدو كانت ضربة لمجموعة محددة من الأفراد المستهزئين برسول الله صلى الله عليه سلم، وقد شجعها وباركها غالب الأمة كأفراد، الغلاة منهم والوسطيون منهم على السواء. بل من الغربيين من تفهم دوافعها ونشر رأيه فيها. ومن ثم فهي ليست انحرافاً في مسار القاعدة الذي نراها تتبناه اليوم، على ما نحسب.

      ولعل في هذا التغيير تركيز للجهد، وتمكين لقوى المقاومة الإسلامية التوجه أن تكون أكثر تأثيراً في مواجهة تعدد القوى المعادية كالصفوية والروافض والحوثية والنصيرية والسيسية، وهم العدو المحليّ الذي يجب التخلص منه قبل الحديث عن أي عدو خارجي، إذ لا قدرة لعدو خارجي دون هؤلاء العملاء الخونة.

      هذا ما نراه اليوم استشفافاً من سياسة القاعدة الحالية. وهو عكس ما تذهب اليه الحرورية العوادية، التي شبت على مراهقة جهادية، ولم تستفد من أي تجربة سابقة، بل أخذت من التجارب أسوأها، ومن العقائد أخبثها، فكانت على الأمة وبالاً وعلى الجهاد بلاءً.

      يتبع إن شاء الله تعالى (الثابت)

      د طارق عبد الحليم

      25 فبراير 2015 – 7 جمادي الأولى 1436

       

      [1]  وعلى هامش هذا الأمر فإني أحسب أن ذلك هو وجه التحول في فكر وتصرف الشيخ عبد المجيد الشاذلي رحمه الله في أخريات أيامه، من حيث معرفتي الشخصية الوثيقة به.

       

      [2]  وإن كان لنا نظرة خاصة في هذا الأمر أوضحناها في مقالنا "من المسؤول ورء أحداث 11 سبتمبر"