فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      التقريب في توضيح الموافقات

      معالم في المنهج

       مقدمة الكتاب

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد

      لا أبعد حين أقرر إن الكتاب الذي صاغ جُلّ فكرى وتوجّهي، بعد كتاب الله عز وجلّ، وصحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو هذا الكتاب الفذ، الموافقات في أصول الشريعة، للإمام الجليل أبي إسحاق الشاطبيّ رحمه الله.

      والكتاب لا يصنف تحت فئة كتب الأصول العامة بأي حال من الأحوال، يعرف ذلك المتخصص، ويدركه طالب العلم المبتدئ. بل هو نبتة ترعرعت واشتد ساقها وقوى عودها في علم استحدثه ووضع أساسه الامام الشاطبي، هو علم "النظر والاستدلال"، وهو علم لم يكن قائما بذاته، موثقا من قبل حتى اهتدى لجمع شتاته وإشادة لبناته، فهو فيه كابن خلدون في تأسيس علم الاجتماع العمراني. يقول الإمام أبو إسحاق الشاطبيّ، في مقدمته الرائعة للكتاب "فإن عارضك دون هذا الكتاب عارض الإنكار وعمي عنك وجه الاختراع فيه والابتكار، وغرّ الظان أنه شىء ما سمع بمثله ولا ألف في العلوم الشرعية الأصلية أو الفرعية ما نسج على منواله، أو شُكل بشكله، وحسبك من شر سماعه ومن كل بدع في الشريعة ابتداعه، فلا تلتفت إلى الأشكال دون اختبار ولا ترم بمظنة الفائدة على غير اعتبار فإنه بحمد الله أمر قررته الآيات والأخبار، وشد معاقده السلف الأخيار، ورسم معالمه العلماء الأحبار، وشيد أركانه أنظار النظار، وإذا وضح السبيل لم يجب الإنكار، ووجب قبول ما حواه والاعتبار بصحة ما أبداه والإقرار، حاشا ما يطرأ على البشر من الخطأ والزلل، ويطرق صحة أفكارهم من العلل. فالسعيد من عدت سقطاته، والعالم من قلت غلطاته، وعند ذلك فحق على الناظر المتأمل إذا وجد فيه نقصا أن يكمل وليحسن الظن بمن حالف الليالي والأيام، واستبدل التعب بالراحة، والسهر بالمنام، حتى أهدى إليه نتيجة عمره، ووهب له يتيمة دهره، فقد ألقى إليه مقاليد ما لديه، وطوقه طوق الأمانة التي في يديه، وخرج عن عهدة البيان فيما وجب عليه، وإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل إمرئ ما نوى ..."[1]، وما أتمه من بيان، وأدقه في ربط جوهر بعنوان.

      وقد تناثرت بعض مادة هذا العلم الجليل فيما كتب علماء سبقوا الإمام الشاطبي، مثل بن القيم وبن تيمية والعز بن عبد السلام والجويني وغيرهم. لكن لم يفرد له أحد منهم كتاباً مفرداً، ويتناول موضوعاته، حتى جاء هذا العالم الفذّ "فأوفي على الكمال وبلغ الغاية" كما وصفه الإمام محمد أبو زهرة رحمه الله.

      وقد حدثت ألفة عجيبة بيني وبين هذا الكتاب، لما في طبعي الخاص من حب للتحليل والاستنباط، فقرأته مرات لا أحصيها عددا، وانطبع على عقلي وفطرتي مذهبه في النظر والتحليل، حتى بات طبعاً ثانياً لا أتكلف فيه شيء. وكان ذلك بعد أن جوّلت في كتب أصول الفقه على اختلافها سنين عددا، وأتقنت، بحول الله وقوته، طرقه ووسائله، وحفظت مصطلحاته ومصادره، من كتب مثل الإحكام للآمدي والإحكام لابن حزم، والمُستصفى للغزالي وتأسيس النظر للدبوسيّ، ومدونة بن تيمية والعدة في أصول الفقه للقاضي أبي يعلى، وإرشاد الفحول للشوكاني، وأصول الفقه لابي زهرة وأصول الفقه لعبد الوهاب خلاف، وكثير غيرها، لا محل لتعدادها. ما اطلعت على شروح للموافقات، أجلها وأرفعها الكتاب الفذّ للإمام المجدد الطاهر بن عاشور التونسيّ "مقاصد الشريعة"، وكتاب الشيخ محمد الحبيب ابن الخوجة "بين علمي أصول الفقه والمقاصد". كما مررت بدراسات عدد آخر، لم آبه بها كثيراً، مثل ما دوّن أحمد الريسوني وحسن الترابيّ وغيرهما ممن تبني ما أسموه "تجديد أصول الفقه"، لما بين مناهجنا من اختلاف لا يجتمع شمله.

      وكان أنْ بدأت في عقد سلسلة دروس في شرح الكتاب لمجموعة من أبنائي الأحباء، الذين توسمت فيهم حب العلم والإقدام عليه، والشغف بعلم الأصول بالذات. فسجلت، إلى يومن هذا سبعة وأربعين محاضرة كنا ننتهي بها إلى آخر المجلد الثاني من المجلدات الأربعة للموافقات. وكان من الطبيعي أن يتجه النظر إلى محاولة تدوين تلك المحاضرات، أو على الأقل العمل على نشرها مكتوبة، لما في الكلمة المكتوبة من بحبوحة للكاتب لا يجدها المتحدث عامة.

      ثم إني كنت قد نشرت مقالاَ بعنوان "مقال عن المنهج"،[2] منذ حواليّ ربع قرنٍ من الزمن، استللت عنوانه من كتاب الفيلسوف الفرنسيّ ديكارت "مقال في المنهج"، واستبدلت في عنوانه حرف "عن" بحرف "في" قصداً، إذ قد وضع ديكارت في كتابه الصغير الشهير خلاصة منهجه في النظر، والذي تأسست على طريقته قواعد الحضارة الغربية الحديثة. أمّا مقالي آنذاك، فقد كان حديثاً عن المنهج، منهج النظر والاستدلال عند أهل السنة، يدور حول هويته وأسس التعرف عليه وضرورة ذلك، لا محاولة لوضع أسسه وتقعيد مبادئه.

      وقد صرفت منذ ذاك الوقت سنين عددا، أحاول أن أدوّن في هذا الباب ما أسميته وقتها "طرق النظر والاستدلال عند أهل السنة والجماعة". وصارت التعليقات والملاحظات تتراكم، وصفحات المُدوّن تتزايد، إلا إنه اتخذ منحى آخر، وإذا به يخرج مما دونت بعد ربع قرنٍ من الزمن، كتاباً في أصول الفقه[3]، وإن كان في ثناياه بعضٌ مما قصدت اليه أولاً، فلم يكن كتاب أصولٍ تقليديّ، وإن لم يخرج عن هذا الوصف كلية. فأدركت بعضاً مما أردتُ، وفاتني أكثره، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

      لكنّ الأحداث المتلاحقة التي زخر بها الواقع المعاصر كشف نقص الدراية وعوار المناهج عند من ادّعوا أنهم أصحاب الدعوة، ومشايخ الأمة. عوار الإخوان كان مكشوفاً من قبل، إذ اوتوا من قبل بدعة الإرجاء قديماً، فلا خير فيهم. و"السلفيون"، ادعوا إنهم أصحاب حديث، فراحوا يخلّطون ويخبِطون في الفقه والفتوى، وهم في حقيقة الأمر إمّا عيالٌ على الحديث، أو ممن يحفظ أسانيد يرددها، ويبني عليها ما لا يصح. فكانوا، ولا زالوا في الدرجة السفلي من أهل الحديث، الذين ذكر ظاهريتهم الإمام الخطابي في مقدمته لمعالم السنن.

      هذا العَوار المنهجي، أدى إلى دمار حركيّ، رأيناه بأعيننا في التصرفات والمواقف التي جرت على الساحات العربية إثر ثورات ما أسموه الربيع العربيّ. وكانت النتيجة الحتمية هي تكبيل أيدي الشباب واستبدال علمانية بعلمانية، الأولي ظاهرة والثانية مستترة إلا عن أعين الخبير المطّلع.

      بل إن هذا العوار المنهجيّ قد ضربت معاوله بشدة في مسيرة التيار الجهاديّ، في الجزائر أولاً، ثم في الشام مؤخراً. ورأينا فتاوى، وممارسات تبني عليها، ليس لها من منهج النظر السني نصيب، رغم عِرَض الدعوة التي يدعونها، بأنهم على الحق المبين. وهي دعوى كل من انحرف في المنهج وأصول النظر والاستدلال، لم يخالف في ذلك منحرف.

      من هنا عادت إلىّ الفكرة، أو الأصح أني عُدت إلى فكرة أنْ لابد من "معالم في المنهج"، بعد أن خرج "معالم في الطريق". فالمُسلم يعيش بفكرٍ يحرّكه، وهو فكر التوحيد. والفكرة تحتاج إلى منهجٍ يخرج بها من حيز العقل إلى حيز المادة، ومن نطاق الممكن إلى حقيقة الواقع، ومن التصور إلى التطبيق. وبلا منهج يحكم هذا التحول، فإن التشتّت والتخبط والتيه هو مآل الحركة. وقد ضرب الله سبحانه التيه على بنى إسرائيل أربعين عاماّ، تيها مادياً، لمّا خرجوا عن النهج الإلهيّ، وما تِيهنا اليوم إلا فرع من هذا التيه، بل أحسبه أشد وأعتى. فتيه البدن، يرجى فيه سلامة، وتيه العقل لا ترجى منه قيامة.

      وقد شاهدنا بأم أعيننا جيلاً من العمالقة يتوارى. جيل المحدث أحمد شاكر وأخيه العلامة محمود شاكر، وشيخ الدعاة حسن البنا وشهيد الجيل سيد قطب وأخيه محمد قطب، ود محمد محمد حسين، والإمام الأمين الشنقيطي، والشيخ الخطيب، والشيخ محمد إبراهيم، والشيخ محمد الدوسري، حتى من كان فيهم انحراف عن صلب السنية الخالصة، كالشيخ ناصر الدين الألباني. ونشهد الله أن لا بقية من هذا الجيل على الأرض أحياء. ثم جاء من بعدهم جيلٌ، كانوا أقل قامة من جيل هؤلاء، لكنهم وعوا واستوعبوا، وبذلوا الجهد وصرفوا الوقت، فخرج منهم أهل علمٍ كالشيخ عبد المجيد الشاذليّ، والشيخ رفاعي سرور، والشيخ محمد العلوان، والشيخ محمد المقدسي، والشيخ هاني السباعي، وغيرهم، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر. فكان عطاءهم فيه تجديد ونظر واستقصاء للأحكام، واستقراء للأحداث، فنفعوا إن شاء الله.

      وإن من أعظم الفضائل التي أنعم الله سبحانه بها على هذه الأمة هي القدرة على التحصيل، وهو الجمع والحفظ والترتيب والشرح. لكن كانت، وستظل، الفضيلة العظمى هي في القدرة على التحليل، والغوص وراء المعاني، من خلال المباني، وهي التي انفرد بها عدد قليل من علمائها الأفذاذ، وهم الذين يعدّون في طبقة المجتهد المطلق. وما ذلك إلا لاستيعاب كلتا الفضيلتين، التحصيل والتحليل. ولابد أن ننوه هنا إلى أنّه فرق عظيمٌ بين التحصيل والتحليل. فالتحصيل يعنى بالكمّ، أما التحليل فيعنى بالكيف.

      وقد لاح للناظر في أمر الأمة اليوم فقرها في العلماء المتبحّرين، من أصحاب التحصيل والتحليل. وما ذلك إلا مصداقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث مسلمٍ، قال "حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا جرير عن هشام بن عروة عن أبيه سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنه يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يترك عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضَلّوا وأضَلّوا".

      كذلك فقد رأينا وجوب التصدي للفكر التجديدي الاعتزالي الذي يغزو الساحة الفكرية الإسلامية، باسم التجديد، تجديد في ثوابت الشريعة وقواعدها وطرق نظرها واستدلالها، ومن ثم، التجديد في أصول الفقه. وهي الدعوة التي تولى كبرها الكثير من منحرفي العقيدة ممن أصاب علماً وأخطأ منهجاً. وهؤلاء كثير في المجال الأكاديمي، منهم من اتخذ إلهه من السلاطين والملوك، ومنهم من اتخذ إلهه هواه فانحرف به عن الجادة، فوقع في براثن الاعتزالية باسم العقل، وشوه حديث الآحاد الصحيح، ليصل إلى ما يريد من نصر ما هداه اليه عقله وهواه.

      ثم عنّ لي، بعد مجاهدة نفس ومحاورة عقل أن أوفّق بين الأمرين، أمر تدوين كتاب مفردٍ في "منهج النظر والاستدلال"، وأمر تقريب كتاب الموافقات للشاطبيّ، وأكون بذلك قد حاكيت شيخ الإسلام الشاطبيّ في "موافقاته" بين أصول المذهب المالكي والحنفي كما بيّن، قال "ولأجل ما أودع فيه من الأسرار التكليفية المتعلقة بهذه الشريعة الحنيفية سميته بعنوان *التعريف بأسرار التكليف* ثم انتقلت عن هذه السيماء لسند غريب يقضي العجب منه الفطن الأريب وحاصله أني لقيت يوما بعض الشيوخ الذين أحللتهم مني محل الإفادة وجعلت مجالسهم العلمية محطا للرحل ومناخا للوفادة وقد شرعت في ترتيب الكتاب وتصنيفه ونابذت الشواغل دون تهذيبه وتأليفه فقال لي رأيتك البارحة في النوم وفي يدك كتاب ألفته فسألتك عنه فأخبرتني أنه كتاب الموافقات. قال فكنت أسألك عن معنى هذه التسمية الظريفة فتخبرني أنك وفقت به بين مذهبي ابن القاسم وأبي حنيفة"[4].

      فالغرض من الكتاب إذا، هو الكشف عن الثوابت الراسيات في العقول، الراسخات في الفطر، الموسومات في الشرع، والتي يسير عليها الناظر في تصيّده للمعنى، ثم تجريده للفتوى، استعانة بما دون شيخ الأصوليين وإمام الاستدلاليين، أبي إسحاق الشاطبيّ رحمه الله.

      ولعل الله سبحانه أن يمدّ في العمر ليسمح بإنهاء هذا العمل، فليس أحب إليّ من إخراجه للناس، ولا أحسب أنه عمل شهور، بل عمل سنين، فالله المستعان.

      د طارق عبد الحليم

      24 نوفمبر 2014 – 30 محرم 1436


      [1]  الموافقات ج1 ص 25

      [2]  مجلة البيان اللندنية عام 1986

      [3]  هو كتاب "مفتاح الدخول إلى علم الأصول"، مؤسسة براءة، مدينة نصر

      [4]  الموافقات ج1 ص23