فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      قيام دولة الإسلام بين الواقع والأوهام – الوثيقة الكاملة

       (1)

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد

      حين يتحدث "الإسلاميون" اليوم عن دولة "الإسلام"، فغالباً ما يرِد على خاطرهم خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وأكثرهم واقعية، يرد على باله الخلافة الأموية أو العباسية. وأعني بالإسلاميين صنفين من المسلمين، أحدهما عامتهم، والآخر خاصتهم من الشرعيين أو الباحثين، حسب انتماءاتهم العقدية والحركية. فالشرعيون، في الحركات الجهادية مثلا، لا يختلفون كثيرا في تصورهم عن عامتهم في هذا الصدد، وهو التصور الذي ذكرنا، تصور بسيط مباشر "لدولة" أو "خلافة" تقوم فجأة لا يحول بيننا بينها في عالم الناس إلا أن نجد "خليفة" نجتمِع عليه، أو يجتمع عليه من يؤصل هذا النظر منهم، ويلتزم به المسلمون، عامة وعلماء في نواحي الأرض كلها!.

      والباحثون، سواء المُنتمون منهم إلى حركات إسلامية كالإخوان، أو المستقلون العلمانيون، ينظرون إلي الدولة بمنظار جدّ مختلف عن أولئك الآخرين. فهؤلاء الذين ينتمون إلى حركات إسلامية يرونها دولة ديموقراطية وطنية، يحكمها شرع الله بحكم الأغلبية التي تعيش على أرضها، لا أكثر. أما العلمانيون اللادينيون، فأنهم يرون الدولة بأي شكل إلا أن يكون للإسلام فيها موضع قدم، فقد تكون ديموقراطية أو دكتاتورية أو عسكرية، لابأس بأيها، طالما ليس فيها أي صبغة إسلامي. وهؤلاء هم من نعتبرهم، بالتعبير الشرعيّ، مرتدون. ومن ثم، فإن بحثنا هنا لن يمس تصوراتهم إلا من حيث نقاط تلاقيها مع التصورات "الإسلامية".

      والحقّ، أن دولة الإسلام، تقع وسطا بين هذين الطرفين "الإسلاميّين"، كما سنبين في هذا المبحث.

      وقد أدى تصور "الإسلاميين" للدولة الإسلامية، إلى ما نراه منعكساً على الساحة اليوم، في مصر والشام والعراق على الأخص، ثم اليمن وليبيا وتونس، بشكلٍ أو بآخر.

      ففي مصر، أدي تصور الدولة الإسلامية في ذهن الإخوان إلى تضارب في المصالح، بين منهجين عقديين لا يمتان لبعضهما بصلة، منهج العلمانية اللادينية، ومنهج الإسلام. ولم يدرك هؤلاء أن اللقاء بينهما مستحيلاً، وأن إمساك العصا من النصف، لا يقبله العلمانيون اللادينيون من ناحية، ولا يقبله الغرب الصهيو-صليبي من جهة أخرى، فسقطوا، وسقطت معهم فكرة الدولة الإسلامية المبنية على هذا التصور.

      أما في العراق والشام، فإن الأمر اختلف عنه في مصر اختلافاً بيّنا. ذلك أن "التيار السلفي الجهاديّ" قد انقسم على نفسه إلى تيارين، التيار السلفي الجهاديّ الأصلي الأصيل، المتمثل في مواقف الكثير من علماء أهل السنة، عقديا، وفي قاعدة خراسان عقدياً وعملياً، وما آثرنا أن نطلق عليه هنا "التيار السلفي الجهاديّ الجديد-أحاديّ النظرة" للأسباب التي سنقدمها بعد.

      فالتصور السوسيو-ديني، عند هؤلاء المنتمين "للتيار السلفي الجهاديّ الجديد-أحاديّ النظرة"[1]، بشأن فكرة الدولة الإسلامية، بكافة طوائفهم المتصارعة، يرون الدولة بالمفهوم الذي قدمنا أولاً، دولة أبي بكر وعمر، أو خلافة الأمويين أو العباسيين. وهذا التصور إنما نشأ لعدة عوامل، نذطرها بعد.

      كلّ تلك العوامل، قد أنشأت جيلاً "إسلاميا"، صالحاً تقياً، لكنه أقرب إلى السذاجة في النواحي السياسية والإجتماعية، والتي نسميها في التعبير الشرعي، بالسنن الكونية في مسائل العمران، وبالسياسة الشرعية.

      والأمر هنا أن كلا التصورين، الإخواني، أو السلفي الجهاديَ، بشكله الحاليّ، على خطإ في تصور "الدولة الإسلامية". ولا بأس هنا أنْ نعيد رسم مسار الخطأ في الطريقين، لنبني عليهما ما نراه في هذا الصدد.

      وسنقوم ببناء هذا البحث على ثلاثية جدلية، ننظر فيها إلى التصورين اللذين ذكرنا، وينبثق عن كل منها ثلاثة محاور، فتتكون بهذا تسعة نقاط. هذه الثلاثية هي:

      • المعطيات: وفيها نضع تصورات التيار المقصود بلا نقد، سلباً أو إيجابا، بل نكتفي بسردها، إثباتا وبيانا.
      • الإشكاليات: وفيها نطرح المشكلات العقدية والعملية في تلك التصورات، كما نراها، فننقد سلباً وإيجابا.
      • الأطروحات: وفيه نبيّن الموقف السنيّ القويم في تلك المسائل، ثم نطرح لبنة بناءٍ في موضوع تصور "الدولة الإسلامية" على هذا الأساس.

      وسنعتمد في هذه الدراسة على ما تراكم لدينا من معلومات تحليلية للواقع في الساحة الإسلامية، خلال العقود الأربعة الأخيرة، دون أن نشغل الصفحات بتأييد رأي أو قول من نقولات العلماء، بل نحيل إلى ما دوّن علماء السنة في موضوع السياسة الشرعية خاصة، وفي تاريخ الفرق، وما دوّن المحدثون من علماء أفاضل فيها، سواء الناحية العقدية، وما أكثرهم، وفي الناحية السياسية-الاجتماعية، ككتابات المعلم التربويّ محمد قطب رحمه الله، والشيخ رفاعي سرور رحمه الله، والشيخ د هاني السباعي، وننوه خاصة بتحقيقات الدكتور أكرم حجازي التي يجد فيها القارئ كمّاً هائلاً من الاستشهادات والنقول من المختصين في الساحة السياسية. كذلك ما دوّنا من قبل في مجال الفرق والعقيدة

      (1)   المعطيات:

      معطيات الفكر السياسيّ الإخوانيّ في موضوع الدولة:

      الإخوان، كأي تنظيم اجتماعيّ بشريّ، يتفقون على مبادئ عامة، ثم يختلفون على بعض تطبيقاتها، حسب شخص الناظر منهم..

      شكل الدولة:

      أما المبادئ التي يجتمعون عليها بشأن "الدولة الإسلامية"، فهي أنّها دولة "حديثة"، أي تخضع، خارجياً، للمعايير الدولية في إقامة الدول، وأشكالها، وتدخل تحت هيئاتها العامة ومؤسساتها العالمية، كالأمم المتحدة، وتعترف بمواثيقها ومعاهداتها، ومنظمات العفو الدولية، بل وتتعامل مع صندوق النقد الدوليّ، بضوابط تتغير حسب شخص القياديّ الإخوانيكما أنهم يرونها داخلياً، دولة تقوم على النظام الديموقراطيّ الانتخابيّ، من حيث يصورونه على أنّه الشورى الإسلامية، وأنه الوسيلة الحديثة لتطبيق مذهب الشورى. وهم في ذلك يُدخلون عنصر الواقع في معادلة عقدية، من حيث إنهم يرون أن المسلمين هم الأغلبية بالفعل في بلاد الإسلام، فواقعياً وعملياً، ستأتي ديموقراطية الأغلبية بالمسلمين وبالتالي بشريعتهم، يُملونها من داخل التنظيمات البرلمانية، والهيئات التشريعية، بحكم الأغلبية.

      الأسباب:

      كما أنهم يؤمنون بارتباط الأسباب الدنيوية مع نتائجها ارتباطاً لا فكاك منه، وإن لم يصرحوا به في منشوراتهم أو يظهروه في خطابهم. وهم في ذلك يتبعون الفكر الإعتزاليّ عملياً لا نظرياً، من حيث لا يشعرون. فهم يتعاملون مع النظم العالمية من حيث أن قوتها ومكانتها سببٌ في وجوب اعتبار طرقها ووسائلها، وأنّ التفاعل معها على مائدتها وبشرائطها، سبب للوقوف معها على بساط واحدٍ. ومن ثم، فإنّ هذا يرتبط بما قدّمنا من أنّ "تغيير" الواقع غير ممكن، ولا يرتبط بإرادة ما، بل هو سببٌ تنشأ عنه نتائجه التي يتعاملون معها حسب قانون الأسباب والمُسبّبَات.

      الواقع:

      وهم، في الحقيقة، يعتبرون الواقع إعتباراً كلياً، ويرونه، من حيث يرونه، حاكم بذاته، وأن قوالبَه الحاضرة هي التي يجب أن تتشكل بها "الدولة الإسلامية"، بل إنهم لم يتلفظوا باسم "الإسلامية" مراعاة لذلك الواقع لديهم، فهم يتحدثون عن دولة مصر الديموقراطية الحديثة، لا "الإسلامية"، ولا يعتبرون هذا إلا بابا من أبواب "الحيلة" على المجتمع الدوليّ، ليمرّر دولتهم عبر قنوات مؤسساته وهيئاته. فالواقع هو الثابت، والشكل الإسلاميّ هو المتغير. ويجب أن يتشكل المتغير حسب قواعد الثابت ومعطياته. ومن ثم، فهم لا يرون إمكانية "تغيير" الواقع، لأنه الثابت.

      معطيات الفكر التيار السلفي الجهادي في موضوع الدولة[2]:

      ويختلف هذا الفكر اختلافاً جذرياً أصلياً مع فكر جماعة الإخوان، ومن سار على دربها مؤخراً كالجماعة الإسلامية في مصر. فالمبدأ التي تجتمع عليها طوائف الفكر السلفيّ الجهاديّ، وإن اختلفوا في بعض تفاصيله، إلا إنها تتفق في عناوينه الكبرى، كما سنشير اليها هنا

      شكل الدولة:

      الحقيقة التي قد يستغرب لها الباحث هنا، أن هذه النقطة لم تسترع انتباه غالب الجماعات التي تنتمى لهذا الفكر، إلا من ناحيتها العقدية، لا من الناحية التطبيقية، أو على الأقل بأي شكلٍ يحمل تفصيلاً تطبيقياً.

      فمن الناحية العقدية، نجد أن أصحاب هذا التيار يرون أن "لا حكم إلا لله"، وأنّ ذلك هو أسّ التوحيد العملي، الذي دونه الكفر، وأن الشريعة هي المصدر الأوحد للتشريع، على اختلاف في مصادرها لدي البعض بين سنة أو ظاهرية. وهم من ثم يبنون مواقفهم من مخالفيهم على هذا الأساس، وهذا الأساس وحده لا غيره. ومن ثم، فهذه العقيدة هي التي يجب أن تحكم الدولة، أيا كان شكلها، داخلياً أو علاقاتها خارجياً، وهو باب الولاء والبراء.

      وإذا نظرنا إلى شكل "الدولة" داخلياً، فهي تقوم على نهج "الخلافة"، فلا يسمى رأسها رئيساً، بل أميراً للمؤمنين، ثم يطلب بيعة، لا انتخابا، ولا يحتمل الأمر تعدداً في "الترشح"، بل يُقتل من يدعو إلى نفسه للترشح في مواجهة "أمير المؤمنين". وأمير المؤمنين، يصل إلى هذا المنصب بموافقة "أهل الحل والعقد"، وهم كجماعة البرلمان في العرف الديموقراطيّ، إلا إن العامة لم ينتخبوهم لهذا المنصب، وما يكون لهم، إذ هذا يجعل أمر الدين مشاعاً، ويُرجع الحكم للأغلبية، التي قد تكون مسلمة أو غير مسلمة. وحكم الأغلبية مرفوض عقدياً بشكل قاطع. كذلك، فإن أتباع هذا التيار لم يحزموا أمرهم بالنسبة لتعريف الدولة وحدودها، فإنه بالرغم من معارضتهم للشكل العالمي الحديث للدولة، وخاصة فيما يتعلق بالحدود، فإنهم لم يقدموا بديلاً واقعياً لهذا الشكل، بل اكتفوا بالحديث عن سقوط سايكس-بيكو، ووحدة "الأمة"، وردة القومية والوطنية، وهذه المفاهيم التي يجب أن تختفي من "الدولة" الإسلامية.

      وهناك طائفة داخل هذا التيار، تميزت عن بقيته، وأصبحت مؤخراً "ظاهرة"، تلفت انتباه علماء الاجتماع والباحثين خاصة.  خلاصة الأمر في "شكل الدولة"، عند هؤلاء، هي الدولة "الدكتاتورية" التي تتخذ النموذج "الهتلري" أنموذجاً في العلاقة بين التابع و"التنظيم". وهذا الشكل، قد نجح من خلال عملية دعاية مكثفة، تدعو "للتنظيم" ذاته، وتعطيه صبغة دينية بحتة، كأنه مطلوب لذاته، ومقصد شرعيّ أصليّ. وتصل، من خلال هذا التوصيف "للدولة" المقدسة، إلى تقديس الأشخاص القائمين عليها. وهي خطة في غاية الذكاء والمهارة. وقد تهيأ لي قريباً مناقشة شخصية من أحد أتباع "الدولة"، فإذا بتغيير رهيب ساحق، قد طرأ على طريقة تناولها للأمور، ونظرتها للعامة والعلماء، وتصوراتها لقدسية "الدولة" ككيان "باقٍ" وإسباغ صفة الخلود عليه، وكانت هذه المناقشة هي ما أوردت في نفسي النموذج الهتلري، الذي جعل "الرايخ الثالث" دولة مقدسة، وجعل هتلر، تبعاً لذلك، مقدساً لدى الأتباع. وفي ظاهرتنا هذه، فإن استخدام "الدين" و"الشرع" لإصباغ هذه الصفة التقديسية، والتي تمثلت في أعلى درجاتها في تعبير "#باقية"، وجعلت حتى مناقشة أمرها، بأي شكل من الأشكال، هرطقة غير مقبولة، وجعل مخالفيها "مرتدين" ديناً. وهي الظاهرة التي تُعرف في عالم الفرق الإسلامية بالحرورية.

      أما عن شكل العلاقات الخارجية لهذه "الدولة"، عند أتباع هذا التيار السلفي الجهادي الجديد عامة، بما فيه أصحاب تلك الظاهرة، فإنه لم يظهر في هذا البعد أي منحى يشبه من قريب أو بعيد كيف يكون هذا التعامل، إلا، مرة أخرى، نصوص للفقهاء الأُول، كالجويني وابن القيم والماورديّ. وتقوم فكرة العلاقات الخارجية، عند أصحاب هذا التيار على مفهوم للولاء والبراء. وهو، بالنسبة لهم، مفهوم مباشر لا التواء فيه، بل ولا تفصيل، يتلخص في آية الممتحنة "قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌۭ فِىٓ إِبْرَ‌ ٰهِيمَ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ إِذْ قَالُوا۟ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَ‌ ٰٓؤُا۟ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ٱلْعَدَ‌اٰوَةُ وَٱلْبَغْضَآءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا۟ بِٱللَّهِ وَحْدَهُۥٓ".

      الأسباب:

      والبعد السببيّ في نظر هذا التيار هو بعدٌ قريب الشبه إلى التصور السببيّ الصوفيّ، أو الأشعريّ، بشكلٍ لا-شعوري. والحق أنهم للتصور الصوفي أقرب، إذ الأشاعرة يفصلون بين السبب ونتيجته صورياً، ولا يرفعونه من صورة الأفعال بالتمام. بينما النظر الصوفي، وقريب منه التصور السلفي الجهاديّ الجديد، يعتمد على البعد الغيبي والمدد الإلهي بطريق مباشر، دون النظر إلى السلسلة السببية التي بنى الله سبحانه عليها الكون، وسننه في الدنيا والآخرة، وربط بها الأعمال ونتائجها، في الدنيا والآخرة. وهي سبب طبيعي ومباشر لتصورهم عن الواقع كما سيأتي.

      الواقع:

      أما عن نظرة أبناء هذا التيار للواقع (تيار الجهاد السلفي وبخاصة الحروريّ)، فهي مختلفة تماما عن نظرة الحركات "الإسلامية" التي ذكرنا. والحق، أنهم لا يكادون ينظرون إلى الواقع على الإطلاق، أعنى خارج دائرتهم الضيقة. فالواقع بالنسبة اليهم، شئ حادث، غريبٌ، يجب أن لا يكون موجوداً، بل يجب أن يكون معدوماً، وبتجاهله، يمكن أن يختفي. بل بمجرد إعلان دولة الإسلام، أو خلافة أو إمارة، أو ما شئت، ستختفي بقية دول العالم، بقدّها وقديدها، ولن يكون هناك، من ثم، داع لعلاقاتٍ أو تعاملات أو تطبيقات لولاء أو براء. بل هو مجرد غزوهم في عقر دارهم، في القارة الأمريكية، وأوروبا، ثم آسيا والصين، وهم، هؤلاء الكفرة، ساكتون لا يحيرون فعلا، ولا يردّون غزواً. ذلك هو، في حقيقة الأمر، تقدير هذا التيار للواقع الخارجيّ. إلا من آثر منهم التعامل بشكلٍ خفيٍّ مع "الواقع"، فأخذ مالاً، وعتاداً، ودخل بهما حلبة التيار السلفي الجهاديّ، من الباب الخلفيّ!

      وقد أفرزت الأحداث الأخيرة، علي الصعيدين العراقي والشامي، عدداً من الجماعات الإسلامية التي تحمل هذا التصور، تتراوح في أعداد منتسبيها بين العشرة والعشرة آلاف مقاتل، على أكثر تقدير. بدأت في قتال الروافض في العراق، ثم تابعت إلى الشام، ثم لحقت إحدى هذه التنظيمات، المعروفة بتنظيم "الدولة الإسلامية في العراق "، إلى الشام، وخاضوا، ولا يزالوا،  معارك مع بقية الكبهات والكتائب المسلحة في الشام، على أصل أنهم "الدولة"، وأن بيعتهم هي "البيعة"، وأن أميرهم هو "الأمير"، بل أمير المؤمنين كما يسمونه.

      إلا أنّ كل تلك الأحداث، والتنظيمات التي أحدثتها، والأصول التي بنيت عليها تلك التنظيمات، عليها إشكالات عديدة، منها شرعية، ومنها واقعية، أعنى في تطبيق أحكام الشرع على مناطاتها. من ذلك مفهوم البيعة والإمامة والتمكين. لكن، الأهم، هو ما سنتناوله في بيان صحة تطبيق تلك المفاهيم على واقعنا الحالي، كما سنبيّن في المقال التالي إن شاء الله.

      يتبع إن شاء الله

      (2) الإشكاليات

      13 رجب 1435 – 12 مايو 2014

      (2) 

      الإشكاليات

      نعزو تلك التصورات كلها، والتي تعجّ بها ساحة العمل الإسلاميّ إلى عاملين مشتركين بينها، ثم إلى عوامل خاصة بكل جماعة. أولهما: الإحباط الديني والنفسيّ الذي يشعره أبناء هذا الجيل من جرّاء بُعد مجتمعاتهم عن الإسلام، عقيدة وعملاً. فالأمر بُعده نفسيّ أولاً وأخيراً، سواء عند قادة تلك الجماعات، أو عامتهم. والحق، أنه ليس في قيادات ذلك التيار "السلفي الجهادي الجديد" قيادات لها خبرة وتأسيس، إذ هو تيارٌ ناشئ وليد كله، لا تزيد أعمار قياداته عن بداية الأربعينيات، مما يجعلهم جيلاً حديثاً قليل البضاعة في الخبرة، ويكاد يُلحقهم بأتباعهم في هذا المجال. بينما اتجاهات أخرى، كالإخوان أو قاعدة الجهاد، تجد فيهم جيلاً مخضرماً، عاش خلال عهود مختلفة وعاشر أنظمة طاغوتية متعددة، ومنهم من جاهد مختلف قوى الصهيو-صليبية كالشيخ الجليل أيمن الظواهريّ، حفظه الله، أو قيادات الإخوان عامة، على ضلال منهجهم. والعامل الثاني هو ضعف العلم الشرعيّ بين "شرعييهم" أو "فقهائهم"، في التيارين، واقتصار عوامهم على التقليد الأعمى في طرفٍ، والاجتهاد المطلق في بعض المسائل المفصلية في طرفٍ آخر.

      إشكاليات الفكر السياسيّ الإخوانيّ في موضوع الدولة:

      أما العوامل التي اختصت بها جماعات الحركة الإسلامية الديموقراطية، فهي تتلخص في إشكالية التعامل مع أبناء الأمة ممن ليسوا من المبايعين لها. فمن ناحية، تجد الجماعة منفتحة على "الأمة"، التي هي كلّ من عاش على أرض الوطن المشترك لديها، حتى اليهود والنصارى والمجوس. وقد رأينا كيف أنّ تلك الجماعة لا ترى مانعا من حاكم قبطيّ، أو امرأة، بل تجد في هيئتها الحزبية نصارى مثل رفيق حبيب. لكنها في نفس الوقت، منغلقة على نفسها، تستخدم من لا يبايعونها، ولا تتحشى من هذا الاستغلال، الذي تبرره بالصالح العام لجماعتها. وهذا أسوأ ما يمكن أن يكون من تصور للعلاقة بين "الجماعة" و"الأمة"، إذ فيه ما فيه من كذب واستغلال وخداع، بل ونفاق. كما أنك واجدٌ، نتيجة لهذا المنهج، إشكالية أخرى، وهي بناء تنظيمهم علي مبدأ "الولاء لا الكفاءة". فالجماعة لا تقبل في هيكلها إلا من ينتمون اليها،وإن قلت أو انعدمت كفاءاتهم. والآخرون "متعاطفون"، يستخدمونهم لتحقيق أغراض، مادية أو معنوية.

      شكل الدولة:

      • والشكل الذي تطرحه معطيات الفكر الإخواني الديموقراطي، لا يكاد يتميز عن الطّرح الديموقراطيّ العلمانيّ، سواءً في البنية أو الهيكل التشريعي والتنفيذي والقضائي، والذي يعتمد الانتخابات العامة طريقا لشغل مناصب هذا الهيكل. وهذا الطرح له إشكاليته في الفكرة الإسلامية. إذ إن هذا البناء يقوم على قواعد الديموقراطية، التي هي حكم الأغلبية، مسلمة كانت أو نصرانية أو مجوسية. وهي فكرة مرفوضة عقدياً، إذ تخالف أساس التوحيد الذي لا يمنح المُشرك ابتداء أيّ حقٍ في الهيكل التشريعي والقضائي، ويقيد دوره في الهيكل التنفيذي.
      • ولهذا، فإن الطرح الإخواني لم يقدم جديداً في هذا المضمار، ولم يتخذ من المصادر الشرعية مصدراً إلا مبادئ عامة، في أعلى مستوياتها، والتي أسموها مبادئ الشريعة[3]. وهذا يتفق مع النظرة العلمانية التي لا تبالي إن أخذت بالمبادئ العامة للشريعة، فهي قواسم مشتركة لدى المسلم والكافر، وهي من قبيل العوائد التي لا تختلف باختلاف الأعصار والأمصار، والتي غالبا تكون مما اتفق عليه عقاء الجاهليات المتتابعة، بعيدا عن هدي الوحي، وتلقته عقولهم بالقبول[4].
      • أما عن العلاقات الخارجية للدولة الإسلامية الإخوانية، فإن إقرارها بالمعاهدات والمواثيق الدولية، يُعتبر إشكالية أخرى، من المنظور الإسلاميّ. إذ إن تلك المعاهدات والمواثيق تقوم على مبدئين، أولهما حفظ المصالح الحيوية الصهيو-صليبية، وثانيهما المرجعية العلمانية لتلك المواثيق. لكنّ هذا التوافق يأتي من مبدأ اعتمدته الجماعة في تنظيم الدولة الداخليّ، وهو "المشاركة لا المغالبة". وهذا يوقع الجماعة في حرج كبير واشكالية عميقة مع الفكرة الاسلامية. إذ يقود مباشرة إلى التصادم مع النصوص، والاجتهادات المبنية عليها، بدافع المصلحة، التي يجعلونها مرجعا شرعياً عاماَ، كما فعل الطوفي الحنبليّ[5]. بل يقودها إلى التسليم المطلق للقوى الخارجية في نهاية الأمر، فمتى بدأ الانزلاق في هذا الاتجاه صعب تقييده وتحديده. ولا يخفى ما في مثل هذا الانزلاق من هدم لساسياتٍ ومطلقات وثوابت شرعية تودي غاليا إلى خرم التوحيد والتفلت من الدين بالكلية.

      الأسباب:

      والنظرة الإخوانية في علاقة الأسباب بالمسببات، نظرة خاطئة ابتداء من المنظور الإسلاميّ، فإن الله خلق النتائج تتبع أسبابها، لكنّ هذا لا يعنى أنّ ما نراه في عالم الأسباب لا يمكن أن تنشأ نتيجة بخلافه، أو يقع أمر لا يوافقها. وكمثال إدعاء أنّ أمريكا تمسك بمفاتح الدنيا كلها، وهو صحيح في عالم الأسباب التي تحدها أمور كثيرة، فإن أمريكا لها حساباتها الخاصة في تناول الأمور أولاً، ثم إن ما يراه الخصم من قوتها وسيطرتها، فإنما يراه من منظور ضعفه هو قبل منظور قوتها. وهذا التصور ينشأ في النفس استلاماً للأقوى، من حيث أنّ قوة الخصم لا بد أن ينشأ عنها هزيمة الأضعف، بلا استثناء.

      ولو عرضنا مواقف الإخوان بعامة على هذا النظر لوجدناه سبباً في الكوارث التي حلّت بالحركة المصرية والتونسية، ومفسراً لمواقفهم الانهزامية في علاقاتهم الخارجية وضعفهم في وجه القوى الفاسدة الداخلية.

      الواقع:

      والواقع الذي تحدثنا عنه عند قادة هذا التيار، ينشأ عنه إشكالية محيرة، إذ إنه يعتبر السطوة الصهيوصليبية كاملة تامة، ومن ثم يحاول التحاور معها، والرضا والخضوع لقرراتها، من حيث هو يريد، غائياً، أن يتخلص من سطوتها.

      كذلك فإشكالية التعامل مع الهيئات والمؤسسات الاجتماعية والتنفيذية القائمة، فإن الواقع يملى التعامل معها، إذ لا دعٍ لاستبدالها، فالقائمون عليها "مسلمون"، وهي مؤسسات "شرعية" لا تحتاج هدماً بل إصلاحاً، حتى المؤسسات العسكرية والأمنية. وهذا ما يبرر سقوط دولة الإخوان في مصر في عامٍ واحدٍ، بسبب خلل تقييم الواقع لديهم، ومن ثم كيفية التعامل معه.

      إشكاليات الفكر السياسيّ الحروري الجديد في موضوع الدولة:

      أما هذا الفكر، فحدث ولا حرج، عن نقاط ضعفه وتناقضه وتبسيطه المخلّ. ولعل من أسباب اتباع كثير من الشباب العاميّ لهذا الفكر ما يلي:

      • اليأس من التغيير، بأي طريقة أخرى غير التي يرونها، خاصة ما كان من تجاربٍ فاشلة، عقدياً وعملياً، في مصر وتركيا على سبيل المثال، مما استبدل مواجهة "الواقع" لدى هؤلاء، باستبطان "حلم"، ثم العمل على الوصول اليه، دون التفكير في مدى واقعيته.
      • ضعف العلم الشرعيّ والوضعيّ، والإقتصار على مصادر السلف الصالح في وضع تصور دولة إسلامية، في القرن الحادي والعشرين، أو الخامس عشر هجرياً.
      • قلة الخبرة والوعي بما هو عليه واقع الدنيا اليوم، وعدم إدراك التوازنات العالمية على الأرض.
      • انعدام العلماء الربانيين من الطبقة الأولى، الموجّهين لحركة هذا القطاع من الجيل[6]، في الاتجاه الصحيح، مما أدى إلى أن يكون تحرك أبناء الإتجاه مبنيّ على تصورات طلبة علم، صغار في السن والعلم والخبرة، فباءت محاولاتهم بالفشل، كما رأينا في تجربة "الجماعة الإسلامية المسلحة"، التي كانت وليدة تجربة حركة الإنقاذ الإسلامية في الجزائر، والتي فشلت بدورها لتبنيها النهج الديموقراطيّ، ولأسباب أخرى ذكرناها في محل آخر[7]، وبرغم ذلك، فإنها قد أنتجت حركة جهادية أخرى كانت الأقرب للنجاح، وهي الجماعة الإسلامية المسلحة" في طورها الأول، بقيادة أبو عبد الله أحمد، لولا ما آل اليه فكرها الحروريّ، على يد الزيتوني والزوابري من بعده، فأجهضاها، وأفشلا التجربة الجهادية برمتها. فكأنما ولدت حركة الإنقاذ المُفرّطة حركة الجماعة المسلحة المُفرِطة، حسب نظرية "البندول"، التي نتبناها في فهم الحركة التبادلية بين طرفيّ المعادلة الإسلامية. لكننا هنا لا نرى أنّ شكل "الدولة" كان من النضوج الكافي لدي هؤلاء جميعا كي يصل بها إلى مرسى الأمان، على أية حال.

      شكل الدولة:

      (1)

      مقدمة:

      • وهذا البعد النفسيّ الذي ذكرنا آنفا، هو الذي يجب أن يشد اهتمام الباحثين في أمر الإسلام، والجهاد العالمي خاصة. فإنه هو المحرك الدافع وراء كافة التصرفات، والتصورات التي تعج بها الساحة، إن استثنينا العملاء فيها. وهذه الحقيقة تجعل أبناء هذا التيار، سواءً المشاركين فيه فعلاً على الأرض من مجاهدين، أو أتباع الفصائل المختلفة على الصعيد الإعلاميّ، هم آخر من يجب أن يُستمع اليهم في تحليل الموقف القائم في ساحة القتال، إذ إن نظرهم يفتقر إلى الموضوعية اللازمة للوصول إلى القرار الصائب، وأعنى به على المستوى الاستراتيجي، لا على مستوى التحركات اليومية من موقع إلى آخر، أو تقديم وتأخير أوقات الهجوم وغير ذلك. وهذه القرارات الأخيرة، هي من عمل القادة الميدانيين بالقطع.
      • أما ما قصد اليه علماء السلف، ممن أشاروا إلى أنه يُستمع إلى علماء[8] الثغور، فهو فيما يخص أوضاعهم في الساحة الجهادية، إذ يلجأ اليهم القادة هناك ليُفتوا لهم في معضلاتهم الشرعية، كموضوعات الأسر ومعاملة المحاربين، وتوزيع الغنائم وما إلى ذلك. وأما ما نقصد اليه هنا، فهو أمر مخالف للشأنين اللذين ذكرنا. فإن التقدير العام لتوجه الحركة الجهادية، يصعب، بل قد يستحيل على من هم في غمار الأحداث أن يقوّموه. وهو أمر عام شائع في كافة أمور الحياة، أن يعجز المرء عن تقدير حقيقة موقف ما طالما هو جزء منه. بل الأفضل إما أن ينفصل عنه أو أن يكون أساساً ممن هو خارجه، ليصلح النظر، ويصح الاستدلال.
      • لهذا، فإنه قد غابت حقائق وتقديرات كثيرة جدا، عن أنظار قادة تلك التنظيمات، حتى ورّطوا الساحة في أوضاع لا يرون حقيقة أبعادها وخطورة نتائجها، مما يجعل نهاية هذا الوضع الحاليّ لا تشير إلى أيّة بشارة خيرٍ، عند أصحاب العلم والخبرة والموضوعية.

      (2)

      • الحركة الجهادية السنية العالمية، التي تقوم بالجهاد اليوم، منها ما يعرف معنى الدولة من حيث مارسها، كما في قاعدة خراسان، من خلال ملازمتهم لدولة طالبان. ومنهم من يريد أن يعرف ضوابطها وحدودها، وهم من في قاعدة الشام، كالنصرة، أو الملتزمون بالقاعدة في بلاد أخر. ومنهم من يتيه في صحراء الأحلام، لا يعرف "دولة" شكلاً ولا موضوعاً، إلا أمنيات تجترها قياداتهم، يغذون بها أحلام تابعيهم، وهم أصحاب الجهاد الحروريّ. ونركز كلمتنا هنا على هؤلاء الأخر، من حيث أنّ قاعدة الشام، تسمع وتطيع لمن هم أعلم منها وأسبق في هذا المضمار، أما هؤلاء فإن رؤوسهم حديثة عهد بعلم وجهاد، مع انحراف رؤية وتصور، مما يسميه أهل السنة ابتداعاً.
      • والاشكاليات على النظر السلفي، خاصة الجهادي الحروريّ منه، كثيرة متعددة، لدرجة تجعل تكوين الدولة ذاتها، وبناءها الداخلي، أمر مشكوك في القدرة علي تطبيقه، لضبابية مفاهيمه، بل لانعدامها نظرياً. فالحركة هي التي تحدد شكل الكيان الذي يرسمون صورته، لا استقرار وضع على الأرض، وهو ما يجعل "الدولة" هلامية الشكل لا استقرار فيها، إذ هي في مكان ما في يوم من الأيام، ثم إذا بها تتركه في اليوم التالي، كما حدث في إعزاز وحريتان وكفر حمرة على سبيل المثال، حين تمّ إخلاؤها من قبل تنظيم "الدولة". وهذه إشكالية كبرى ينعكس أساساً على موضوع البيعة كله، ويضعه رهن التساؤل.
      • و"الدولة" عند هؤلاء هي "اسم" أكثر منه حقيقة، سواءً في التعريف الغربيّ، أو في التعريف الإسلاميّ[9]. فأنت واجدٌ أنّ ما أطلقوا عليه "الدولة الإسلامية في العراق والشام" هو في حقيقته تنظيم كبقية التنظيمات التي تعُجّ بها الساحة، تتحدد جغرافياً بحواجز على مناطق سيطروا عليها، وتتكون من مجموعة مقاتلين، وهيئات تدير بعض أنشطة إجتماعية قائمة بالفعل في تلك المناطق، بعد تغيير اللافتات التي على جدران منشآتها. ثم هذه الحواجز يتغير وضعها بين يوم وليلة، حسب الكرّ والفرّ. وليس لهم منطقة مركزية يُرجع لهم فيها، وهي ما اصطلح على تسميتها "العاصمة"، والتي تمثل مركز الدولة في المفهوم الحديث، وفي المفهوم الإسلاميّ المحدث على السواء.
      • والفكرة العقدية[10] التي تبنونها فكرة إسلامية بدعية، عرفت بالحرورية[11]، وهي فرقة لم يكن لها في يوم مركزاً أو عاصمة أو دولة أو حتى إمارة صحيحة. إذ إن فكرتها تقوم على محاربة "الأمة" التي تعتبرها كافرة بعامة، ومن ثم، فإن تلك الفرقة قد آل أمرها على الدوام إلى أن استهلكتها الأمة، وهضمتها، وقذفت بها خارج جسدها كما يقذف المرء بقاياه.
      • ثم إشكالية أخرى، لا تختصّ بها الفكرة الحرورية على وجه الحق، بل تشاركها فيها كافة تيارات السلفية الجهادية، وهي إنها لا تعرف آلية حقيقية حتى الآن، لتمييز "أهل الحل والعقد"، عدا استناد كلّ طائفة على نصوص أئمة السنة والجماعة، في تعريفاتهم العامة التي وردت في كتب السياسة الشرعية القديمة. أما آلية اختيارهم، ومن يستحق أن يكون منهم ومن لا يستحق، وأي محلة لها أن تدعى أنّ أهل حلّها وعقدها هم "أهل حل وعقد" كافة مسلمي الأرض؟ فهذه الأسئلة لم تُطرح بأي جديّة على وجه الإطلاق.

      يتبع إن شاء الله  تعالى

      تكملة الإشكاليات 3 

      د طارق عبد الحليم

      21 رجب 1435 – 20 مايو 2014

       

      (3)

      إقامة الدولة:

      سبق أن قررنا بعض الإشكاليات التي تُطرح على الفكر الجهاديّ، خاصة الحروريّ، بشأن إقامة "دولة". ونعيد القول الذي سبق أن قررناه من قبل بهذا الشأن، في رسالتنا المفتوحة إلى قادة تنظيم البغداديّ، قلنا فيها "التعامل مع مصطلح "الدولة"، وما جرّه ذلك المصطلح من أزمات على ساحة الحركة الإسلامية كلها في الشام. فقد انطلقت "الدولة" من قناعات وتصورات، لا أقول إنها أخطأت فيها، قدر ما أقول إنها قد خُلّط عليها أمرها فيها، فاستصحبت أفكارا وأوضاعا سياسية وتركيبات اجتماعية لا تنطبق على أرض الواقع من ناحية، ولا تسير على نهج الشرع أو رواية التاريخ من جهة أخرى، حتى وإن أقر عليها الشيخان أسامة بن لادن وأيمن الظواهري، وهي إنها "دولة".

      وقد ساءلت في مقال سابق لي، لا بأس من نقل جزء منه هنا لأهميته، قلت "غموض مفهوم "الدولة" لدى مسؤوليها، وبالتالي لدى أتباعها ومن يتبع الأحداث. فالدول، من حيث هي دول، لا تزال تنظيمات اجتماعية، تقوم بأدوار معينة، في مجالات الحياة، وهو ما قد تقوم به جبهات أو إمارت، أو ماشئت. وفي رأينا أن توصيف "الإمارة" أقوى من توصيف "الدولة"، إذ توصيف الدولة أمرٌ لا دلالة عليه في الشرع، بل هو تاريخي وضعي، أمّا الإمارة، فهي مما ثبت شرعاً في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحابته وتابعيهم. ومن تمسك بتعبير الدولة إنما وقع في شرك تسمية محدثة، وتعريف وضعيّ، بنكهة إسلامية! وإلا فيجب أن يتحدد معنى "الدولة" المقصودة هنا، وما تشبيهها بدولة المدينة إلا إسقاط لتسميات مؤرخين مُحدثين على وضع الجماعة المسلمة في المدينة وقت النبوة. ولم يكن معروفا أيامها "دولة" مكة في مقابل "دولة" المدينة. وما هذا التمسك إلا أثر من الآثار الخفية لسايكس بيكو[2]، التي تعطي تعبير "الدولة" احتراماً وحقوقاً أكثر من الإمارة أو الولاية أو الخلافة".

      الشاهد أنّ تنظيم "الدولة" هنا، قد ألزم نفسه، وعامل غيره، بمفهوم غير واضح ولا مستقر. فإن عنى بإطلاق لفظ "الدولة" ما يقصد به القانونيون في العصر الحديث، فلابد لها من عاصمة، وحدود مستقرة، لا تتغير كل فترة حسب ما تفقد من أرضٍ، أو تستولي عليها. وأظن أن "الدولة" لا تقصده، من حيث إنه اتباع لمفهوم سايكس بيكو في تقسيم أرض الله! وقد كانت الدولة الكندية عرضة للإنقسام عام 1996، من قبل الجزء الفرنسي فيها، وكانت تستعد لتغيير كلّ ما هو متعلق بكيانها إن حدث الانشقاق، إذ تغير الحدود يملى تغيرات كثيرة تتبعه، في منطق الدول الحديثة. وإن لم تكن تقصد هذا المصطلح بمعناه الوضعيّ، فلماذا تحارب دونه، وتوالى وتعادى دونه، بل وتغرس في عقول أتباعها وأنصارها كلّ هذا التحيز والتعصب للمصطلح، حتى إنهم يفاصلون عليه. ثم إن "المدينة المنورة" لم تكن دولة، ولم يُطلق عليها أحدٌ اسم الدولة إلا المؤرخين المحدثين في القرن الماضي. ولذلك قال د أيمن الظواهري "ليس هناك شيء الآن في العراق اسمه القاعدة، ولكن تنظيم قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين اندمج بفضل الله مع غيره من الجماعات الجهادية في دولة العراق الإسلامية حفظها الله، وهي إمارة شرعية تقوم على منهج شرعي صحيح وتأسست بالشورى وحازت على بيعة أغلب المجاهدين والقبائل في العراق". فكما قلنا في مقالنا السابق، إن توصيفها الحقيقي في العراق هو "الإمارة"، وهي بإذن الله مشروع دولة، إن التزمت بالسنن.

      بل إن حركة حماس، التي تتحكم في قطاع غزة منذ سنين، لا تعتبر دولة على وجه الحقيقة.

      إذن، فنحن نرى أن "الدولة الإسلامية في العراق والشام" ليست إلا إمارة شرعية، تقوم على تنظيم جهادي على الأرض، وإن اختار لنفسه أن يسمي كيانه "الدولة". ونرى أنّ هذا كان مقنعاً في وقتٍ ما بالعراق، من حيث أنّ هناك دولة المالكيّ الرافضية، ودولة الأكراد ذات الحكم الذاتي، فلم لا يكون هناك "دولة" للسنة، إغاظة للعدو، واستعدادا لما هو آت؟[3]" اهـ

      ولنتحدث هنا بشكل أكثر تفصيلاً في هذا الأمر، وسأطرق هذا الموضوع بشكلٍ أحسبه جديدن يناسب ما نحن فيه. فنقرر أنّ هناك وجهان أساسيان في موضوع إقامة الدولة.

      1. الدولة الإسلامية شكلاً وتنظيما:. وهذه الوجه يتعلق أساسا بثلاثة نقاط بارزة:

      التمكين: والتمكين ركن من أركان إقامة الدولة، لا شرط من شروط إقامتها. والفارق هنا أنّ الركن يقع من داخل العمل، أمّا الشرط فيقع من خارجها. وهذه من النقاط التي خفيت على مؤسسي ما أطلقوا عليه "الدل الإسلامية"، إذ عدوا التمكين شرطاً، والشروط من أوصافها أنها قد تكون شروط صحة أو شروط كمال، كما يمكن أن يؤجّل الشرط لسبب من الأسباب، أو يصح العمل دونه في بعض الصور. أمّا الركن فلا. فلا دولة دون تمكين، قولٌ واحد. كما لا صلاة دون تكبير، ولا حج دون وقوف بعرفة. والتمكين كلمة ليس لها حدّ محدود بمعنى أنه يصف كلّ ما يقع في حيزها، وما يخرج عنه.

      والتمكين له شقان:

      المُمَكَّن فيه: وهو الممالك والأراضي التي يقع عليها التمكين، ولا معنى لتمكين إلا بها، وإلا كان التمكين كعدمه، وهماً لا أكثر. وقد أكثر الناس في الحديث عن هذا الأمر، لكن نتفرد هنا بما يستحق النظر خاصة ما نرى أنه فات على أكثرهم. وهو أنّ ما كتبه القدماء من حدود وتعريفات للتمكين، تعتمد كلها على أنّ هناك مُمَكَّن فيه ابتداءً. ومن ثم، تحدثوا عن الأئمة إن عدموا، أو تنازعوا أو شبه ذلك. وما ذلك إلا لأنهم انطلقوا في تنظيرهم من واقع وجود "أمة" وخلافة وعسكر وجيوش، ثم انعدم الإمام، كما في غياث الأمم، أو انحرف أو خرج عليه خارج، كما في الماوردي وغيره. ومن ثم، ناقشوا شرائط الإمام، والتمكين في ظلّ أرض موجودة ودول قائمة بعناصرها، يمكن أن يُمَكَّن فيها.

      وادرس هذا الذي كتبه الجوينيّ في "غياث الأمم"، لتعرف مصداق ما ذهبنا اليه. قال في معرض حديثه عن التسليم لإمامٍ ولو من غير عقد بيعة "..أن قصر العاقدون وأخروا تقديم إمام، وطالت الفترة وتمادت العسرة وانتشرت اطراف المملكة وظهرت دواعي الخلل .."[4]. ومثل هذا منتشرٌ في أنحاء الكتاب، يبني عليه أحكام نصب الإمام إنْ غاب لكن دون غيبة المُتَمَكَّن فيه، وهو الأرض والناس، وباختصار "الأمة". ومن ثم، فإننا نحسب أنّ كثرة من كتب في هذا الأمر، اعتماداً على كتب المتقدمين، لم ينتبه لهذا الفرق العظيم بين الحالين، حال وجود المُتَمَكن فيه (الأمة، الأرض..) فيه دون المُتَمَكِن (الإمام)، بينما نحن نتحدث في انعدام وجود الاثنين المُتَمَكن فيه (الأمة، الأرض..) فيه والمُتَمَكِن (الإمام). بينما تتحدث طائفة الحرورية عن إيجاد المُتَمَكِن (الإمام)، قبل إيجاد المُتَمَكن فيه (الأمة، الأرض..)[5]! وهذا قلبٌ للحقائق وقصور فهم لما تدل عليه كتب السلف، ونقص في الوعي بما عليه الماضي، والحاضر، ومن ما يكون عليه المستقبل.

      ولقائل أن يقول: كيف هذا، والأمر اليوم هو على ما تصف، ويصف القدماء، وهاهي أراضي المسلمين منتشرة، وممالكهم متسعة، ودواعي الخلل فيها ظاهرة، أفليس هذا ما يصفه الجوينيّ؟ قلنا، لا والله بل هو فرق دقيق لا يفطن له إلا القليل. ذلك أنّ تلك الممالك محكومة ابتداءً بمن هم متمكنين فيها تمكناً أصلياً، لعقود بل قرون، ويحكمون فيها بغير ما أنزل الله، وبقوانين العلمانية. فهي ليست ممالك إسلامية البتة، بل لن يخضع منها أحدٌ لو دعي إلى إمامٍ على ما وصف الجوينيّ. بل إن ما قصد اليه القدماء هو وجود ممالك تقبل بحكم الله أصلاً، وإن مزقتها الخلافات واختلت فيها وسائل الحكم، لكنها لا تزال أرض إسلامٍ، وممالك مسلمة، مُمَكَّن فيها للإسلام، دون إمام. فتنصيب الإمام هو، حين ذاك، واجب الوقت، سواءً ببيعة أو بشوكة أو بغير ذلك لتحقيق المراد من حكم الله للعباد. لكن، هل هذا ما نحن عليه اليوم؟ غن تجاوزنا عن أنّ الأصل في الناس اليوم الإسلام، وهو ما لا تقول به طوائفٌ بدعية، فإن هذا لا يمنع أنّ الممالك لا يد للإسلام فيها، ولا تمكين.

      إذن، فإن السعي اليوم لتنصيب إمام، هو لغوٌ لا ينطبق عليه أيّ من حيث القدماء. بل الواجب هو استلهام المنهج الذي نظر به القدماء في هذه المسائل، مسائل الإمامة والبيعة، ثم توجيه النظر بما يليق بما نحن فيه اليوم من حال.

      وهذه، فيما نرى، هي الإشكالية الكبرى التي نرى كافة من تحدث في هذا الأمر قد وقع في حبائلها، ولم ينتبه لها، فراح ينقل نصوصاً ويحشد أقوالاً، دون التفكر فيما تقع عليه من مناط. وللأسف، فإن هذه الثقافة، ثقافة النقولات والاستشهادات هي التي باتت تسيطر على كتابات أكثر من نرى على الساحة اليوم من طلاب علم أو رويبضاته، إلا شيوخ الدعوة وعلمائها. فترى المقال أو البيان حشداً هائلاً من نصوص ونقولات، يخرج به صاحبه، أو يخرّجه بما لا يدل عليه أصلاً ولا فرعاً، والله المستعان.

      ولعل ما ذكرنا هنا، هو ما أشارت اليه كتابات عدد من علماء الأمة ومشايخ الجهاد، من ضرورة النظر إلى "الأمة" واعتبارها. وهو ما سنكشف عن الاتصال بينه وبين ما عرضنا في الحلقة الثالثة من هذه السلسلة "الأطروحات".

      وهذا التمكين، يحتاج، كما ذكرنا، إلى أرضٍ مُمَكَّن فيها، لا ينازع فيها غير المُمَكَن، وأن تكون هذه الأرض ذات حدود معروفة ثابتة، ليدفع عنها الصائل وتحمى بيضتها وأموالها، كما كان في عهد رسول الله صلى الله عليه سلم، والخلفاء كلهم من بعده. ولا يستلزم ذلك أن لا يُنتقص منها في حينٍ من الأحيان، لكن يبقى مركزها محفوظاً محمياً برياً و بحريا والأفضل جوياً كذلك، لتبقى لها صورة "الدولة" أو "الإمارة" قائمة على الأرض، لا على الورق وفي البيانات.

      والتمكين، ليس فيه حدّ معروف جامع مانع، بل هو أقرب بالتعريف التطبيقي من التعريف المنطقي أو اللفظي أو التعريف بالماهية. كما نقول "ما التفاحة"، فيشار اليها "بهذه". إذ تختلف صوره وحدوده من وضع إلى آخر، فيقال "من المُمَكَّن" فيقال فلاناً. ولهذا علامات وأمارات يجب أن يتحقق أقلها ليمكن أن يطلق اللفظ، كما أنه لا يقال عن بذرة التفاح أنها تفاحة. وهذه العلامات والأمارات، هي ما أشار اليه العلماء في كتبهم من أنه يحصل التمكين لصاحب القوة والمنعة والشوكة، القادر لى حفظ الأمة وحماية الديار والذب عن البيضة ودفع الصائل وقطاع الطرق وزجر اللصوص ومعاقبتهم، وإقامة الحدود الشرعية، وإرهاب العدو، وتحصين الحدود.

      ومن هنا فإنه لا يقال لمن استولى على أرضٍ ما، وسط مملكة لا يزال ينازع العدو المغتصب في كلّ شبرٍ فيها، عسكرياً، أنها مُمَكّن فيها، إلا بالاستعمال اللفظيّ للكلمة، لا الاصطلاحيّ، والأقرب أنها أرضٌ "محررة"، لا مُمَكَّن فيها. ومن هنا جاء قول من قال بجواز عدم إقامة بعض الحدود في تلك المناطق، لعدم التمكين بأقل حدوده مما ذكرنا، بما يصلح أن يقال أن المسلمون "مُمَكَّنون" فيها.

      يتبع إن شاء الله تعالى

      تكملة الإشكاليات: 4   المُمَكَّن له: وهو الإمام

       

      (4) 

      يجب هنا أن نعيد التذكير بأننا آثرنا استخدام مصطلح "التمكين" ومشتقاته، في بحثنا هذا، لعدة أسبابٍ، أولها فكّ الارتباط التلازميّ بين ما نحن فيه اليوم، وبين ما صدرت بشأنه أقوال العلماء القدامى في كتب السياسة الشرعية، لعدم تحقق مناط تلك الأقوال على كثير من المستويات، إلا تشابهاً، فيكون الاستفادة منها على مستوى الأحكام العامة، لا الفتاوى الخاصة. والسبب الثاني، هو البعد عن التوصيفات العامة الكلية، التي يبهر بريقها عقول الخاصة بله العامة، كالأمير والإمام والبيعة. وهي أوصاف شرعية صحيحة يجب استخدامها، لكنّ الموقف اليوم يحتاج إلى تفكيكها، واستعمال مدلولاتها، لا أعيانها، ما أمكن، حيث غابت المدلولات وبرزت الأعيان، تحمل مدلولات أخرى مضللة، للخاصة بله العامة كذلك. ثم سبب ثالث، وهو ربط إقامة الدولة بركنها الذي هو في رأينا "التمكين"، فمن البديهيّ إذا أن نستخدم مشتقاته لنصف مقومات الدولة وعناصر إقامتها.

      ذكرنا من قبل أنّ ركن إقامة "الدولة" هو التمكين، وأن "التمكين ينقسم، حسب ترتيب أولوياته، إلى:

      • مُمَكَّن فيه: وهو الأراضي والممالك التي يعيش فيها مسلمون قابلون للإسلام، أي مُمَكّن فيها للإسلام.
      • مُمَكِّنُون: وهم أهل الحل والعقد، أو الطائفة التي يرضى بحكمها واختيارها المسلمون الذين يعيشون على تلك الأراضي والممالك القابلة للإسلام.
      • المُمَكَّن له: وهو هنا إما أمير الولاية، أو الدولة، إن شئت استخدام المصطلح المحدث، أو الإمام أو الخليفة، صاحب البيعة الكبرى والولاية العظمى.

      واتضح، فيما ذكرنا من قبل، أنّ ما تحدث عنه الفقهاء، من شقّ "التمكين" الأول، وهو "المُمَكَّن فيه" أي الممالك والأراضي التي يمكن أن ينصّب عليها إمامٌ، وأن تقام فيها الحدود، هي ليست أراض متناثرة تصطرع عليها قوى شتى، لعل أضعفها على الأرض هي القوى الإسلامية. بل هي الأراضي التي يتم تحريرها، والتمكن في حدودها، والقدرة على دفع الصائل عنها، وحفظ أمنها واستقرارها، بشكل دائم يوحى باستقرار حقيقيّ، لا استقرار أسابيع حتى يُطرد منها أتباعها!

      والواقع الحاليّ، أو الإشكالية التي يعيشها الجهاد في العصر الحاضر، أنّ هذه الأراضي والممالك، غير موجودة تحققاً، بل هي كما سبق أن ذكرنا، قطع أرض متناثرة، غير مترابطة، لا حفظ لحدودها ولا ثبات لها، مما يقطع الحديث عن "الإمامة العظمي" من باب تحقق وجود المُمَكَّن فيه.

      المُمَكِّنُون: أهل الحل والعقد:

      وهذا الموضع ينقسم إلى قسمين، حسب طرق تمكين الإمام أو الأمير، إما ولاية الغلبة، أو ولاية الاختيار. والأولى بالقوة، والثانية بأهل الحل والعقد، ولكلٍ مجالها وشروطها.

      فأما تمكين القوة، فهو أن يكون للأمير أو الإمام قوة يبسط بها سطوته على الأراضي والممالك التي استوفت الشروط التي ذكرنا، بما لا يدع مجالاً لخارج عليه في تلك الأراضي، أو يكون عرضة بشكل يوميّ مستمر لهجومٍ يمنع من سيطرته وسيادته عليها، وتأمين أهلها، براً وبحراً وجواً. وما من سبيل أن تكون هناك ولاية لأميرٍ، بله إمامٍ، يُلزم النا