فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      قيام دولة الإسلام .. بين الواقع والأوهام – دراسة سياسية تحليلية 10

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد

      قلنا من قبل أنّه قد أدى عدم فهم هذه المعادلة[1] إلى فشل التجربة الإخوانية التي اعتمدت نهج الإصلاح والترقيع وحده منذ عصر الهضيبيّ، وفشل التجارب السلفية الجهادية التي اعتمدت أسلوب الهدم وحده، كحركة الجهاد المصرية، والجماعة الإسلامية. هذا عدا فشل سائر الحركات السلفية الأخرى التي لم تراعي أيّ من الأبعاد التي ذكرنا، بل راحت تحاول البناء لا غير، على قواعد مهترأة، فسقطت وفشلت فشلاً ذريعاً، بل صارت معول هدم في عملية التحول للدولة الإسلامية، بعلمٍ أو بجهل، كسلفية الحويني واسماعيل المقدم وعصبتهما، وهم من الغفلة والتراجع الشديد مما أدى إلى فشلها في توجيه الشباب إلى بناء دولة إسلام، بل ساعدت على قهر العصبية الدينية في نفوس أتباعها وزرع روح الاستسلام والتبعية الذليلة محلها، وأعجب لمن يضع أمثالهما في سلة واحدة مع المجاهدين الصادقين من أمثال الظواهري والمقدسي! ولا أشير إلى عصبة المرتد البرهامي إذ هذا قد خرج عن الملة ابتداءً بموالاته المطلقة للطاغوت، تأييداً وتعاوناً.

      ونبدأ بالقول بأنّ الخلافة على منهاج النبوة قادمة لا محالة، فهو قول الصادق المصدوق. لكنّه اليوم أمر واقعٍ يجب قراءته بدقة وعناية. ولا شك أن هناك إرهاصات وعلامات على وقوع هذا القدر المحتوم، و"ثم" تقع للتراخي فقد يكون بين الحكم الجبريّ ورفعه وإحلال الحكم على منهاج النبوة محله زمن طويل تقع فيه إرهاصات عديدة، صغرى وكبرى. فأن نفترض أننا في زمن إرهاصاته الكبرى، واقتراب موعده، بعض التفاؤل الزائد، وإن كان محتملاً، لكنه، بالنسبة لنا، مرجوحاً في هذا الوقت.

      القوى الجبرية لن تسقط بهذه السرعة. بل، كما سنوضح، ترتبك بتغيير في المعادلة الدولية ككل، لا في شرقنا وحده، لكنها لا تسقط أمام بضع آلاف مهما كانوا. فإنه يجب أن نتذكر أننا لسنا نحارب بوسائل القرن السابع الميلاديّ. لذلك فإني أرى أن ما يحدث اليوم هو من الإرهاصات الصغرى، التي تنبئ بالإحلال عامة، وبصدق الوعد خاصة. لكن هناك خطوات، وإرهاصات يجب أن يعول عليها المجاهدون، بعين مفتوحة على حركة التكتلات العالمية، وبخطة موضوعة محكمة، تبيّن ما هو من الثوابت القطعية التي لا مجال لاجتهاد فيها، وما هو من قبيل الاجتهاد، حسب الواقع والمناط والمصلحة وغيرها. ذلك أنّ العالم اليوم، غير عالم الأمس، بشكل كليّ عام. وتوازناته والتعامل مع متغيراته يحتاج إلى فقه دقيق عميق، لا مجرد قوة عسكرية محمدودة، كما يظن حرورية البغدادي.

      الحركة الجهادية هي الوسيلة الأولى والوحيدة التي ستعيد الإسلام إلى الصدارة. لكن، لا يمكن تجاهل أنّ هناك دول كبرى في العالم، وستظل. فقد ظلت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظلت في عهد الراشدين، وظلت في عهد خلافة الإسلام الكبرى أيام الأمويين والعباسيين، ومن بعدهم كافة ممالك الإسلام. فإن يظن أحدٌ أن المسلمين سيغزون نيويورك، ويأتون برأس أوباما تحت قدميّ البغداديّ أو غيره، هو واهم مسكين، لا يحسن النظر في أمور جيرانه، بله أمته. بل الأمر أمر توازنات يجب أن يعمل المسلمون على خلخلة ثوابتها القائمة اليوم، حتى يتم استبدال قوة محل قوة، واستبدال حكم طواغيت العرب بحكم الشريعة والإسلام.

      الحديث اليوم عن فتح واشنطن ولندن حديثً لا يدل إلا على الجهل بسنن الله في قيام الحضارات وسقوطها، وجهل مطبق بالواقع، وعمى عن السياسة الدولية. فهمّ المسلمين اليوم هو إيجاد محلٍ يمكن أن يتمكنوا فيه، ويستقروا، ويؤسسوا نظاماً إسلامياً خالصاً، دون محاولة التصادم المباشر مع القوى المحيطة، إلا من صال عليها. إن القوة اليوم، لا زال مركز ثقلها يقع في الغرب، بلا شك. وقوة الجماعات الجهادية المختلفة لا يمكن أن يكون ندّاً لهذه القوى إلا بالحاضنة الشعبية التي تمنع تلك القوى الصهيو-صليبية من الإبادة العامة الشاملة، وهي تحوز قوتها ووسائلها.

      المشكلة التي وقع فيها الإخوان المرجئة، أنهم لم يؤسسوا نظاماً إسلامياً خالصاً، بل نظروا إلى قوة العدو الهائلة، غير معتبرينأن لهم أيّ ثقل في توجيه الأحداث. ومشكة الحرورية اليوم أنهم اغتروا بعدة مركبت اكتسبوها، وأراضٍ دخلوها، متناسين أية قوة خارجية بالمرة، وكأنهم يعيشون وحدهم، في فراغ!

      مفتاح الدولة الإسلامية التي تريد أن تنجح في البقاء والاستمرار هو في تحقيق التوازن بين ثقلها الحقيقيّ على الأرض، وبين ثقل القوى الخارجية الهائلة، دون تغليب ثقل أحدهما على الآخر.

      وهو توازن يحتاج إلى ذكاء فائق، وحنكة سياسية وعسكرية، وإدراك لنفسيات الشعوب ومواطن ضعفها وقوتها، وفهم لمقاصد الشريعة وأولوياتها، وزعامة حاسمة في اتخاذ قراراتها دون ظلم أو إجحاف، ثم حسن تقدير للواقع القائم على الأرض.

      الخطوات التي نراها تُهيأ لقيام دولة إسلامية

      في أي بقعة من البقاع التي عاش عليها، ولا يزال يعيش عليها "أمة مسلمة"، هي كما يلي:

      • تكوين جماعات مسلحة مجاهدة، غير مركزية، تتمتع بمرونة كبيرة في الحركة، وتملك التصرف الذاتي في اتخاذ القرارات.
      • أن تتعاون هذه الجماعات بينها بشكل فعّال في تحطيم البنية العسكرية والأمنية للمنطقة التي تعمل فيها، دون أن تتعرض لأي من الأهالي بسوء.
      • أن يقتصر عمل هذه الجماعات على بلاد المسلمين دون استعداء لأيّ من بلاد الغرب بعمليات لا تأثير لها في أيّ شأن من شؤون حياتهم إلا "خربشات" لا تضرهم، بل تنفعهم في رسم سياساتهم المضادة.
      • أن تتخذ هذه الجماعات من الحاضنة الشعبية المسلمة درءاً ووقاية وملجأ، إذ يستحيل أن تنتصر جماعة إلا بهذا التكافل، لحاجتها إلى "أمة" هي المادة الأساسية للدولة أو الولاية. فالمجاهد ليس أمة، والجماعة ليست أمة.

      وإذ قررنا هذه الصورة، فإننا نعود مرة أخرى لنتحدث عن أهل الحل والعقد، والإمارة.

      فمن أحشاء هذا الحاضنة، ومن بين صفوف أهل الجهاد، سيبرز من هم أهل لتمثيل هذه الأمة حين يتم التمكين الصحيح، التغلب على نظامٍ قائمٍ  وإسقاطه بالكامل، كما حدث، ظاهرياً فقط، في أيام حكم الإخوان في مصر. لكن هنا يجب أن يكون التطعير عاماً سريعا حاسما بلا هوادة أو رحمة أو استثناء، لمن ثبتت عمالته وردته، ليس بطريقة الحرورية، ولكن تبعا للشرع الحنيف. ومن ثم، يكون أهل الحل والعقد، جمعٌ معروف الأسماء والهوية، مقبولٌ لدي الحاضنة الشعبية، وقادة الجهاد، على انخلاف تجمعاتهم.

      ثم يجرى، بمعرفة أهل الحل والعقد، اختيار من يرونه الأصلح لقيادة الدولة الناشئة، مع مراعاة حقيقة الصفات المطلوبة في الأمير، دون مجرد مسمياتٍ لا أثر لها إلا محاولة فرضها على الشخصية المقترحة، ما حدث مع البغداديّ في كذبة قرشيته تلك. وهي صفة لا لزوم لها حالياً، إلا بعد أن يكتمل قيام إمارة (دولة) حقيقية، ثم فرض سيطرتها، وبسط سلكانها، بما يجعلها أهلاً أن تعين المسلمين وتدافع عنهم في أماكن هوانهم وظلمهم.، لا أن تسألهم العون أن ينصروها في عقر ما يسمونه دار خلافتهم!

      يتبع إن شاء الله

      الأطروحات - 11: استراتيجية الدولة الوليدة وخاتمة البحث

      د طارق عبد الحليم

      9 يوليو 2014 – 11 رمضان 1435

      [1]  وهي العلاقة بين وضع الإسلام والدولة في واقع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم في عهد الخلافة الإسلامية، وبين وضعها اليوم في بلاد رفضت الإسلام شكلاً وموضوعاً، كنظام حكم، وبقيت ثلة من أهلها عليه عقيدة، لا حيلة لهم، وإن صلحوا كحاضنات شعبية حسب الحال.