فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      قيام دولة الإسلام .. بين الواقع والأوهام – دراسة سياسية تحليلية 4

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد

      يجب هنا أن نعيد التذكير بأننا آثرنا استخدام مصطلح "التمكين" ومشتقاته، في بحثنا هذا، لعدة أسبابٍ، أولها فكّ الارتباط التلازميّ بين ما نحن فيه اليوم، وبين ما صدرت بشأنه أقوال العلماء القدامى في كتب السياسة الشرعية، لعدم تحقق مناط تلك الأقوال على كثير من المستويات، إلا تشابهاً، فيكون الاستفادة منها على مستوى الأحكام العامة، لا الفتاوى الخاصة. والسبب الثاني، هو البعد عن التوصيفات العامة الكلية، التي يبهر بريقها عقول الخاصة بله العامة، كالأمير والإمام والبيعة. وهي أوصاف شرعية صحيحة يجب استخدامها، لكنّ الموقف اليوم يحتاج إلى تفكيكها، واستعمال مدلولاتها، لا أعيانها، ما أمكن، حيث غابت المدلولات وبرزت الأعيان، تحمل مدلولات أخرى مضللة، للخاصة بله العامة كذلك. ثم سبب ثالث، وهو ربط إقامة الدولة بركنها الذي هو في رأينا "التمكين"، فمن البديهيّ إذا أن نستخدم مشتقاته لنصف مقومات الدولة وعناصر إقامتها.

      ذكرنا من قبل أنّ ركن إقامة "الدولة" هو التمكين، وأن "التمكين ينقسم، حسب ترتيب أولوياته، إلى:

      • مُمَكَّن فيه: وهو الأراضي والممالك التي يعيش فيها مسلمون قابلون للإسلام، أي مُمَكّن فيها للإسلام.
      • مُمَكِّنُون: وهم أهل الحل والعقد، أو الطائفة التي يرضى بحكمها واختيارها المسلمون الذين يعيشون على تلك الأراضي والممالك القابلة للإسلام.
      • المُمَكَّن له: وهو هنا إما أمير الولاية، أو الدولة، إن شئت استخدام المصطلح المحدث، أو الإمام أو الخليفة، صاحب البيعة الكبرى والولاية العظمى.

      واتضح، فيما ذكرنا من قبل، أنّ ما تحدث عنه الفقهاء، من شقّ "التمكين" الأول، وهو "المُمَكَّن فيه" أي الممالك والأراضي التي يمكن أن ينصّب عليها إمامٌ، وأن تقام فيها الحدود، هي ليست أراض متناثرة تصطرع عليها قوى شتى، لعل أضعفها على الأرض هي القوى الإسلامية. بل هي الأراضي التي يتم تحريرها، والتمكن في حدودها، والقدرة على دفع الصائل عنها، وحفظ أمنها واستقرارها، بشكل دائم يوحى باستقرار حقيقيّ، لا استقرار أسابيع حتى يُطرد منها أتباعها!

      والواقع الحاليّ، أو الإشكالية التي يعيشها الجهاد في العصر الحاضر، أنّ هذه الأراضي والممالك، غير موجودة تحققاً، بل هي كما سبق أن ذكرنا، قطع أرض متناثرة، غير مترابطة، لا حفظ لحدودها ولا ثبات لها، مما يقطع الحديث عن "الإمامة العظمي" من باب تحقق وجود المُمَكَّن فيه.

      المُمَكِّنُون: أهل الحل والعقد:

      وهذا الموضع ينقسم إلى قسمين، حسب طرق تمكين الإمام أو الأمير، إما ولاية الغلبة، أو ولاية الاختيار. والأولى بالقوة، والثانية بأهل الحل والعقد، ولكلٍ مجالها وشروطها.

      فأما تمكين القوة، فهو أن يكون للأمير أو الإمام قوة يبسط بها سطوته على الأراضي والممالك التي استوفت الشروط التي ذكرنا، بما لا يدع مجالاً لخارج عليه في تلك الأراضي، أو يكون عرضة بشكل يوميّ مستمر لهجومٍ يمنع من سيطرته وسيادته عليها، وتأمين أهلها، براً وبحراً وجواً. وما من سبيل أن تكون هناك ولاية لأميرٍ، بله إمامٍ، يُلزم الناس ببيعته، ويقتل الخارج عليه، وأراضيه تقع تحت القصف الجويّ مثلا من الداخل والخارج، بشكلٍ مستمر! هذا لا تمكين له بأي شكلٍ من الأشكال، بل هو وهم إمارة عامة لا أكثر، يعيش في ظله عامة من المسلمين، غالبهم يعيش ابتداءً في ظل دول ٍ أخرى معادية للإسلام، ويلتزم وجدانيا بما يسميه "دولة".

      إذن، فالقوة المجاهدة هنا، لا يسعها إلا بيعة حرب أو جهاد، لا غير. أما بيعة يلتزم بها الخلق في حياتهم بشكلٍ عامٍ، فهذا خلط في التصورات، وخبلٍ في التهيئات، وصدى "الأنا" المفسدة الي لا تعلم شرعاً من وضع. وسنتعرض لحكم الأراضي المحررة بعد إن شاء الله.

      أما تمكين الاختيار، فيستلزم الحديث عن المُمَكِنون أو أهل الحل والعقد وهم من يسميهم الجويني "العاقدونوهم قسمان، إمّا المُمَكِنون لبيعة خاصة كبيعة الجهاد، لدفع الصائل، وتحرير أراضٍ يصلح أن تنشأ عليها بعض الممالك التي يُقام عليها خلافة أو إمارة. أو المُمَكِنون لبيعة عامة تقوم بها الإمامة العظمي. وبينهما، عموم وخصوص نبيّنه إن شاء الله.

      فأهل الحل والعقد، لهم شروط وردت في كتب السياسة الشرعية، بألفاظ مختلفة. كما قد يناقش الفقهاء أمر العبد والمرأة، وغير ذلك. ومنهم من اشترط القدرة على الإفتاء أو حتى الاجتهاد. لكننا وجدنا الأجمع فيها والأكثر قرباً من الواقع هو ما قرره الجويني بقوله "فالفاضل المطلع على مراتب الإئمة البصير بالإيالات والسياسات، ومن يصلح لها، متصف بما يليق بمنصبه في تخير الإمام"[1]. ويصفهم كذلك بقوله "وهم الأفاضل المستقلون الذين حنكتهم التجارب وهذبتهم المذاهب، وعرفوا الصفات المرعية فيمن يناط به أمر الرعية، فهذا المبلغ كاف في بصائرهم والزائد عليه في حكم ما لا تمس الحاجة اليه"[2]. وتعليقاً على هذا الكلام، فإنا نقف موقفاً وسطاً بين الجويني، ومن اشترط الاجتهاد في أفراد أهل الحل والعقد، ونسير على ما قرره الباقلاني في التمهيد، مما نقله عنه الجويني، من أنه "لا نشترط بلوغ العاقد مبلغ المجتهدين، بل يكفي أن سكون ذا عقل، وكيسٍ وفضل، وتهد في عظائم الأمور، وبصيرة متقدة بمن يصلح للإمامة"[3].

      والنقطة الأخرى هي العدد الذي تنعقد به البيعة. وقد زعم الباقلاني في التمهيد إنها قد تنعقد بواحد! وهذا خطأ إذ يناقض أصل التعريف بأنهم "أهل" وهو ما يوحى بالتعدد، وإن لم يلزم عدد معين لذلك. وهو عين ما قال الجويني "مما يؤكد ذلك إتفاق العلماء قاطبة على أن رجلاً من أهل الحل والعقد لو استخلى بمن يصلح للإمامة، وعقد له البيعة، لم تثبت الإمامة"[4].

      ولكن، الأمر هنا، والذي تطابقت عليه الأمة، مهما كان العدد، هو أن "ينقاد" بقية الناس لاختيارهم. وفي هذا يقول الجوينيّ "ولكن لمّا بايع عمر تتابعت الأيدي، واصطفقت الأكف واتسقت الطاعة، وانقادت الجماعة، فالوجه عندي في ذلك أن نعتبر في البيعة حصول مبلغ من الأتباع والأنصار والأشياع  يحصل بهم شوكة ظاهرة ومنعة قاهرة. بحيث لو فرض ثوران خلافٍ، لما غلب على الظن أن يصطلم أتباع الإمام، فإذا تأكدت البيعة، وتأطدت بالشوكة والعدد، واعتضدت وتأيدت بالمنة، واستظهرت باسباب الاستيلاء والاستعلاء، فإذ ذاك تثبت الإمامة وتستقر، وتتأكد الولاية وتستمر، ولمّا بايع عمر مالت النفوس، إلى المطابقة والموافقة. ولم يبد أحدا شراسا وشماسا،، وتظافروا على بذل الطاعة حسب الاستطاعة"[5].

      المحصلة هنا تتلخص في التالي كما نراها:

      • أن أهل الحل والعقد، الذين يعقدون أو يُمَكِّنون لإمام، يجب أن يكونوا على تلك الصفات المذكورة، وأن يكونوا لذلك من المعلومين لجميع الأمة، بحيث يصح أن يوالوهم على اختيارهم، لا أن يكونوا مجاهيل، غير معروفين إلا لأصحاب محلتهم. وبهذا يمكن التأكد من صحة الشروط التي ذكرنا فيهم. وإلا فبيعة مجموعة ممن هم معروفون لأهل محلة خاصة لا تصلح إلا لبيعة مخصوصة كبيعة الجهاد مثلا، لا تتعدى إلى غير ذلك ولا يلزم منها أكثر من ذلك في رقاب المسلمين.
      • أن العاقدين المُمَكِّنين، مسموعو الكلمة من الناس عامة، حتى تتحقق بهم، وبأتباعهم الذين يلتزمون برأيهم واختيارهم، الشوكة والمنعة الظاهرة. وإلا فإن لم يتحقق هذا، فهؤلاء لا فائدة منهم، ولا يحصل بهم شوكة ولا منعة. كما لو اختلف عليهم الناس خارج محلتهم، فصار عقدهم غير مُلزم لأحد.
      • أن البيعة العامة، يُشترط فيها المتابعة والموافقة، وإلا لم تثبت. كما يشترط فيها حصول الشوكة و"لو فرض ثوران خلافٍ، لما غلب على الظن أن يصطلم أتباع الإمام، فإذا تأكدت البيعة، وتأطدت بالشوكة والعدد، واعتضدت وتأيدت بالمنة، واستظهرت باسباب الاستيلاء والاستعلاء".

      وهذه الشروط في غاية الواقعية ومراعاة المصالح، ودرأ مفاسد التعارض والاختلاف، ومن ثم التشاحن والتقاتل. فإن البيعة لابد فيها من أن يكون أهل الحل والعقد، في سائر الأمصار، على معرفة بمن أعطى القياد للإمام أولاً، وأن يكون هناك رضا مُتوقع منهم لثبوت البيعة. وإلا فإن من أعطى القياد أولاً، فقد أهليته في إجراء العقد، إذ هذا الرضا هو شرطٌ في صحة العقد، وهو شرك صحة، إذ بغيره لا تثبت البيعة التي هي محل العقد، كما تَحصّل من الكلام.

      الاشكالية الحالية، بالنسبة للتصرفات التي اعتمدها الفكر الحروري البغدادي، المتمثل في تنظيم الدولة، أنهم خلطوا خلطا شديداً بين هذه الأمور كلها. فهم قد أثبتوا "بيعة"، لإقامة "دولة"، قالوا إنها ليست بيعة لإمامة عظمى، بناءً على عقد أثبته لهم عدد ممن قالوا إنهم "أهل حل وعقد"، والله أعلم بحالهم على الحقيقة، من أهل محلة في العراق، ثم انتقلوا بها إلى الشام، وألزموا بها أهله، رغم عدم موافقة أهل الحل والعقد في الشام، بل وفي غيرها، عليهم! ومن ثم، كانت النتيجة التي حذر منها الجويني رحمه الله، من أن ذلك لا ينشأ عنه إلا بيعة باطلة مبنية على عقد باطلٍ غير ملزم، لا شرعاً ولا حقيقة على الأرض، كما هو واضح، ثم حرب وقتال، وقتل وانشقاق.

      وقل لي بالله عليك، مَنْ مِنَ أهل الحل والعقد، المسموعي الكلمة في بلادهم، من أصحاب الأتباع والأشياع، يؤيد أو يتابع على عقد هؤلاء الجمع المجاهيل في محلة بالعراق، على بيعة إمام؟ بل قد عارضها أكابر من هم من مسموعي الكلمة بالفعل من علماء أهل السنة كما هو معروف. ودع عنك إشكالية أنّ البغدادي نفسه شق عصا الطاعة على أمرائه ابتداءً، فبطلت بيعته  وكلّ بيعة أخذها بعد ذلك، إذ ما بُني على باطل فهو باطل.

      ثم، إن هؤلاء قد زعموا أن بيعة أميرهم ليست بيعة عامة لإمامة، لكنهم راحوا يقاتلون غيرهم عليها، ويرونهم بغاة، بل مرتدين لما قرروا أنهم يرتكبون ما يرونه أنه من المكفرات لديهم! فجمعوا بين البغي في طلب البيعة لمن لم تثبت له بيعة، والتكفير والحرورية بقتل المسلمين على شبهات وفتاوى قدّروها ثم عملوا بها. ناهيك عن ذلك التنظيم الوهمي الذي أطلقوا عليه "دولة" دون أي مقوم من مقاماتها.

      تكملة الإشكاليات:5

      د طارق عبد الحليم

      7 شعبان 1435 – 5 يونيو 2014


      [1]  غياث الأمم 82

      [2]  غياث الأمم 82

      [3]  وهو ما يفهم من كلام الباقلاني في التمهيد في باب الحديث في الإمامة، ولم نجده نصا عنه.

      [4]  الغياثي ص87

      [5]  السابق 87