فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      الجهاد الشامي ومسارات الفتنة - 5

      الاستنساخ و« بعض مما يقال»

      ليس لمن رقع لمجرمي العراق ودافع عن سياساتهم وغطى على تصريحاتهم التي طالب الهاشمي في إحداها ببقاء القوات الأمريكية 50 عاما في العراق، وتباهى بأنه أول من أسس الصحوات .. أن يكون لهم الحق في إبداء الرأي فيما يحدث في سوريا أو إدانة هذا الطرف وتبرئة ذاك ممن أسلم العراق للشيعة في الوقت الذي كان فيه المشروع الجهادي بأوجه من العطاء .. ليس لهؤلاء ولا لأمثالهم، ممن يتباكون اليوم على حال الجهاد في الشام، الحق في النقد أو ادعاء الحق أو الدفاع عن مظاليم الشام، خاصة وأن غالبيتهم من رؤوس الفتنة الذين سبق لهم وأعلنوا حربهم القذرة على الجهاد والمجاهدين، وحرضوا قوى الأرض ضدهم، واتهموهم بكل نقيصة .. هؤلاء هم نافخو الكير، ذوو المعرّفات التي تديرها فرق عمل .. شهادتهم قاصرة ومدمرة، ونصرتهم انتهازية، وسياستهم لها أولوية، حتى إذا ما انتهت مهمتهم انقضوا على فريسة أخرى قادمة.

          حقيقة لن تمنعنا من النقد وملاحظة الأخطاء بين الحين والحين، ولو بالحد الأدنى، كي لا يستغلها الخصوم والأعداء في ذروة الهجمة الفاضحة. فلئن كان المشروع الجهادي في العراق يتقدم إلا أنه في سوريا آخذ في الانزلاق. لكنه أشد خطرا مما حصل في العراق وأبعد أثرا. وبعيدا عن دعوى الخصوم والأعداء فإن جزء من الخطورة الفادحة تتحملها سياسات « الدولة الإسلامية في العراق والشام» واختياراتها. فلنعاين بعضا من المشكلات البارزة وما بدا استنساخا للتجربة العراقية في الشام.

       

      (1) الأيديولوجيا

       

           الفرق بين نظرة الناس لـ « الدولة» ونظرتها لـ « النصرة» هو ذات الفرق بين هذه وتلك. فـ « النصرة» أرادت أن تلحق بالأمة فوجدتها، في حين أرادت « الدولة» من الأمة أن تلحق بها فانفضت عنها. فرق يحيلنا إلى ملاحظة انزلاق التيار الجهادي برمته نحو الأيديولوجيا. فـ « القاعدة» انتشرت كالنار في الهشيم في العالم الإسلامي وبين المسلمين في أصقاع الأرض كونها قدمت نفسها أطروحة عقدية وليس أطروحة تنظيمية أو أيديولوجية. أي أن مرجعيتها في العمل هي الشريعة وحدها بعيدا عن أية أطر أيديولوجية. ولو كانت أطروحة أيديولوجية لما اختلفت مخرجاتها عن مخرجات أية جماعة إسلامية قبلها. هذا الانزلاق أول ما وقع في جزائر التسعينات، لكنه الآن يضرب منطقة الساحل مجددا وكذا الصومال والعراق وسوريا. ولأن الأيديولوجيا لا تنمو وتترعرع إلا في بيئة صراعية فمن الطبيعي أن تكون مخرجاتها دموية إذا ما وجدت سبيلا لها في صلب التيارات المسلحة، بخلاف الجماعات الإسلامية المدنية التوجه التي تتخذ من البيانات السياسية سبيلا للتراشق وتصفية الحسابات. هذا الانزلاق يتجلى الآن في استنساخ التجربة العراقية.

       

         وبحسب البعض فإن المشكلة في العراق بدأت منذ اللحظة التي أعلن فيها أبو عمر البغدادي « دولة العراق الإسلامية». ثم تصاعدت في خطاب البغدادي حين وصف « المستنكفين» عن البيعة بـ « العصاة»، رغم تراجعه عنها فيما بعد. مبدئيا لا يمكن الاعتماد على نوايا الزرقاوي بإعلان الإمارة في غضون ثلاثة أشهر. فالرجل قضى نحبه، ولا يصح الركون إلى النوايا، إذ لا أحد يعلم الغيب فيما إذا كانت « الدولة» ستعلَن أو يتأخر إعلانها أو تُلغى الفكرة برمتها. لذا يبدو غريبا أن يتحدث أبو بكر البغدادي عن أن تمدد « الدولة» باتجاه الشام هو « مطلب شرعي»!!! فالذي نعرفه يقينا أن إعلان « الدولة» في العراق سبقته أربع تاريخيات مهدت له بالكامل، وكل تاريخية منها كانت تحمل وقائع مهولة أفزعت قوى الأرض برمتها. ولم تتنكر أية تاريخية لارتباطها العضوي بتنظيم « القاعدة»، ولم يسبق أن تنكرت الدولة ذاتها لـ « القاعدة»، بل أن « الدولة» ما كانت لتنولد إلا من رحمها، وما كان لها أن تنوجد لولاها. فما الذي حدث في الشام حتى يمكن اعتبار تمدد « الدولة» بمثابة التاريخية الخامسة والخارجة عن « القاعدة»؟ وما الذي حدث حتى تتنكر « الدولة» لـ « القاعدة»، وتعلن هذه الأخيرة قطع علاقتها بـ « الدولة»؟ هل هي الحاجة الشرعية!؟

         إذا كانت جبهة « النصرة» بالنسبة للبغدادي هي الابنة الشرعية لـ « دولة العراق الإسلامية» فهي بنظر عامة المسلمين، في مشارق الأرض ومغاربها، ابنة الشام وابنة الثورة وابنة المجاهدين وابنة المسلمين حتى قبل أن تضطر لتعلن أنها ابنة « القاعدة»، أو يعلن البغدادي أنها ابنة « الدولة». فما شأن الناس إنْ كانت « النصرة» ابنة هذا التنظيم أو ذاك طالما أن المقاصد بها تتحقق والنصرة من حولها تتوسع؟ إذ أن الجهاد هو بالأساس أطروحة عقدية في الصميم وذروة سنام الإسلام وليس أطروحة تنظيمية ضيقة الحال والمآل. وبالتالي فإذا كانت ردود الفعل التنظيمية على الساحة الشامية تحديدا قد صبت، نسبيا، في صالح « الدولة» فإن الغالبية الساحقة من ردود فعل الأمة والعلماء والمشايخ والدعاة والمجاهدين والمفكرين وإجمالي النخب الإسلامية والجهادية وحتى رموز التيار الجهادي العالمي وقادته كانت على النقيض من ذلك!!! فأي مصلحة شرعية تحققت للأمة أو للجهاد من هكذا إعلان؟

            لا ريب أن تمدد « الدولة» إلى الشام استند إلى الأيديولوجيا وليس إلى الشريعة. إذ لم يأخذ بعين الاعتبار أية مسوغات شرعية بدءً من الشورى وانتهاء بالسياسة الشرعية. بل أن مبدأ الشورى تم تجاهله بالكامل سواء على مستوى « جبهة النصرة»، أو القيادة العامة لتنظيم « القاعدة»، أو الجماعات الجهادية في سوريا، أو أهل الحل والعقد في العراق والشام، أو على مستوى العلماء والمفكرين والخبراء والمتابعين وحتى الأنصار. وبالإجمال لم يكن أحد شريكا لـ « الدولة» في إعلانها ولا في تمددها، وبالتالي، ومهما كانت وجاهة الإعلان الأول في العراق، إلا أنه لا يمكن وصفها بمشروع أمة بعيدا عن أية اعتبارات أخرى.

         ولعل أسوأ ما في الإعلان أنه جاء محملا بمشكلات بينية، فضلا عن إسقاطه تعسفيا بطريقة أوقعت الجميع في إرباك لم يتوقعه أحد أو ينتظره. فقد تفاجأ الجميع في الخطوة وكأن أحدا ليس معنيا بالجهاد إلا « الدولة» وقيادتها، وهو ما عبر عنه المخالفون والخصوم وحتى المناصرين بعبارة « بخس التضحيات» أو « احتكار الجهاد» أو الوصاية» غير الشرعية أو المبررة. بل أن الإعلان لم يظهر أن له علاقة البتة بـ « تطبيق الشريعة» أو محاربة « سايكس – بيكو» أو نكث البيعة» وما إلى ذلك من التبريرات الأيديولوجية. وهذا أول خطأ في الساحة العراقية جرى استنساخه بحذافيره ونقله إلى الشام.

       

      (2) السلطة

       

          هذا هو الخطأ الثاني بامتياز. فقد استفاقت القوى الجهادية والمقاتلة والناس الذين دفعوا ثمنا باهظا في تحرير ثلثي الشام على قوة تقدم نفسها، دون أية مبررات موضوعية أو شرعية، على أنها دولة ونظام يمارس سلطة على الجميع وليس تنظيما يمكن له أن يمارس شكلا ما من السلطة في حدود سيطرته. بل أن « الدولة» لم تأبه لأية ردود فعل من القوى الجهادية والثورية، وأعلنت، بلسان البغدادي، أنها ستتجاهل « كل ما سيقال»، الأمر الذي مهد منذ اللحظة الأولى لحالة من الاحتقان والغضب الناجم عن كل احتكاك أمني أو عسكري أو قضائي أو اجتماعي.

          المشكلة الأعوص في هذا الخطأ أنه أوقع « الدولة» بحرج بالغ، جرت ترجمته من قبل الخصوم وحتى من العامة والخاصة بعبارة أن « الدولة تحرر المحرر ولا تقاتل النصيرية». وهذه التهمة شكلت مدخلا لوصمها بالعمالة مع النظام أو الاختراق أو على الأقل تتقاطع مع سياسات المجوس والنصيرية على السواء. وفي الحقيقة لا هذه ولا تلك. إذ أن أغلب مقاتلي « الدولة» وكوادرها كانوا في « النصرة». وهم الذين سبق لهم وخاضوا معارك طاحنة على كل الجبهات، ودفعوا من دمائهم ثمن تحريرها، ولا يبرر انضمامهم لـ « الدولة»، حين الانقسام، إسقاط تضحياتهم وجهادهم، ولا ينبغي أيضا أن يتحملوا وزر مسؤولية سياسات « الدولة». وكل ما في الأمر أن « الدولة» تصرفت بموجب ما تعتقد أنه مسؤوليتها. وبالتالي فمن الطبيعي أن توزع عديدها على الجبهات من جهة وعلى المجتمع من جهة أخرى. وبطبيعة الحال من المستحيل أن توفق في ساحة قتال أصلا بين الجبهتين، ولأنها محدودة العدد فإن أي انتشار لعديدها، سواء أكان مدنيا أو أمنيا أو قضائيا، سيعني بالضرورة خصما من انتشارها العسكري وقتالها للنظام.  

         لسنا ندري إذا كانت « الدولة» قد أجرت حساباتها على هذا النحو أو مثله أو بعضا منه أم أن الغلبة كانت للأيديولوجيا على حساب المصلحة الشرعية والواقع. فمن الواضح أنها لا تمتلك القدرات ولا الإمكانيات التي تؤهلها لممارسة سلطة على أي مستوى. ولا هي قادرة على القيام بواجباتها أو تقديم خدماتها أو حتى القيام بالجهاد بما يلزم إلى جانب القوى الأخرى.

      (3) إمارات ومسؤوليات

           لا شك أن تعدد إعلان الإمارات الإسلامية بدأ منذ اللحظة التي سيطرت فيها حركة « طالبان» على أفغانستان بعد فشل المجاهدين في الحكم ودخولهم في اقتتال طاحن على السلطة. ولا شك أن إمارة أفغانستان كانت الأولى التي تعلن في العالم الإسلامي في ظل « الحكم الجبري». ولا شك أيضا أن الإعلان كان مفاجأة وتحديا غير مسبوق. لكنها، علاوة على التشويه الذي طالها، فقد ووجهت بعزلة إسلامية شاركت فيها الدول وكافة نخب الأمة من العلماء والمشايخ والمثقفين والإعلاميين والمهندسين والتجار والاقتصاديين والخبراء والمتخصصين والرأسماليين، حتى أن أحدا لم يتوجه إليها أو يمد لها يد العون من أية جهة كانت.

          يحدث هذا لأن أفغانستان في ظل حكم « طالبان» (1) خرجت عن النظام الدولي، و (2) غيرت هوية « الدولة القومية» حين طبقت الشريعة، و (3) غيرت نمط الحياة القائم منذ عقود، و (5) قدمت نموذجا يمكن أن يحتذى في مناطق أخرى. ولئن كانت هجمات 11 سبتمبر 2001 سببا مباشرا في غزوها وتدميرها فالثابت أن هذه الإمارة ما كان لها أن تستمر في ظل الهيمنة الدولية ونمط الحياة السائد، وما كان أيضا ليأسف على زوالها أحد إلا من رحم الله.

         وفي أعقاب احتلال العراق في 10/4/2003 تصاعدت وتيرة الإعلان عن الإمارات الإسلامية بالإعلان عن ميلاد « دولة العراق الإسلامية في 15/10/2006». ثم تبعها إعلان القوى الجهادية في الشيشان عن إمارة القوقاز الإسلامية في 31/10/2007»، وفي 28/3/2011 أعلنت « القاعدة في جزيرة العرب» إقامة « إمارة أبين» في اليمن، وبعد سقوط إقليم أزواد في مالي بيد القوى الجهادية أعلنت حركة « أنصار الدين» عن « دولة أزواد الإسلامية» في 26/5/2012.

          وغني عن البيان القول أنه ثمة نقلة نوعية في الفكر الجهادي العقدي الذي بدا أنه يستند في إعلاناته هذه على (1) مسألة التمكين، و (2) استثمار العمل الجهادي لقطع الطريق على القوى اللبرالية والعلمانية من الاستحواذ على نتائج العمل الجهادي أو ما يسميه العالم الجهادي بـ « قطف الثمار». لكن « التمكين» و « منع سقوط الثمرة» هي مسائل اجتهادية أثبتت خطأً في القراءة والتقييم كمبررات كافية لإعلان الإمارات. ففي أحسن الأحوال بقيت الإمارة منبوذة سياسيا ومعزولة وفي حالة دفاع عن النفس، محليا ودوليا، إلى أن زالت في مواضع وقاربت أخرى في أغلب الأحايين على الانقراض، ووقعت أخرى في نزاعات دائمة. فما جدوى الإعلان عن إمارة أو دولة تطبق الشريعة بينما هي في حالة كرّ وفرّ مزمن، ثم لا تلبث أن تزول في بضعة شهور!؟

         غالبا ما يحتج البعض من المناصرين بأطروحة « التمكين» و « تطبيق الشريعة» لتبرير « إعلان الدولة» وشرعيتها، وإذا ما ضعفت « الدولة» وعجزت، بين ليلة وضحاها عن « تطبيق الشريعة»، أو انزوت تحت الأرض أو تلاشت؛ تراهم يستشهدون بكون احتلال إمارة أفغانستان لا يعني زوالها بدليل بقاء الإمارة وأميرها الملا محمد عمر، فضلا عن استمرار فعالياتها وصدور بياناتها باسم الإمارة، وكأن « إعلان الدولة» هو الغاية فعلا أكثر منه إقامة الدين. لكن أحدا لم يعد يتحدث، من قريب أو من بعيد، عن « إمارة أبين» وزوالها مثلا، ولا عن « دولة أزواد» في الساحل الأفريقي، ولا عن مصير « تطبيق الشريعة» فيهما. فما الذي يجعل « التمكين لدى « الدولة الإسلامية في العراق والشام» استثناء!؟

         أما مقارنة حال « الدولة» وظروفها وأعداءها بحال دولة المدينة المنورة من حيث « التمكين» فهو خطأ فادح. إذ أن دولة المدينة، إنْ صح التعبير، وُجدت في « مرحلة النبوة»، وبدعوة من أهلها، بخلاف « دولة العراق والشام» التي لم تحظ بأية دعوة من أحد، فضلا عن أنها أُعلنت في « مرحلة الجبر»، حيث لا وحي ولا نبوة ولا خلافة ولا ملك رحيم أو غير رحيم، وشتان بين دولة مؤيدة من الوحي وأخرى تمددت رغم « كل ما سيقال»، دون مشاورة أحد إلا من « نثق بدينهم وحكمتهم»، علاوة على ما يحيط بها من أعداء أو يداخلها من خصوم من كل جانب.

         كان من الممكن أن تكون أنجح لو بقيت الإمارات ملتزمة بالبرنامج اليتيم للتيار الجهادي العالمي الذي عبر عنه أبو بكر ناجي في كتابه الشهير « إدارة التوحش». ففي حالة جهاد الدفع تبدو المسألة هنا إدارية لمنطقة توحش لم ترْق بعد إلى مستوى الحاجة إلى إمارة أو دولة. فالإدارة توجب على القوة المتغلبة النظر في المشكلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والإغاثية والقضائية الناجمة عن حالة الحرب وفراغ السلطة، لكنها لا تلزمها، والعدو يحيط بها من كل جانب، في ممارسة سلطة ليس هو أوانها أو القدرة عليها ولا هي دعيت إليها. 

          أي تنظيم بإمكانه، إذا رغب، أن يتحمل وزر إدارة مناطق التوحش. وكان بإمكان « الدولة»، ولما تزل، أن تستمر كدولة دون أن ينقص ذلك من تطلعاتها وطموحاتها، إنْ لم يزد من قبولها، لو أنها تصرفت كتنظيم واضطلعت بمهمة الإدارة، بقدر المستطاع، دون أن تضطر للدخول في مشكلات السلطة مع القوى الأخرى وحتى مع المجتمع. لكن أن تتصرف كدولة، مع عدم القدرة، فمن الطبيعي تتعرض لمساءلات مشروعة من الجميع، وعلى كل المستويات. ولأن أية دولة، حتى دولة الخلافة، لا بد وأن تخضع للمساءلة الشرعية والقضائية وإلا تحول الأمر إلى ما يشبه سلطة الكهنوت التي تعتقد أنها الوصية على الدين والعباد من فوق سبع سموات.

           لا ريب أن « الدولة» تحملت أكثر من غيرها وزر الأمن، خاصة في حلب وإدلب والجزيرة، حين شرعت في ملاحقة كتائب اللصوص والمجرمين والقتلة والمنحرفين الذين استغلوا فراغ السلطة وعاثوا في الأرض فسادا، فهذا لا ينبغي أن ينكره أحد.

          لكن ما هي سلطة « الدولة» مثلا في مسائل الأحوال المدنية كالزواج والطلاق والميراث والعقود ووثائق السفر، إذا كانت كلها، من ألفها إلى يائها، تصدر عن حكومة النظام في العراق والشام؟ وما هي سلطة « الدولة» في مسائل التعليم والصحة والتجارة والاقتصاد؟ وما هي سلطة « الدولة» في نظام العملة الشائع دوليا ومحليا؟ وما هي سلطة « الدولة» في تأمين احتياجات المهجرين والنازحين والمعتقلين والضحايا والمختطفين والمغتصبين والمغتصبات؟ وما هي سلطة « الدولة» في تأمين الحقوق والأرزاق ورد المظالم؟ وما هي سلطة « الدولة» في تشغيل المرافق الحساسة وقطاع الخدمات؟ وما هي سلطة « الدولة» في النزاعات العسكرية والأمنية بين القوى المقاتلة، وكذا النزاعات الاجتماعية والمشكلات الموروثة، ناهيك عن تلك الناشئة عن حالات الحرب؟ وما هي سلطة « الدولة» في مواجهة النظام الدولي والنظام الطائفي الذي يمارس التدمير والقتل اليومي؟ وما هي قدرة « الدولة» في توفير الأمن والحماية وحفظ الأرواح والممتلكات؟ وما هي قدرات « الدولة» على القيام بالغزو؛ باعتباره الشرط الحاسم في « التمكين»؟

      (4) الوَجَسْ

       

            هو الخطأ الثالث الذي جرى استنساخه وبإصرار عجيب!!! فـ « الجهاد العقدي» هو جهاد بالغ التكلفة. ولمن يعجب من التعبير عليه أن يعلم جيدا أن سقف الجهاد العقدي هو شعار « الدم الدم .. الهدم الهدم». أي إعلان الحرب على منظومة النظام الدولي ومؤسساته وتشريعاته وأدواته وأنماط حياته على كل مستوى سياسي واقتصادي وعلمي وتجاري وثقافي وقيمي وإنساني وحتى حضاري واستبداله بنمط حضاري إسلامي يقوم على « تطبيق الشريعة» ولا شيء غير الشريعة. لذا فإن الالتحاق بصفوف « الجهاد العقدي» مكلف لكل من يفكر به. ولا يعني هذا بالضرورة، كما يحلو للبعض أن يتذاكى، أن « الجهاد الوطني» وجهاد الدفع هو جهاد في سبيل الطاغوت!!! إلا من اختار أن يجاهد تحت رايات أيديولوجية كالقومية والماركسية واللبرالية والعلمانية. وتبعا لذلك فـ « الجهاد الوطني» هو « جهاد عقدي»، إلا أن التجارب المريرة على مدار العقود الماضية أثبتت أنه قابل للاحتواء والاستدراج طالما بقيت وقائعه محكومة بسقف الحدود الوطنية للدولة القائمة حاليا أو النظام الدولي. فإذا قيل أن الأمة ليست مضطرة أن تحارب العالم كي يصبح جهادها عقديا فمن الأولى أن يقال أيضا بأن أي « تطبيق للشريعة»، جزئيا أو كليا، سيجعله يرتقي إلى مصاف « الجهاد العقدي» سواء قبل بهذا أو رفض. فالأرض التي تُحكم بالشريعة ستكون قطعا « دولة توحيد» لها أن تعترف بالجغرافيا، بل أن مسؤوليتها ينبغي أن تصل شرعا إلى حيث يصل « التوحيد» وليس إلى حيث تنتهي الحدود، ودون ذلك هو التلبيس بعينه.

         ولعل أشد ما يميز « الجهاد العقدي»، في الواقع ،أنه  جهاد باتجاه من النوع الذي يتعرض دعاته والفاعلون فيه إلى المطاردة والتصفية في شتى أنحاء العالم. إذ يكفي أن تكون عضوا في « القاعدة» أو إحدى أدواتها أو في جماعة عقدية أو نصيرا في بعض البلدان، حتى تجد نفسك موضع اتهام أو اعتقال أو مراقبة أو قتل. ومن الطبيعي أن يتوقع حَمَلة هذا الاعتقاد من الجماعات الجهادية الحروب والمكائد والتحالفات الدولية وحملات التشويه والتحريض التي لا تتوقف أبدا. ومن الطبيعي أكثر من ذلك أن يصاب أعضاء وقيادات مثل هذه الجماعات بـ « الوَجَس» من أية مساومات أو استدراجات يمكن أن تتعرض لها أو تقع بها القوى الأخرى. فهم أول من سيتحسسون رقابهم، وأول من سيستعرضون شريط حياتهم، خاصة أنه ما من سبيل أمامهم إلا القتال أو القتل أو الاعتقال أو الاضطرار إلى التخفي والعيش مطاردين بقية أعمارهم.

         هذا « الوَجَس» لازَم « الدولة» وقياداتها وأفرادها، مستذكرين ما حلَّ بهم في قلعة جانجي في أفغانستان أو في العراق، حين تحولوا إلى كبش فداء، بعد كل ما قدموه من تضحيات جبارة وهم يواجهون عشرات الدول والمليشيات الشيعية ومئات الآلاف من المرتزقة ومن أسماهم « سفر الحقيقة» بـ « خونة السنة». ولا ريب أن إعلان البغدادي تمدد « الدولة» إلى الشام يمكن تفسيره نسبيا بمحاولة الفرار من حالة « الوَجَس» في العراق. لكن بدلا من التحرر من الحالة تم نقلها بحذافيرها.

           وبعيدا عن جماعات اللصوص أو « هيأة الأركان»؛ فقد بدت الجماعات الجهادية في الشام وأنصارها، بنظر « الدولة»، نسخة مطابقة عن الحالة العراقية، رغم اختلاف التكوين التاريخي للمجتمعين فضلا عن التباين الشديد في مكونات الشخصية العراقية ذات المنشأ العربي الصحراويّ العقل بالمقارنة مع نظيرتها الشامية التي استقبلت ألطاف العرب في بيئة نضرة جغرافيا وثرية اجتماعيا. ومع ذلك فقد ظهرت مقاربات صريحة بين الساحتين على شاكلة: « النصرة = أنصار الإسلام» .. « أحرار الشام = الجيش الإسلامي» .. « لواء التوحيد = جيش المجاهدين» ... وفي المحصلة سيبدو هؤلاء وأمثالهم، في لحظة ما، مشاريع « صحوات» و « خونة» و « مرتدين» وربما « كفارا»!!!

      (5) الجيش الحر

       

            كنا قد فككنا مسألة « الجيش الحر» في أكثر من موضع من سلسلة « الثورة السورية ومسارات التدويل» لاسيما مقالة «عذراء الجهاد». ورصدنا منذ البداية تعبيرات لم تتوقف حتى مع مطلع السنة الرابعة للثورة السورية من نوع « الجيش الكر» و « الجيش الخر» و « الجيش الكفري»!!! ولا ريب أنها تعبيرات بغيضة، وتنم عن رعونة وجهل مدقع في تكوُّن الثورة السورية وتركيبتها.

         فالثورات الشعبية المسلحة عادة ما تنطلق من نواة صغيرة منظمة وذات أيديولوجيا معينة تعلن معارضتها لنظام استبدادي أو استعماري، ثم ما تلبث تتوسع في بناء قواعدها التنظيمية العسكرية والأمنية والإعلامية والجماهيرية ... إلى أن تصبح لها القابلية والقدرة على إعلان حرب تحرير مسلحة مدعومة من الشعب. لكن في الحالة السورية فالثورة جاءت بالمقلوب. فالشعب الثائر على نظام استبدادي أُجبر على حمل السلاح. وبهذه الطريقة اضطرت كل مجموعة نشطة في المدينة أو القرية أو الحي أو السهل أو الجبل أو الشارع أو الحارة أن تحمل السلاح دفاعا عن نفسها. ولم يكن في ذلك ثمة جماعات مسلحة نشطة أو قادرة على استيعاب الحالة المجتمعية في أوج ثائرتها، ولما أسس العقيد رياض الأسعد « الجيش الحر» في 29/7/2011 لم يكن هذا التأسيس ليتجاوز في شهوره الأولى الصيغة النظامية التي اقتصرت على الجنود والضباط المنشقين. لكن، في غياب القوى الإسلامية، لم يجد الناس من راية يقاتلون باسمها إلا « الجيش الحر» الذي تحول من « راية نظامية» إلى « راية شعبية»، ثم إلى رايات إسلامية وحتى عقدية، وليست شخصية العقيد الأسعد عن الثوار والمجاهدين ببعيدة عن التأمل!

         وفي حسابات مقارنة فقد ضمت الثورة الليبية وفق إحصائية رسمية نحو 1700 مجموعة مسلحة من بينها 250 مجموعة في مصراتة وحدها ذات المليون نسمة، وإذا أخذنا بمعيار النسبة والتناسب السكاني فإن سوريا تشكل أربعة أضعاف ليبيا سكانيا، مما يعني أننا قد نقع في بدايات الثورة السورية على نحو 5000 – 7000 مجموعة مسلحة تقاتل في غالبيتها الساحقة تحت راية « الجيش الحر»، وأن مئات المجموعات قد نجدها في مدينة واحدة. وفي إحصائية أمريكية فقد وصل عدد المجموعات المسلحة في سوريا مؤخرا أكثر من 1200 مجموعة. وهو رقم معقول بالنظر إلى حالات الاندماج والاختفاء التي حصلت فيما بين المجموعات.

         بطبيعة الحال فإن الغالبية الساحقة من الجماعات الناشطة التي خاضت القتال تحت « الجيش الحر» كراية شعبية صارت تحمل رايات جهادية، واتخذت من أسماء الصحابة والرموز الإسلامية والوقائع التاريخية والغزوات مسميات لها. ولا يعيب الغالبية الساحقة منها جهلها في الدين في ظل التجهيل الهائل الذي مارسه النظام، ولا ظهور عشرات أو ربما مئات العصابات المسلحة من اللصوص والمجرمين الذين تسلقوا على الثورة واستعملوا الدين والتاريخ والحضارة سلما للتجارة بالدم أو للحصول على الدعم من الممولين الذين اندفع غالبيتهم الساحقة نحو الثورة السورية وهم مجردين من الوعي في الساحة ومن أية خبرة سياسية أو عسكرية أو أمنية أو سابقة مما تسبب بإلحاق أضرار بالغة في الثورة.

           أما الجنود والضباط الذين انشقوا عن النظام فقد تعرضوا، من جهتهم، لأقسى لحظات التمايز في حياتهم حين كان يطلب منهم النظام قتل الناس بحجة أنهم عصابات مسلحة؛ فبأي منطق شرعي أو أخلاقي أو موضوعي يصح وصف « الجيش الحر» كـ « راية شعبية» بـ « الجيش الكر» و « الخر» و « المرتد»!!!!!؟ وما علاقة الرايات الشعبية التي يعبر عنها عامة الناس بالرايات الأيديولوجية؟ الصحيح أنه ما من منطق ولا من علاقة إلا الغرور والرعونة والتنفير بدلا من ترشيد الناس والأخذ بيدهم.

      (6) البنية التنظيمية

               

            الأرجح أن تنظيم « القاعدة» يكاد يكون التنظيم الوحيد في العالم الإسلامي الذي طبق نموذج التنظيم العنقودي. وهذا النوع ذو صبغة أمنية صرفة يعتمد على خلايا سرية لا ترتبط فيما بينها بأية علاقة تنظيمية تذكر. وتدار بواسطة ضباط ارتباط لا يعرفون بعضهم لكنهم مرتبطون بمن هم أعلى منهم. وهذا يعني أن للخلايا صلاحيات التصرف كقيادة في أغلب الأحايين. وقد يكون هذا النوع من التنظيم مجديا في مرحلة ما لكنه سيتحول إلى كوارث في مراحل لاحقة إذا استمر العمل بنفس النسق خاصة في ظروف الثورات الشعبية.

         أما في ظروف الجماعات العقدية فالعمل وفق التنظيم العنقودي في بيئة شعبية متوترة يعني أن الخلية أو القاطع أو المجموعة سيكون لديها كل الحق في « الاجتهاد» وتقدير الموقف واتخاذ ما تراه مناسبا من قرارات أو إجراءات وما يلزم من « فتاوى طارئة» دون الرجوع إلى القيادة أو تبيُّن الموقف الشرعي. وتبعا لذلك سيغدو الفرد، بمكانة الأمير تماما من حيث الصلاحيات والتصرف، هو القائد والداعية والعالم والمفتي والخصم والحكم. وسيشتد الأمر سوء كلما ضاق الوقت اللازم لتقدير الموقف واتخاذ القرار أو قلَّ العدد الكافي لتوزيع المسؤوليات.

        هكذا قتل مثلا أبو عبيدة البنشي ومحمد فارس من حركة « أحرار الشام»، وهكذا اعتقل الكثير بمجرد الشبهة بكونه من « الجيش الحر»!! 

      (7) الحداثة

       

          قد تبدو معطىً غريبا لكنها إحدى أبرز المشكلات التي تعاني منها « الدولة». فالشائع أن الغالبية الساحقة من المهاجرين الذين التحقوا بالشام انحازوا إلى « الدولة» بعد خطاب البغدادي، سواء الذين قدموا من الجزيرة العربية أو بلاد المغرب أو من بلاد القوقاز. فما هي قصة هؤلاء الذين نُسِبَت إليهم اتهامات بالغلو والتشدد وحتى التكفير؟

         المعروف أن بلاد القوقاز وقعت تحت الحكم السوفياتي نحو 70 عاما متواصلة لم يذق فيها مسلمو القوقاز طعم الإسلام إلا بأردا ما حملته الصيغة الصوفية التي جردت الإسلام من أية شرائع تذكر لدرجة أن يفتي أحد مشايخ الصوفية بان الصلاة تسقط عن القرية إذا صلاها واحدا في المسجد!! ولعل مجاهدي القوقاز محقون حين يقولون بأنهم لم يعرفوا الإسلام حقيقة إلا حين التقوا بالمجاهدين العرب في أفغانستان وخاصة في الشيشان بعد انهيار الاتحاد السوفياتي سنة 1992.

         أما الليبيين فلم يجدوا من سبيل للرد على دين القذافي المسمى بـ « الكتاب الأخضر» إلا الفرار إلى الله وتعليم أبنائهم فقد القرآن الكريم قراءة وحفظا ردا على حرب القذافي على الدين. في حين نجح بورقيبة ومن ورائه الفرنسيين في تحويل مقالات الطاهر الحداد الذي كفره العلماء أثناء الاستعمار وحكموا عليه بالإعدام إلى قوانين في مجلة الأحوال الشخصية التونسية، ومن بعده سار زين العابدين بن علي على نهجه، بل كان أشد عدوانية وحربا على الإسلام والمسلمين من سلفه. وظلت القيادات التونسية تعمل على انتزاع « القوامة» من الرجل إلى أن صار استثمار العائلة التونسية في المرأة أكثر جدوى من الرجل من جهة فرص العمل. ولم يكن عجيبا أن تصل نسبة الحداثة في تونس إلى ما يزيد عن 80% مقابل 23% في مصر!!! وكذا الأمر في المغرب.

         وفي أواخر القرن العشرين (1999) كان مجلس النواب التونسي يناقش قانون يعتبر الزواج بموجبه شراكة بين طرفين متساويي الحقوق والواجبات فيما يبدو ضربة في الصميم لأحكام الميراث في الإسلام، وهو ما حصل. بل أن النظام جعل من فرص المرأة التونسية في التقاضي والعمل والدراسة والتحرر أكثر من فرص الرجل وحقوقه. بل أن الحداثة ونظمها الدستورية والقانونية ما اجتهدت في أمر أو شيء كما اجتهدت في تجريد الرجل التونسي من حق « القوامة». وهو ما أشعر التونسي بالمهانة وانعدام الحيلة في مواجهة الهجمة الشرسة على الإسلام والمسلمين وشريعتهم. 

         انتظر التوانسة من الثورة أن تعيد لهم بعض ما انتزع منهم دون جدوى. فقد نزل الشيخ راشد الغنوشي إلى تونس بعد الثورة قادما من لندن ليجيب على سؤال عن تونس المستقبل، فكانت المفاجأ أن قال: « لن نتنازل عن الحداثة ولا عن اقتصاد السوق»!! لم يكن هذا ما انتظره الشباب التونسي دون الإناث. بل زاد على ذلك حين سئل عن مجلة الأحوال الشخصية فقال: « هي اجتهاد إسلامي»!!! مع أنها لا علاقة لها بالإسلام ولا بالاجتهاد بدليل محتواها فضلا عمن وضعها أصلا. وكانت لفتة مثيرة تلك التي أوردها الزميل عمار عبيدي في دراسة له حول « نشأة السلفية في تونس» عن مفاخر الرئيس التونسي الأسبق، الحبيب بورقيبة، ففي تصريح له أدلى به لصحيفة « لوموند - 21 /3/ 1976» الفرنسية، أبدى اعتزازه بثلاثة انجازات هي الأكثر فخرا في حياته، حين قال: « أعتز بثلاث قضايا؛ أغلقت جامع الزيتونة، وحررت المرأة، وأصدرت قانون الأحوال الشخصية الذي يقطع علاقة الأسرة بالتشريع الإسلامي»!

       

         لذا لم يكن من المفارقات أن يوصف التوانسة والليبيون بأنهم الأكثر تشددا في « الدولة». فحين التحق هؤلاء في الشام اختاروا جبهة « النصرة»، كما فعل الكثير من القوقازيين، باعتبارها جماعة عقدية تلبي شغفهم بالانتصار لذواتهم عبر سلطان الشريعة. لكن الجبهة كبحت جماحهم، ولما التحقوا بـ « الدولة» وجدوا ضالتهم!!! فصاروا تبعا لذلك يضربون بسيف الشريعة كل ما بدا لهم مظهرا من مظاهر الحداثة.

         وللإنصاف فليس كل هؤلاء متشددون أو مسؤولون عن التشدد. لذا ثمة من ينصف « الدولة» في هذه الجهة، وثمة من يصب جام غضبه عليها في جهة ثانية. ولعل هذا يرجع إلى تباين الوعي والثقافة والفهم فيما بين المجموعات. فقد توجد مجموعة في منطقة ما أو على حاجز تتمتع بقدر من الوعي والفهم مما ينعكس إيجابا في علاقتهم مع الناس والجماعات الجهادية في حين تجد مجموعة أخرى على النقيض من ذلك.

         يبدو أن أبو عياض التونسي، « أمير أنصار الشريعة بتونس»، لاحظ المشكلة وما تسببه من خطر فادح فاضطر للتدخل عبر بيان صوتي صدر غداة اندلاع القتال في 14/1/2014 بعنوان: « بيان نصرة وتأييد لإخواننا المجاهدين في الشام». وافتتح البيان واختتمه بفقرة، ذات دلالة، تقول: « أذكّر كلّ من سيطّلع على هذا البيان أنّني أعتبر كلّا من الدولة الإسلاميّة في العراق والشام وجبهة النصرة والفصائل المجاهدة إخوة لي يلزمني ما يلزم كلّ مسلم تجاههم من موالاة ونصرة وتأييد ومناصحة وسعي بينهم بالصلح عند الخلاف». وفي متن البيان بدا الخطاب حصريا حين توجه إلى قيادة « أنصار الشريعة» ومركز ثقلها في تونس بالقول:

      « أخصّ إخواني أسود القيروان في بلاد الشام، والمرء مولع بأهله ووطنه، أخصّهم بهذه الكلمة:
      إخواني وأحبّتي المجاهدين من أرض القيروان؛ ... اثبتوا على العهد الذي عاهدتم عليه ربّكم من نصرة دينه وإعلاء كلمته، حافظوا على أعراض المسلمات، وسطّروا بجهادكم أمجاد أمّتنا، وإنّي لأرجو منكم إخواني وأحبّتي أن تسطّروا تاريخًا تذكركم به الأجيال وذلك بأن يكون لكم شأن في الصلح بين الإخوة ورصّ صفوف المجاهدين والكفّ عن إثارة ما يوغر الصدور».

       (8) التمثيل والتشهير

       

           اشتهر أبو مصعب الزرقاوي في أوساط التيار الجهادي بـ « الذباح» نظرا لكثرة قطعه لرؤوس العملاء والأعداء حين يظفر بهم. وكان يعمد إلى نشر عمليات القتل هذه في إصدارات مرئية. ولا شك أنها قدمت نموذجا قاسيا ومرعبا في معاقبة هؤلاء للأعداء والخصوم وللعامة من الناس إلا أنها كانت من الجانب الآخر تستهدف الردع. ثم قارب هذا النموذج على التلاشي إلى أن صرنا نعاين عمليات إعدام معلنة تقتصر على طلقة في الرأس، وعبر إصدارات رسمية، ضد جنود من الرافضة، صدرت بحقهم أحكام شرعية من قبل دولة العراق الإسلامية.

         عاد نموذج قطع الرؤوس من جديد ليظهر في الشام مضافا إليه التمثيل بالجثث وعبر اجتهادات فردية وإعلامية قصد منها التشهير وليس الردع. فضلا عن أنها نفذت ضد مسلمين ومجاهدين. ودون أن يكون ثمة تفسيرات رسمية من أي نوع لهذا السلوك الوحشي. هذا ما حدث مثلا بحق محمد فارس وجمال الريان، وآخرين علقت رؤوسهم على أسنة بوابات الحديد، أو جرى تصفيفها كأسنان المشط كما فعل أحد المجرمين ممن ينتسبون لـ « الدولة»، وبشماتة عز نظيرها، وكأنها بضاعة في سوق يصلح للفرجة!

         من المؤكد أن القتل المتبادل في ساحات القتال يحدث بين القوى، خطأ أو عمدا. وقد لا نتوقف هنا عند الحق الذي من المفترض أن تفصل فيه المحاكم الشرعية، لكن، وبقطع النظر عن مبررات القتل وما يتطلبه من إثبات القصاص أو نقضه، فإن التوقف يصبح لازما حين التساؤل عن ماهية المنهج الذي تفرز مخرجاته الشرعية وتبرر استخدام نموذج وحشي ما من مصلحة شرعية تذكر في اعتماده إلا التشهير والحقد والانتقام الذي لا يردع أحدا بقدر ما يوغر الصدور، ولا يقيم دينا أو دولة بقدر ما يهدمها، ولا يرشد أمة بقدر ما ينفرها.   

      ملخص بعض المشكلات

       

         ليس ذكر بعض المشكلات التي تواجهها الدولة أو الحوادث التي وقعت وأدت إلى مظالم من باب التشهير، ولن يكون أبدا، سواء لـ « الدولة» أو لأية جماعة أخرى. بل هي من باب واقع الحال. لكن إذا كانت مثل هذه المشكلات تمثل انعكاسا لمنهج « الدولة» فقد لا تفيد أبدا في النظر بأية مشكلات طالما أن المنهج يعلوها بحيث ما يبدو مشكلة للبعض سيبدو لـ « الدولة حتما من صميم المنهج. فلنعرض لبعضها على أن نخصص الحلقة القادمة لـ منهج « الدولة» والصراع مع « القاعدة».

      •  مشكلة « الدولة» أنها تريد أن تمارس سلطة في غير مقدرة، وأن يقبل بها الآخرون طوعا أو كرها دون أن تشرك أحدا في « إدارة التوحش» الذي دفع الجميع ثمنه بحيث يمكن تقاسم الأعباء بما يلقى الدعم ويحول دون التصادم؛
      • مشكلة « الدولة» أنها تفتقد لأي نوع من المتخصصين والخبراء الذين تقع عليهم مسؤولية التعامل مع مجتمع معقد بكافة شرائحه ومكوناته؛
      • مشكلة « الدولة»، في المحاكم الشرعية والسجون، أنها لم تعلن عن وقائع محاكمة واحدة، وفي نفس الوقت تختطف وتعتقل وتعذب، حتى كبار المجاهدين، بالعلم والظن والشبهة والمآل، ودون أن تسمح لأي معتقل بالتواصل مع جماعته أو أهله، فضلا عن أنها تتعامل مع المتقاضين أو المتهمين كما لو أنهم خصوم أو مذنبون! فهي الخصم والحكم في آن، فأوغرت سياساتها القضائية الصدور حتى  جلبت على نفسها النقمة والنفور؛
      • مشكلة « الدولة» أنها أمَّنت المدينة والقرية والحي والشارع لكنها لم تُشعر الآخرين بالأمن على أنفسهم فصاروا يتجنبون بطشها أكثر مما هم مقتنعون بأفعالها؛ ويذمونها حقا وباطلا، سرا وعلانية؛
      • مشكلة « الدولة» أنها تتصرف كولي أمر لا مفر ولا بديل من الانصياع لسلطته! وهو ما أوقعها بمشاكل هي بغنى عنها، فصار هاجس الناس البحث عن أفضل السبل لاسترضائها أو التعامل معها، أو اتقاء شرها، وبهذه الصورة أشغلت الجميع عن مقارعة النظام؛
      • مشكلة « الدولة» أنها لا تعترف بأهلية الأمة أو قواها! وهذا يفسر إلى حد كبير موقفها مثلا من المحاكم الشرعية المستقلة وتمسكها بالمحاكم المشتركة.
      • مشكلة « الدولة» أنها لا تثق إلا بما تعتقد، ولا تقبل في الأمة رقيبا عليها أو حسيبا، لا من عالم ولا من ذوي السابقة، ولا تقيم وزنا لحاضنة تعتقد أنها يمكن أن تخذلها في أية لحظة؛
      • مشكلة « الدولة» أنها تعتبر إقامة الدين هو غايتها. لذا فهي تتعامل مع الشريعة (1) كما لو أنها الوصية الوحيدة على تطبيقها، لكنها (2) تطبقها كما لو أنها تعاقب خصوما أو تجاهد أعداء؛ فلا فرق عندها، كبير أو ملحوظ، بين مجتمع مسلم مستهدف بحمله على الشريعة أو عدو يحارب المجتمع والدين!
      • مشكلة « الدولة» أنها نصبت من نفسها المرجعية الوحيدة التي تستأثر بكلمة الفصل حتى في المسائل الإدارية والاقتصادية والإغاثية والأمنية وقتال النظام؛
      • مشكلة « الدولة» أن بعض أمرائها وأفرادها يتسرعون في القتل دون التحقق كما حصل مع محمد فارس؛ فضلا عن أنها لا تفسر صنائع وحشية كقطع الرؤوس وتعليقها على رؤوس الأسنة والتشهير بها، أو التمثيل بالجثث كما حصل مع الطبيب حسين سليمان أبو ريان من حركة أحرار الشام؛
      • مشكلة « الدولة» وفقا لشهادة أبو فراس السوري في تأصيلاتها الشرعية وبعض شرعييها الذين تجاوزوا التكفير بالكبائر والذنوب والمآلات ليصلوا إلى حد « التكفير بالطاعات» كما حصل مع أبي سعد الحضرمي، فضلا عن لجوء البعض إلى رد المخالف أو حتى تكفيره أو الطعن به ورميه بكل الشبهات والنقائص.
      • مشكلة « الدولة» أنها متهمة باستباحة المخالف، فتسفك الدماء عبر السيارات المفخخة ضد من يقاتلها أو من يمتنع عن قتالها، بل أنها متهمة باستباحة الدماء، باستعمال وسائل الغدر والاغتيالات بحق قادة الجهاد، بمن فيهم من عارضوا قتالها؛
      • مشكلة « الدولة» أنها، بحسب شهادة أبي فراس، تفرط بعناصرها وإبداء اللامبالاة بحياتهم، فضلا عن أنها تمارس الخداع عليهم في مهاجمة أهداف للعدو النصيري، ثم يتبين أنها بحق المجاهدين؛
      • مشكلة « الدولة» أنها تعيش وَجَساً جردها من الثقة بالآخرين أو الاعتراف بفضلهم إلا إذا بايعوها حتى لو كانوا من ذوي السوابق وسيئي السمعة؛
      • مشكلة « الدولة» أنها تأبه لمصالحها كـ « دولة أكثر مما تأبه للجهاد أو مصالح الآخرين أو حتى لمقاتليها؛
      • مشكلة « الدولة» مع « القاعدة» نفسها التي تقول: « لا نقبل أن تُمس حرمة مسلم ولا مُجاهد، ولا أن يعتدى على نفسه ولا ماله ولا عرضه ولا كرامته، ولا أن تُلصق به تهم الكُفر والرِدة» .. وفي اعتبارها: « التنظيمات الجهادية في شام الرباط والجهاد، التي تضحي بأنفسها وأموالها جهاداً في سبيل الله، وإعلاءً لكلمة الله، وسعياً في تحكيم شرع الله، هم إخواننا الذين لا نقبل أن يوصفوا بالردة والكفر والمروق».
      • مشكلة « الدولة» أنها تظن نفسها، أكثر من غيرها، « نواة الخلافة»!! وهذا قول أيديولوجي صرف كونه يجعلها مشروعا سياسيا وليس مطلبا شرعيا. وفي أحسن الأحوال هو اجتهاد من ﴿ قَوْلُ ٱلْبَشَرِ﴾، قد يصيب وقد يخطئ؛
      • مشكلة « الدولة» أنها كلما تعرضت لنقد أو لهجمة صارت تتصرف بكربلائية في الحديث عن مظلوميتها حتى شابهت الجماعات الأخرى كـ « الإخوان» في حديثهم عن « المحنة» أو « الشيعة» عن « كربلاء»!!!

      كلام ليس للأعداء والخصوم

         إذا كانت الساحة العراقية قد عانت مثل هذه المشكلات حتى وصل الأمر إلى الاقتتال مع جماعة « أنصار الإسلام»، وهي أقرب الجماعات الجهادية إلى « الدولة»، فكيف يمكن لـ « الدولة» أن تتغافل عن مثل هذه المشكلات، وتترك الساحة تغلي حتى تنفجر ثم تقول: « قد غدرنا»!!!؟ كيف يمكن لـ « الدولة» أن تراقب التحضيرات الدولية والإقليمية لضرب المشروع الجهادي في الشام ولا تراقب سلوكها من الداخل؟ وكيف تتجاهل فرضية أن أخطاء العراق يمكن أن تت