فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      مختصر في الحوار .. أشكاله وآدابه

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد،

      من المعلوم المقرر في شرع الإسلام أنّ الله سبحانه لم يخلق شرا محضا ولا خيرا محضا، إلا الملائكة والشياطين، ورسل الله عليهم صلوات منه ورحمة. أمّا غير ذلك من بشر أو أفعال أو أقوال، فيختل فيها الخير والشر، والصلاح والطلاح، كلّ بحسب قربه وبعده عن منهج الله سبحانه، كما أنوله الله لا كما يراه هو من خلال منطقه وفهمه.

      ومن هذا النظر، نتحدث عن شبكات التواصل الاجتماعيّ، وعمن يتواصل عليها. ففي هذه الشبكات خير وشر، وفيمن عليها صالحون وفاسدون. مثالٌ من خليطٍ مضطرب، تجد فيه ما يسرك تارة، ثم تجد فيه ما يقلقك ويكاد يفسد عليك ثوابتك. هذا مع من حصّل علما يتقي به غوائل هذا التواصل، فكيف بمن لا علم له إلا ما حصله من مثل هذا الشبكات، وما اطّلع عليه في بعض الكتيبات! ولمّأ لم يكن لنا أن نعود بالزمان فنتمنى زوال هذه الشبكات، فإنه ليس أقل من أن نحذر من مخاطرها.

      وميزة هذه الشبكات هي إقامة حوار يتبادل فيه الناس ما يعنّ لهم من خزاطر وآراء. إلا إنها حين تتعلق بدين الله، فإن لهذه الحوارات منهج آخر وحكم آخر، لا يقع تحت مسمى "التواصل الاجتماعي". فمقصود من طوّر هذه الشبكات كان بسيطاً مباشراً، وهو الحديث في شؤون الدراسة أو العاطفة أو الزواج أو المال، أو كلّ ما يختص بالشأن "الاجتماعي" كما يراه الغرب.

      لكن هذا تحول في بيئتنا الاسلامية، التي ترى الدين يمل كلّ ما هو اجتماعيّ، من هذه الدائرة التي وصفنا، إلى دائرة أخرى تشمل أحكام الفقه والنوازل، وتتحدث في الأصول والفروع، وتقارن الفتاوى، وتقيّم الأفراد والأبحاث. عالمٌ لم يخطر ببال جاك دورسي، الذي طور تويتر، أو مارك زكربيرج الذي طور فيسبوك.

      وقد رأيت، منذ أن ابتلاني الله بالمشاركة في تويتر، إذ لم أكن يوماً من أهل الفيس بوك، خاصة ولم أتعود على هذه التكنولوحيا كثيرا، إذ كنت بالجامعة قبل أن يُخترع الحاسبة (calculator)، أقول، رأيت عجباً من العجب، فهو كثيرٌ غثه، قليل دسمه، وإن لم تعدم فيه فائدة. ومما يثير الاستياء هو ذلك النهج السقيم الي يتحاور به المتحاورون، ويداخل به المداخلون. فتجد الكثير منهم هجوميّ عنيفٌ، على جهل مطبق، وانحطاط في درجة الذكاء أصلاً. ثم تجد منهم أذكياء من ذوى الفهم والعقل، ومنهم كثير من الأبناء الأحباب، إن لن نلتقي جسدا، فقد التقينا روحا. 

      وقد ظهر حجم المأساة خاصة في محاورات قضية الجهاد في الشام، فرأيت التعصب للرأي، وضعف الحجة، وعدم تمييز مواضع النزاع، والفحش في الخصومة، والسباب والشتم واللعن والتكفير، وقلة احترام ذوى الهيئات، وتكبير الصغير وتصغير الكبير، وكل داء يمكن أن يصاب به مخلوق بشري فيضرب نفسيته ويفسد عقله ومنطقه. ولا أظن إلا إنه لو جاز أن ينقل تويتر فيروس سي لرأيناه منتشراً بين الناس هناك!

      ولمّا كان هذا هو الحال، وأنّ الحوار هو اللغة التي يستخدمها رواد هذه الشبكات، فقد آليت أن أكتب في آدابه وشرائطه، رغم أني وضعت كثيراً من التغريدات أوجه بها ما أمكنني من التوجيه والارشاد، لكن نحن نتحدث في واد، وغيرنا يغرد في واد!

      وقد رأيت من ليس لديه آلة في العلم يكفّر ويفسّق ويبدّع، متبعاً فتوى من شيخ أخطأ فيها وخرج عن مقصود الشارع، فأفتى بجواز التكفير للعامة، وما أسوأها من فتوى، نذكر هنا طرفاً مما يمكن أن يسقطها جملة، وإن لم يكن هذا موضع نقاشها التفصيل، لكن لمناسبتها لإدارة الحوارات التي نراها.

      يقول الإمام الشاطبيّ، في حق من اجتهد "النظر فى مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا كانت الأفعال موافقة أو مخالفة وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل مشروعا لمصلحة فيه تستجلب أو لمفسدة تدرأ ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به ولكن له مآل على خلاف ذلك فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى المفسدة تساوى المصلحة أو تزيد عليها فيكون هذا مانعا من إطلاق القول بالمشروعية وكذلك إذا أطلق القول فى الثاني بعدم مشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية وهو مجال للمجتهد صعب المورد إلا أنه عذب المذاق محمود الغب جار على مقاصد الشريعة"[1]. وهو ما أشرنا اليه من قبل في ردّنا على الحازميّ ومن جرى مجراه وسعى مسعاه، فإن هذه الفتوى لم يُعتبر فيها أيّ من هذه القاعد العظيمة، بل أخذها مفتيها بمحض الظاهرية والنقل، دون تدرب على فهم مقاصد الشريعة ومراميها، وهو داءٌ عضال عند كثيرٍ ممن يسمونهم علماء "السلفية"، الظاهرية والاعتماد على النقول والإغضاء عن مقاصد الشريعة، لأنه، كما قال الشاطبي "مجال للمجتهد صعب المورد إلا أنه عذب المذاق محمود الغب جار على مقاصد الشريعة". وليس كلّ من قال علم، ولا كل من علم فهم، ولا كل من فهم أفتى، ولا كل من أفتى صحت فتواه.

       ولن أتبع الطريق التقليدي الأكاديمي الذي اتبعه بعض العلماء والباحثين في النظر في هذا الغرض، إذ أشبعه الغير من تلكم النواحي، لكن سأقوم بالركيز على بعض الآداب والشروك التي يجب أن توجد ليكون الحوار حواراً مجدياً مفيداً

      والغرض عادة من أي حوارٍ هو أن يظهر حق كان غائباً عن طرفٍ من الطرفين المتحاورين. وهذان الطرفان، إما أن يكونا مستويان في العلم، أو أن يكون أحدهما أعلم من الآخر.

      وفي حالة تساوى الطرفين، إما أن يكون كلاهما عالم نحرير، فيقع الحوار تحت مسمى "الخلاف". وهذا أمرٌ لا نريد أن يختلط علينا بما نقصد التنبيه عليه، أو أن يكون بين مستويين في "قلة العلم"، وهو "حديث" وتبادل أفكار لا محصلة له في مجال افقه والشرع.

      ثم إذا لم يتساو الطرفان، فكما ألمح اليه الحافظ الذهبي، قال "إنما وضعت المناظرة لكشف الحقِّ، وإفادةِ العالِم الأذكى العلمَ لمن دونه ، وتنبيهِ الأغفلَ الأضعفَ"، والحوار هنا هو شكل من أشكال المناظرة. ومن ثم، فهذا يوجه النظر إلى أن الحوار يقع بين من هم أعلى قدراً ومن هم أقل قدراً في العلم، وذلك لفائدة يحصلها الأقل الأغفل الأضعف، على حسب تعبير الذهبيّ.

      آداب الحوار

      حيث إننا شرطنا في مقدمتنا شكل الحوار المقصود، وهو أن يكون بين "عالمٍ ذكي"، وسائلٍ قليل البضاعة من العلم، أو عديمها، فإن هذا يملى آداباً يجد طالب العلم تفاصيلها في كتب الأصول، خاصة في باب الاجتهاد والتقليد، كما في الموافقات للشاطبيّ، الجزء الرابع، وكتاب الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي.

      ومن هذه الآداب في حالتنا هذه ما يلي:

      1. تقوى الله في السر والعلن، وإرادة الخير، وطلب العلم للعمل، ومصارعة هوى النفس.
      2. أن يعلم أن العلم الشرعي ّليس مباحاً الحجيث فيه لكلّ من هب ودبّ، بل إن كان الطب أو الكيمياء لا يحل الحديث فيها إلا لكبيب متأهل أو صيدليّ منتدرب، فما بالك بشرع الله تعالى، وفيه من العلوم أكثر مما في الكب، وقد عدّ بن الصلاح في مقدمته لمصلح الحديث ست وخمسون علماً متفرعا عنه، شرحها الحافظ العراقي في التقييد والإيضاح أوفى شرح وأجوده. فافهم يا رعاك الله.
      3. أن يعلم المحاور منزلته من العلم، ويحدد مكانه من المنازل الثلاثة السابقة، فلا يضع نفسه تحت مطرقة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم "الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ" متفق عليه. فإن هذا مرجعه للتقوى. وقد رأينا ما لا يحصى من المجاهيل، ممن لا تعرف له اسماً ولا مكانة، يجادل علماء لو جلس في مجلسهم ما انتبه لوجوده أحد.
      4. أن يعلم المحاور منزلة من يحاوره، من المنازل الثلاثة السابقة الذكر. فإن كان ممن لا علم له، أو كالب شادٍ في العلم، ويحاور عالماً شهدت له أعماله ونظق بها تاريخه، فعليه أن يلتزم بآداب الحوار التي نذكرها بعد
      5. أن يكون حواره على شكل سؤال يستدعى جواباً.
      6. ألا يكون كلامه في شكل تقريرات أو إملاءات، إذ اتفقنا على عدم تمكنه من ذلك إن أراد أن ينتفع.
      7. أن يستمع إلى كلّ ما يقول محاوره قبل أن يبدأ سؤالا جديداً، سماعا أو قراءة استيعاب، ليتحدث عن بينة، ولا يعتمد على نقول فلان عن علان في أقوال العلماء، خاصة الأحياء منهم.
      8. ألا يوغر صدر من يحاور من العلماء عليه، خاصة في حالة إن حاور من هو أعلى وأعلم، ليمنع أن يقكعه العالم فيمتنع عن الاستفادة. يقول الشاطبيّ " ترك الاعتراض على الكبراء محمود كان المعترض فيه مما يفهم أولا يفهم"[2]، وقد أتي بادلة على ما قرر، فليراجعها طالب العلم أو الساعي له. لكن الشاهد هنا قوله "والثالث، ما عهد بالتجربة من أن الاعتراض على الكبراء قاض بامتناع الفائدة مبعد بين الشيخ والتلميذ". ونحن لا نجارى ما ورد في حق الصوفية، لكن الشاهد معتبر عند كلّ طائفة، وليس أدل على ذلك من فعل مالك رحمه الله، مع من جادل واستنطع، فأمر بسحبه من قدمه وإخراجه من المسجد.
      9. أن يتعظ بفعل الصحابة رضى الله عنهم إذ أقلوا السؤال والتزموا السماع، فما سالوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة عشر سؤالاً، وفي الصحيح عن أنس " نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شئ فكان يعجبنا أن يجئ الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع".
      10. أن لا يكون مفحشاً في الخصومة، سيئ الأدب مع من يسأل أو من هم حوله في خاصة في حضرة من يسأل، ففيها قلة احترام للعالم.
      11. أن لا يتحرى صعاب المسائل والجدليات الأرأيتيات، فليس فيها علم ينفع.
      12. أن يتجنب التسلسلات المنطقية المخالفة لمقصد الشرع، فكلها طرق عقلية لا يلجأ اليها إلا من قل أو انعدم علمه الشرعيّ واتبع نفسه هواها، واتخذ عقله دليله، فخاب وخسر وكان ممن قال الله تعالى فيهم "ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا"الكهف 104.
      13. أن يتحرى الدليل، دون إخلال بما سبق مما ذكرنا. والدليل هنا يكون بالنسبة للعاميّ لاطمئنان النفس، لا للجدل به، إذ ليس عنده آلة لفحص الدليل إلا عقله، وكفى بذلك مهلكاً.
      14. أن يحاور أقرانه بأدب ولياقة ولا يستخدم أسلوب الاستفزاز والمكابرة، وإن كان المحاور خصماً له.
      15. أن يقيل ذوى الهيئات عثراتهم، كما نص عليه العلماء، وفإن لكل جواد كبوة  ولكل عالم هفوة ، أي إنه لو رأي خطأ من عالمٍ جليلٍ، فلا يسارع بالتشنيع عليهن فكل بن آدم خطّاء، بل يلفت نظره اليه، ويسأله عنه، لعله يصلحه بنفسه، فهذا من التأدب وحسن الخلق.

      هذا ما أتى على ذهنى هذه الساعة في هذا الموضع، وما كنت أقصد إلى الكتابة فيه إلا بعد أن وقعت اليوم واقعات ألجأتني إلى أن أسجل بعض هذه الخواطر، أقيد أوابدها قبل أن تذهب مع أحداث يوم آت.

      د طارق عبد الحليم

      23 جمادى الأولى 1435 – 24 مارس 2014

      وصلني خبر رحيل أخي الحبيب الشيخ مجدى عبد العزيز لتوى بعد نهاية التدوين، فآثرت نشر رثائي فيه، قبل هذه المقالة، وأنشرها صباحا إن شاء الله وكتب لي العمر.


      [1]  الموافقات للشاطبيّ ج4 ص194

      [2]  الموافقات ج4 ص321 وبعدها