فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      فلذات الأكباد .. نعمة ونقمة!

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم

      جاءني هذا الصباح نبأ وفاة ابنة صديق حبيب، ذات أربعة وعشرين ربيعاً، فجأة دون مقدمات، في غضون ساعة واحدة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

      عرفت الرجل عن طريق أخي منذ عشرات السنين. عرفته رجلاً صاحب دين وخلقٍ وشهامة، يندر مثله بين رجال هذا الزمن. عرفته رجلاً حييّا أميناً، لا تفوته صلاة، ولا يؤخر زكاة، بل هو معطاء كالسيل، لمن عرف ولمن لا يعرف، وأشهد الله علي ذلك.

      ولا أشك الآن أن الرجل ذاهلٌ عن الدنيا، مرتَعدٌ، متجمد المفاصل، عاجزٌ عن التفكير، أو حتى الإحساس بالصدمة أو استيعابها. صبّره الله على مصيبته في ابنته، فإن الأصل أن يدفن الولد والده، لا العكس. لكن مشيئة الله تأبى إلا أن تختبر الناس، في شتى الأشكال، وسبحان من بيده الأمر.

      ترى هل يعرف المحيطين بهذا الرجل اليوم ما يمرّ به من ألمٍ، وما يعتريه من حزنٍ يشق الصدر، ويكاد ينزع القلب من موضعه؟ لا والله، فإنه لا يشعر بالألم إلا صاحبه. أما غيره ممن حوله، فقد يفهمونه وقد يدركونه ويقدرونه، لكنهم لن يشعروا به، على وجه الإطلاق واليقين.

      أقول ذلك، والألم يستدعى ذكرى الألم، فتعود بي الذاكرة سبع سنوات نصف السنة. سبع سنواتٍ ونصف، منذ أن تلقيت خبر القبض على ابني الأكبر. ذقت خلالها الأمرّين. أراه أمام عيني مكبلاً بالأغلال، مرتدياً الزيّ البرتقاليّ الذي يلبسه المجرمون، يجلس في قفص الإتهام. يقضى خمسة عشر شهراً في حبس انفراديّ في زنزانة لا تزيد عن مترين في ثلاثة، يقضي بها ثلاثة وعشرين ساعة ونصف، يخرج منها نصف ساعة يوميا ليمشى وحده في ساحة ثم يعود.

      يوم بعد يوم، وشهر بعد شهر، وسنة بعد سنة، أقضى الساعات والأيام أدارس المحامين القضية، وأعود اليه بما هو من قبيل الوهم الآمل، أن قد يكون هناك فرجٌ قريب! لكن الله منفِذّ قدَرَه، ولا رادّ له ، ولا اعتراض، فقد حُكم عليه بالسجن مدى الحياة. نعم، مدى الحياة.

      لا أنسى لحظة سمعت القاضى ينطق بالحكم. انسحبت منى كل دلائل الحياة، ولم يبق منى إلا هيكل إنسان. مشيت بعدها مستنداً على يد زوجى، أتفادى الكاميرات وأجهزة الإعلام. ربّاه، هل مرَرت بهذه اللحظات؟ نعم والله، لكن لن يعرف معناها إلا من مرّ بمثلها. والحمد لله على ما قَدّر.

      انسابت أمامي البقية من حياة ابنى الأكبر، ليعيشها بين جدران الزنازين، وهو لم يُسِل دماً ولم يقتل نفساً، ولم يهدم حجراً، إلا ظناً وافتراء ونكاية.

      عرفت ساعتها أنني، إلا أن تحدث معجزة في غير عصر المعجزات، لن أرى ابني حراً قبل مماتي، ولن يكون بجانبي حين وفاتي. والله لطيفٌ بعباده.

      ولا زلت، بعد تسعين شهراً، منذ الثاني من يونيو 2006، أحيا هذه الصورة كلّ يوم، لا يفوت يوم إلا أتجرع ألم الحقيقة التي باتت تُظِل حياتي، كأنها سرادق مَيتٍ لا يريد أن ينفضّ.

      لا والله لا أشتكى إلا إلى الله، لكن الشئ بالشئ يُذكر، وما دفعنى اليوم أن أشرك القارئ في هذه الخلجات الحزينة إلا معرفتي أن هناك الكثير ممن مرّوا بمثلها، بل بأشد منها، ممن قُتلت فلذات أكبادهم في رابعة والنهضة، وفي غير رابعة والنهضة، وهم صابرون محتسبون، فما أشجعهم وما أقواهم. وما أخسّ وأكفر ممن استخفّ بمصيبتهم، بل وفوّض المُجرمين في ارتكابها.

      بلاءات تمر بالناس، تَعجُم إيمانهم، وتختَبر صَبرهم. لكنها حين تمسّ فلذات الكبد، تكون الأشد إيلاماً، والأعظم ابتلاءً، لا يعرفها إلا من ذاقها. وحسبنا الله ونعم الوكيل.