فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      إقامَة الحُجّة على المُخَالِف.. والتفلّت الشَرعَيّ

      سُبحان الله العظيم، الدائم الذي لا يحُول ولا يمُوت! فقد تناولت موضوع هذا المَقال، بتوسّع وتفْصيل، منذ أكثر من ثَلاثين عَامَاً مَضَت، في ثنايا كِتاب "الجَوابِ المُفيد في حُكم جَاهل التَوحيد"، والذي صدر عام 1978 عن مَكتبة المدنيّ، والذي كنتُ قد قرّرت، وإخوةُ أحبّاء لي ممن عاون في البحث والنقول، أن يَصدُر بإسم حَرَكيٍّ لما كانت عليه الحَال في مصر وقتها، ثم طُبع مَرّاتٍ عَديدة بعدها، كان منها طَبعة مكتبة الطَرفين بالسُعودية عام 1991، والتى قدّم لها سَماحة الشَيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله. والمَوضوع هو إبلاغ الحُجة الرِسَالية التي يكفر مُنكرها.

      وتتعلق هذه القضية بأمرين رئيسين، هما مَوضوع الجَهل الذي يُعذر صَاحبه، ثم موضوع إقامة الحُجّة على الجَاهل، وحُدودها ومعنى إبلاغها.

      أمّا موضوع جاهل التوحيد، فهو يتعلّق أساساً بمن لم يَسمَع بمحمدٍ صلى الله عليه وسلّم، وهو من لم تبلُغُه الدَعوة المُحمّدية بالمرة، وأحيل القارئ إلى كِتابي المُشارُ اليه ففيه غِناء وكَفاء إن شَاء الله. لكن حتى يَتمّ لي ما أريد من تَوضِيح في هذا المَقال (الرابط باسفل الصفحة)، أقرّر، بكثير من الإختصار، ما يلي:

      1.       جاهل التوحيد: وفيه أمور نجملها فيما يلى:

      a.        أن العذاب في الدنيا مرتبطٌ بإرسَال الرسل قائمين بالحجة، قال تعالى: " وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًۭا" الإسراء 15

      b.        أن الحجة قد قامت على الناس كافة، قال تعالى: "رُّسُلًۭا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةٌۢ بَعْدَ ٱلرُّسُلِ" النساء 165

      c.        من العلماء من منع من وجود من لم تبلغه الدعوة في الدنيا، بناءاً على آيات القرآن مثل "وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌۭ" فاطر 24، "وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلِّ أُمَّةٍۢ رَّسُولًا" النحل 89، "إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌۭ ۖ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ" الرعد 7،  وما في مَعناها، وهؤلاء لم يصحّحوا حديث أهل الفِترة، مثل الحافظ بن عبد البرّ، ثم على أنّ الآخرة ليست داراً للإختبار، وعلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه "إذا مات بن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث"، وغير ذلك مما استدلوا به.

      d.        ومن قال بإمكان وجود من لم تبلغه الدعوة، وهم كثير من أهل السُنّة إذ صَحّحوا حَديث أهل الفترة، الذين هم يُبعثون ثم يُمتحَنون في عرصات القيامة. وهم الأفراد من الناس، لا الأمم.

      e.        الخلاف هنا غير واقعيّ في عصرنا هذا لأنه ما من أحدٍ إلا وسمع بمحمدٍ صلى الله عليه وسلّم وبالإسلام. إذ إن مناطها هو من كان في شَواهِق الجبال وغياهب المَغارات، لم يَصله أمر من ذلك. أما في عصر النت والبلوتوث، فلا أظن عاقلا يدّعى أنّ هناك من لم يسمع بخروج محمدٍ صلى الله عليه وسلّم.

      2.       إقامة الحجة: وما يجب أن يعلمه طالب العلم أنّ:

      a.        الحُجة العامة قد أقيمت على كلّ بشر على الأرض، قال تعالى "رُّسُلًۭا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةٌۢ بَعْدَ ٱلرُّسُلِ" النساء 165.

      b.        الحجة الخاصة، وهي أن يصل الفرد من الناس الحجة، فهذا لا معوّلٌ عليه في الدنيا، إذ من المُستحيل أن يُعرَف من وَصَلَته ومن لم تصله، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يهاجم القرية والجَماعة إن لم يسمع فيهم آذاناً، دون أن يلجأ لإمتحان كلّ على حدة، أيهم وصلته الدعوة وأيهم لم تصله.

      c.        أن إقامة الحجة مرهونٌ بإمكانية وصُولها لا بتحقّق وصولها، ذلك أن الدعوة إن شَاع خبرها في قومٍ إعتبر ذلك مقام وصولها، كما في أحكام القانون الوضعيّ التي تنشر في الجريدة الرسمية، ويُعامل كلٌّ بعدها هلى أنه قد بلغه القانون. ولم يقل أحدٌ بأن لإقامة الحجة مرتبط بأن يشافه أحدٌ من العلماء كلّ فردٍ من الأفراد في مَحَلّة من الأرض، فيسأله هل بلغته الحجّة أم لا؟ وما هو ما بلغه؟ هذا عَبَث سَخيفٌ وفَهْم مَريضٌ، لا يقول به إلا من شحّ عَقلُه عن العلم، وتباطأ به إدراكُه عن الفَهْم. فإذن تُعتبر الحجة قائمة إن شاعت كتب وصحف ومقالات تتحدث عن الإسلام والتوحيد، وتقام فيه مناظراتٌ لا تكاد تتوقف.

      d.        إقامة الحجة لا يستلزم فهمها والقناعَة بها، فإن ذلك هو مَدارُ الإبتلاء الإلهيّ، إن أمكنك سماع الدعوة، فأنت سَمعتها، وإبتلاؤك بقبولها، فإن قَبِلت وأطَعت نَجَوت، وإن عَارضْت أو أعْرضّت وجَادلت، خَسِئت وخَسِرت وخِبْت. لا يقدحُ في هذا من يتحدث لغة أخرى غير العربية إلا إن لم يوجد من يترجم له أو لم يوجد من مادة الدعوة ما هو مُترجمٌ بلغته، فقد يعتبره بعضهم من أهل الفترة.

      فهذه جملة مختصرة من الأحكام المتعلقة بهذا الأمر، وتفصِيلها كما ذكرنا في كتاب "الجواب المفيد" (1).

      فإن زعم زاعمٌ أن فرداً من الحكام لم تصله الحجة أو أنه لا يعلم إن كانت الحجة قد وصلت إلى هذا الحاكم أو ذاك، فنقول: قرّ عيناً، بل وَصَلتهم واضحة جلية بينة فرفضها وطأبى إلا مخالفتها وتعطيلها واللجوء إلى غيرها مما اصطلح عليه النصارى في قوانينهم الغربية. وهو ليس من التورع والتأني، بل هو من إنكار ثابت من الدين بالضرورة ومن التحريض على قبول اللادينية والخُضُوع لها عملاً وإن رفضها قولاً، وفي هذا ما فيه من بَلاءٍ عظيم. بل قد قامت عليهم كلّ حُجّة رسالية يكفر مُخالفُها أو مُعارضُها أو المُعْرِضُ عنها. هؤلاء الحُكام الذين يشرّعون من دون الله سُبحانه شَرعاً موازياً ويخَضّعون له الناس ويجعلونه حَكماً بينهم، قد قامت عليهم الحُجة، ليس فقط بإمْكانية تحققها، بل بسَماعها ومَعرفة مفرداتها بلغتهم التي يتحدثونها، فما كان منهم إلا أن قتلوا من دعاهم إلى شرع الله، بل وأعلنوا العلمانية (أو في بعض حالات التعريض: الدولة المدنية، قبحهم الله أنّي يؤفَكون) صَراحَة، وهي وإعْلان الكُفر البواح سواء.

      وكما قرر بن تيمية رحمه الله، فإن هذا القول ومثله هو من أقوال من دخلت عليهم شبه الإرجاء من أنّ "القُدرة التامّة مع الإرَادة الجازمة لا ينشأ عنهما عمل". فإن من زعم أنه كانت سَيموت عطشاً، وأمامه كوباً من الماء، ثم نراه لا يُحرك ساكناً لتناوله، فهذا فيه خلل إما في الإرادة/ فهو ليس عطشاناً كما إدعى، أو خلل في القدرة، فهو مَشلولٌ أو مُقيّد. ونحن لا نرى حكامنا مشلولين مُعَوّقِين عن إنفاذ أحكام الله، بل هم يكافحونها ليل نهار بكافة وسائل العنف والإجرام والبغض لها، فخلل هؤلاء في إرادتهم لا في قدرتهم،  

      ومن الشباب من يقول، تورّعاً، لا ندرى إن كانت الحُجّة وصلت إلى الحاكم أم لا! فهل يَرى أنّ قيام الحُجّة يكون بأنّ عليه، شَخصياً، أن يتوجه إلى القَصر الرئاسيّ ويطلب مقابلة الحاكم، فيقرأ عليه آيات المائدة، ويوضِح له شُبهات المُرجئة في قول بن عباسٍ رضى الله عنه، ثم يقرأ له ما جاء في كلام أئمة العلم عن الحكم بغير ما أنزل الله، فإذا استبان له أنه قد اسْتفاض في كلّ أوجه الموضوع، وشرح معنى التوحيد بالتمام، واطمأنّ أن الحاكم شخصياً قد فهم عنه، خَرج مُطمئناً أن هذا الحاكم قد أقيمت عليه الحجة! أم هل يقنع بأن يعرف أن غيره قد قام بهذا بالفعل؟ ثم هل من الضَرورة أن يكون الغَير شَخْصاً مُشخّصاً أم يمكن أن يكون هذا العلم مما انتَشَر وتقرر في البلاد، منذ آلاف الأعوام، درّسَته المدارس والجامعات، ودُونَت عنه الكُتب والمُجلدات، وشُرحت عليه الشُروحَات، والقيت فيه المُحاضرات، وإنشأت الجامعات، وسُجّلت المَسْموعَات والمَرئيات!

       كما ذّكرنا، إنّ على الشباب أن يتلقى العلم بالدَرس لا بالسَمَاع، وبالمُصَابرة على الكتب لا بالرَفرَفة على صَفحَاتها. والورع الحقيقيّ هو في التأني في إضدار الأقوال التي يضطرب بها العَاميّ، ثم لا تعود بخيرٍ على قائلها، بل تُزيد من حَجم التفلّت الشَرعيّ الذي تَشهده الرُقعة الإسلامية في أيّامنا هذه.

      وقانا الله وإياكم شرّ الفتن في القول والعمل.

      1) http://www.tariqabdelhaleem.com/new/Artical-17#