فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      ضَوابِطُ النَشر .. في الإعْلام السُنيّ الإسْلاميّ

      موضُوع المقال هذا هو من أهم المَوضوعات المُلحّة، والتي تَعكسُ الإضْطِراب السَائد في تقييم الأقوال والأفعال من الوجْهَة الإسلامية بشكلٍ خاصٍ، ومن الوجْهة الواقعيّة المَصْلحية بوجه عام، وهو مَوضوع "ضَوابط النَشر في الإعْلام الإسْلاميّ"، أو، بكلماتٍ أُخَرٍ، ما يَصلحُ وما لا يَصلح للنشْر في الصُحُف والمَواقع الإسْلامية، و التي تصْطَبغ، أو تريد أن تصْطَبغ، بصِبغة إسْلامية.

      وقد دَفَعَنى إلى تدوين هذا المَقاَل مُحاورتان، أحدهما مع أخٍ صديقٍ، رئيس تَحرير مَوقعٍ إسلاميّ، والأخرى مع شيخ من شيوخ الدعوة المسؤولين عن بعض المَراكِز الإسْلامية، إذ سَألني رئيس التحرير عن مقال نَشَرَه لكاتب، تجَاوز فيه ذلك الكَاتب الحَقّ في تقييمه للأمر، وخَرج بنتيجة غير صَحيحَة عن الوَاقع. كما سَألني الشَيخُ عن جَريدَة الكترونية مَعروفة ومُنتشرة، قال: "أتنشُرُ هذه الجَريدة كُلَ شيئ؟". ولمّا كنت في شُغلٍ بهذا الأمر من قبل، ولكن مَشغول عنه بغيره، كما أنني أشهد تفلتاً مُتفاوت القَدر فيما تنشُره صُحُفٌ ومواقع إخبارية إعلامية إسلامية، فقد عَزَمت اليوم أن أبيّن، ما استَطعت، الضَوابط الشَرْعية التي تَحكُم عَملية النَشْـر في الإعْلام الإسلاميّ، إن أراد أصْحابها أن يلتزموا بما شرع الله سبحانه، وإلا فالكلّ حُرٌّ فيما يَفعَل، وهو أخيراً مُسؤول عنه يوم يقوم الأشهاد.

      أولاً: الإعلام الإسلاميّ جزء من الدعوة، فهو ليس كَكُل إعلامٍ آخر، يعنيه لفتُ الأنظارِ وحشدُ القرّاء من غير التفات إلى المَادة المنشورة، أو إلى أثرها على القارئ، فالكلمة في الإعلام الإسلاميّ أمانة تقع تحت طائل قوله تعالى: "ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله"، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ..فليقل خيراً أو ليَصْمت". فالكلام لذاته ليس مُسْتحَباً، بل قد يكون مُحرّماً إن كان بإثمٍ أو ببدعةٍ. ولهذا المعنى وجب على من تصدى للكتابة أولا، وللنشر ثانياً أن يَعيّ ثقل ما يكتب، وأمانة ما ينشر، وكلاهما مَسؤول عن المَادة المَنشورة. ولا يَصِحُ في المَفهومِ الإسْلاميّ أن يعتذرَ مَسؤول التحريرِ بأنه ليس بالكاتب، لأنه هو من وقّع على حَملِ المَكتوب إلى الناس وإخْراجِه إلى العَامّة، فهو مَسؤول بدرجة أكبرَ من الكاتب، لطرحه المَادة المكتوبة بين يديّ العامة من النَاس، إن فَسَدَت فَسَدوا وإن صَلُحَت صَلُحُوا. الأمر إذن في الإعلام الإسلاميّ أمر دينٍ لا دنيا، أمر قواعد شرعية لا إعتباراتً دنيوية بالمقام الأول. ومن هذا المنطلق، وجب أن تتحقق شروط خاصة في المسؤول عن النشر والتحرير في الإعلام الإسلاميّ كما سيأتي.

      ثانياً: التفرقة بين مُرَكّبَات الإعْلام الإسْلاميّ، هي عَملية لا بدّ منها حين النَظَر في مُكوّنات المَادة الإعْلامية، فهذه المُكوّنات تتراوح بين:

      1. الأخبار العامة، التي تتناول ما يحدث في أرجاء الدنيا، وضوابِطُ نشرها إثنين، أن لا تكون مما يخدِشُ الحَياء العَام، وأن يتحرّى الناشِر الدِقة والأمَانة والصِدق في نقلها عن مَصَادرها الأصلية، بلا ظنٍ ولا تلفيق.
      2. المقالات والتحليلات الإخبارية: وهي المقصودة في التحرى والتثبت مما فيها، بمنظار الإسلام. ويجب فيها أن تتبع بعضٍ من ضَوابط الإفتاء، إذ إنه ليس هناك رأيٌّ في الإسلام، بل هي فتوى، شاءَ صَاحِبها ذلك أم لم أبى. والفتوى لا يلزَم فيها أن تكون مُوجّههٌ لفَردٍ سَائلٍ بالذات، بل تكون بإملاء رأيٍ يَهُمُ الجَماعة المُسلمَة في مَعَاشهم ومَعَادهم، مما للشرع فيه رأي، وبهذا يخرج من ذلك ما هو "مِن شؤونِ دنيانا" كَطرق الزَرْعِ والحَرْث، وقواعِد المُرورِ وسِنّ التعليم، وضَوابط التَرشيح للوظائف الفنية، وما أشْبه ذلك.  

      ثالثاً: ضَوابِط النَشر في الإعلام الإسْلاميّ، وهي تتعلّقُ بمُرَكّبَاتِ الإفتاءِ الثَلاثة، 1) الحُكْم الشَرعيّ، 2) الواقع المَعنيّ، و3) الفتوى. فيجب على النَاشِر أن يتحَرّى هذه المُرَكّبَاتِ الثلاث فيما يَرِدُ عليه للنَشْرِ على النَاس:

      1. فإن وجد إختلافاً في مَوضُوع الحُكْمِ الشَرعيّ، بإنحرافٍ إلى بدعةٍ أو تحريفاً لحُكمٍ أو تغيير لقاعدة في الشَرْعِ، وجب منع نشره بلا خلاف. تَعَاطِيّ الخمر فمثلاً أن يأتيه مقال يرى فيه صاحبه أنّ الحجاب ليس من دين الله سبحانه، أو أنّ تعاطِيَ الخَمرِ للإسْتشفاء حَلالٌ، أو أنّ لإقامَة الحَضَرات ومَجَالِس الرَقْص، المُسمّاة بالذكر، لا غضاضة فيها، أو أنّ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابت الصحيح لا يَصِحُ الإعتماد عليه، لما يذكره أمثال المعتزلة والرافضة من شبه وبدع معروفة ومُسلمُ بها لدى فقهاء السنة وأعلام المُحَدّثين، أو في مُستَحدَثاتِ الفُجور كَنشرِ أخبَار فنانين وفنانات، وكأن ذلك مِما يُرضِى الله ورَسوله ويُعمّق من وَعي المُسْلمين وعِلمهم!، فَيَجَبْ عليه الإمْتناع عن نَشْرِ هذه السَيئات وجَعْلَها مَادّة بين العَامّة تَفْتِنُ أكثَرُهُم، ولا يَعْلمُ حَقيقتُها إلا القَليل. ولا مانع من نشر ما يكتب هذا الكاتب البدعيّ من مادة قد تخدِم الدعوة. ومثالٌ على ذلك الصحيفة الإلكترونية التي إتخذت من د.محمد عمارة عامودا فقريا لإنتشارها، فنشرت له مَقالات في نفي صِحَة أحاديث الآحاد الصحيحة الثابتة في البخاري ومسلم، وهو أمْرٌ مَعروف في مَذهبيّ الرافضة والمعتزلة، خشية أن يمتنع الرجل من نَشرِ بقية مقالاته على صفحاتها! متعللين في ذلك أنّ الأمر مُختلفٌ فيه! وأن الرجل يفضح النصارى في كتاباته الأخرى! بل تعدى الأمر إلى أن رَفَضوا نشر ما يبيّن خطأ الرجل لنفس الإعتبار السابق! وهو عَوارٌ ما بعده عَوار في عَالم الإعلامِ الإسْلاميّ السٌنيّ. ومثل هؤلاء يحملون على رؤوسهم إزر من قرأ هذا الخَبَثُ وتأثر به. وما كان على هؤلاء إلا أن ينشروا ما صحّ من فضح النصارى، ثم هم بخيارٍ أفضلهما الإمتناع عن نشر خبائث الرجل، أو نَشرِها والسَمَاح لِمُعارضِها بفضحها. وهذا مَثَل واضِحُ في خطورة هذا الإتجاه المَصْلحِيّ في الإعلام، الذي لا يَستندُ إلى منطق شرعيّ ولا تقوى لله. ولا يصح في هذه الحالة وضع الملاحظة التي تقول أن "الموقع غير مسؤولٌ عن محتويات المقالات" وما أشبه ذلك، فتلك تحفّظاتٍ قانونية منعاً للمساءلة في الدنيا، لا الآخرة.
      2. وإن وجد إخْتلافاً في تَقييم الوَاقع وتقديرُ أبْعَاده، كَمَن زَعَم أنّ أحْداثَ تونُسَ لا تَصْلحُ لإسْقاط الحُكم في مِصرَ، خَوفاً من الفَوضى، أو من زَعم أنّ الصَبر على الهَوانِ والمَذلّة، والسُكُوت في وجْه كلّ حَدَثٍ يسْتدعى القَيام لله فيه، كما فَعَلوا في حَوادِث المُهاجِرات إلى الله لَمْنع سُقوط الضَحَايا، فمثل هذه الفتاوى المَقالية لا يُمنَع من نَشرِها، لأنها إختلاف في مَنَاطَات واقِعية وتقديرات إنسانية، فهي مما يختلف عليه، إلا انه يجب التعليق عليها ما استطاعت الجريدة، في مقالات أخرى تُصَحِحُ هذا الخلط في تقديرٍ الواقع، إذ قد يصل الخلط إلى درجة ترفعه إلى حدّ الجرم والتعدى على الحق. لكنّ هذه الحالة هي التي يُعتبر فيها موضوع السماح للرأي الآخر بالحديث والتعبير، لا الحالة الأولى التي تنشُر البِدعَة والتحريف في الدين.

      رابعاً: مؤهلات القائمين على الإعلام الإسلاميّ، هي من مقومات الدعاة، فكما رأينا أن القائم على رئاسة التحرير هو قائم على ثغرٍ من ثغور الإسلام، فيجب أن يكون على علمٍ بأصول الدين، والفقه والقدرة على إختار الأقوال والتمييز بينها على حسب ما قرّرنا سَابقاً، فإن كان ممن تأهل للعَمَل الصَحَافيّ وحده من خِريجي كُلياتِ الإعْلام أو أمثالها، وكانت خَلفيته الشَرعية مُكتسبةٌ من قراءاتٍ من متفرقةٍ من هنا وهناك، فعَليه أن يَسْتَعين بعالمٍ يثقُ في عِلمه وتقواه ممن عُرف بين الناس، وممن امتنع عن طَرقِ أبواب السُلطان، أو اللِّهاث وراء المَناصِب والمُسَمّيات. أمّا أن يُترَك الأمرُ لما يعتقد المُسؤول ويتخَيّر، فهذا هو عَين إتّبَاعِ الهوى الذي لا يَراه صَاحِبه، إذ من عَادة صَاحِب الهَوى أن لا يرى ما هو عليه، بل عادة يُنبَّه اليه من قِبَلِ غَيره.

      خامساً شُبُهَاتٌ في الواقع الإعلاميّ: وقد عرضنا لبعض هذه الشُبهات في مَعرض الحديث أعلاه، لكن يمكن تلخيص أهمها فيما يلى:

      1. أنّ العمل الصَحافيّ حُرٌ بطبيعته، ولا يجب الحَجرُ على الآراء فيه، لأن ذلك هو مَدخَل الديكتاتورية ومبدأ الطغيان. وهذا صحيح في الحدود التي بيّناها فيما يتعلقُ بالرأى الآخر، أو في تعدد الفتوى بكلمات أُخر، في تقييم الواقع وتحليله، طالما أنّ الأحْكام الشرعية والقواعِد الكليّة لا يَمسَّها تبديل أو تَعْديل، ولا تدخلها البِدعةُ باسم التقدمِ والتَجديد.
      2. أنّ المصلحة الأمنية تدعو إلى التعددية في قبول المقالات وطبيعتها، لإعُطاء غطاءٍ للصَحيفة ضد الترَصّد والإغُلاق، وهو من أقبحِ الأسْباب، وأخَسّها، إذ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعطَى القُدوة في هذا فقال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت" مالك ومسلم والترمذي، إذ خيّرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين لا ثالثَ لهما، إما أن نقول الحق (الخير)، وإما أن نَصْمُت، لا أن نتكلم بباطلٍ، فما على تلك الصُحف في أن تَصمُت ولا تنشر، فإنه "لا يُنسَب لصَامتٍ قولاً" كما هو معروف.
      3. أنّ المَصْلحة في إسترضَاء من يقول ببدعة خبيثة من صُوفية أو إعتزالية أو غيرها مما كَثُرَ غُثاؤه في أيّامِنا هذه، حتى ممّن اشتَهر اسمُه وعَلا صِيته، لكي تَستفيد الناس مما يكتب مما نحسبه مفيداً. وهو قولٌ مخالفٌ لمبادئ الشرع وقواعد المصالح والمفاسد، لا يَصدُر إلا ممن لم يعَرَفَ من العُلوم الشَرعيّة إلا عنَاوينَها ومن الأصُول الشَرعية إلا أبوابَها. فإن المصلحة تدور وجوداً وعَدماً مع الثوابِتَ والأحْكام الشَرعِية، فلا يَصِحُ أن يُقال أنّ المَصْلحة في نشر خَبَثٍ من أقوال مبتدعة الزمان، أو تعظيم أمر رؤوسهم، إذ هي مصلحة متوهمة صنعتها مخيلة من تبع هواه وظنّ أنه على طريق مستقيم.

      ثم أوجه رسالة إلى مسؤولي النشر في الصحف والمواقع، أن اتقوا الله، وانتبهوا إلى المَسئولية التي ترعُونها وتتحمّلون وِزْرَها، فالأمر ليس أمرترتيب مَوقِعِكم على ليكسيا!، أو عدَدَ زائرى صحفكم وقرائها، بل الأمر أمْر دينٍ وفتوى، وأنتم صِمَام ما يَخْرُج للناس باسم الإسلام، فأنتم والله مَسؤلون عن كلّ كَلمَة يكتبها كَاتب على صَفحَاتكم، وإنْ وضَعتم في زاوية من زوايا موقعكم "الموقعُ غير مَسؤول بالضَرورة عن محتوياته"! ولا أرى إلا أنه من الواجب على مسؤولي الإعلام الإسلاميّ إلا أن يجتمعوا على وثيقة مهنية إسلامية، بديلاً عن وثيقَة المِهنة العَامة التي لا تُراعِي ما ذَكرْنا من مَبَادئ شَرعِية.

      وأخيراً، فإن تجربة الإعْلام الإسْلاميّ لا تزال غير مُنْضَبِطةٍ بمَشُورة العُلمَاء من أهل التَخَصّص، وهي تَجربة جَديدة على الواقِع الإسْلاميّ، سَاعد عليها توسّع التكنولوجيا والإنترنِت، وشِدّة القَبضَة الديكتَاتوريّة على مُمَثلي الإسْلام السُنيّ. ولَعل من إبتلاهم الله بمثل هذا الإبتلاء من رؤوس التحرير ومسؤلي النشر من المسلمين المخلصين لله ورسوله، أن يستفيدوا بما قيدنا، وأن يضيفوا عليه ليشمل كافة الإحتمالات والرد على ما يمكن أن يظهر من شبهات، والله وليّ التوفيق.