فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      الحركة الإسلامية بين جوهر الكمال وعوارض النقص (6)

      لقد ذكرنا أن الفصائل الإسلامية في التيار الإسلامي العام ليست سوى آليات مختلفة للتكيف مع أزمة نفسية عامة هي أزمة الإغتراب عن المجتمع، وأن هذا «الاغتراب» هو في الحقيقة نتيجة «تغريب» مقصود ومتعمد قام به المجتمع واستهدف به الإسلاميين بسبب خروجهم عن خياراته المستقرة والتي تمنحه نوعا من الإنكار المزيف لأزمة الهيمنة الغربية. وأن هذا «التغريب» هو وسيلة المجتمع لطرد أي نزعة تشذ عنه أيا كانت طبيعة تلك النزعة، وأن اختيار المجتمع لفعل «التغريب» هي أمر طبيعي لأن المجتمع نفسه قائم على الشعور بـ«الألفة» وهو الشعور النقيض للشعور بـ «الاغتراب»، وكأن المجتمع بالغريزة يقصد النزعات الشاذة عنه بالبتر.

      أما عن السبب الذي حدا بالمجتمع إلى اعتبار الحركة الإسلامية نغمة شاذة عنه، فهو أن قوام الحركة الإسلامية وأصل جميع مفرداتها هو نمط المواجهة الحضارية، أي تلك النزعة النفسية نحو تحدي الحضارة الغربية ورفض هيمنتها، أما المجتمع فهو مشبع تماما بنمطين مضادين لنمط الحركة الإسلامية، وهما أولا: نمط الهروب الحضاري، أي تلك النزعة إلى الإعجاب بالغرب كحل لأزمة الهزيمة الحضارية بتحويل الخصم الحضاري إلى مثل أعلى،  وثانيا: نمط الحاكم الإله، وهي تلك النزعة إلى تأليه الحاكم وقبول سطوته بل والحرص على بقائها.

      وذكرنا أن أصل التضاد بين هذين النمطين وبين نمط المواجهة الحضارية يختلف فيه كلا منهما عن الآخر، فحيثية التضاد بين نمط المواجهة الحضارية وبين نمط الهروب الحضاري هي حيثية مباشرة، وتعود إلى التنافي بين معنى الهروب ومعنى المواجهة، أما حيثية التضاد بين نمط الحاكم الإله وبين المواجهة الحضارية فغير مباشرة، وتعود إلى أن المواجهة الحضارية عموما يتبعها حشد واستنفار للتاريخ والتراث الخاص بتلك الجماعة لدعمها معنويا خلال الصراع مع الحضارات الأخرى، وهذا سلوك خبرته الإنسانية في الحركة النازية والحركة الفاشية وعودتهما إلى الحضارة التيوتونية والرومانية، والحركة الصهيونية وعودتها إلى التاريخ اليهودي بطقوسه وتعاليمه، وموطن الإختلاف بين الحركة الإسلامية وبين المجتمع هو أن التراث الوحيد والمتاح أمام نمط المواجهة الحضارية هو التراث الإسلامي، وهو تراث يقوم أصلا على العداء للنموذج الفرعوني للحكم، أي التأليه السياسي للإنسان، ومن ثم حدث التصادم بين الحركة الإسلامية وبين المجتمع المشبع بنمط الحاكم الإله.

      غير أن هذا التضاد الأخير ورغم أنه غير مباشر، إلا أنه أكثر تجذرا وتأصلا من الناحية الوجدانية والتاريخية في المجتمع المصري، وأكثر حسما وفاعلية في أزمة اغتراب الإسلاميين عن ذلك المجتمع منذ عقود، وذلك لما بين ذلك المجتمع وبين الحاكم من صلة وطيدة تضرب بجذورها إلى نشأة المجتمع نفسه.

      سبب التآزر والتداخل بين نمط الهروب الحضاري ونمط الحاكم الإله

      ورغم أن نمطي  «الهروب الحضاري»  و«تأليه الحاكم» يختلفان في الموضوع المباشر لهما، والذي هو «الحضارة الغربية» في الحالة الأولى، و«الحاكم الإله» في الحالة الثانية، إلا أنهما يعودان فيلتقيان في غياهب النفس عند نقطة عميقة واحدة، ألا وهي نقطة «التوحد بالمعتدي» فكل من «الحضارة الغربية» والحاكم المستبد هو معتدٍ، وكل منهما لا مخرج من أزمة اعتدائه إلى مواجهته أو نفي حالة الخصومة معه بشكل متخيل بتحويله من خصم إلى مثل أعلى. فهذا سبب التداخل بين النمطين وتفهم كل منهما للآخر في المجتمع، ولذلك كانت العلمانية لها السيادة دوما في المجتمع رغم أن العلمانيين أقلية فيه. 

      أصل تشبع المجتمع المصري بنمط الحاكم الإله

      هناك مشهد يلخص سبب عداء المجتمع المصري، من حيث هم مشبعين بنمط الحاكم الإله، مع الإسلاميين، من حيث هم ممثلين للتراث المعادي لفكرة الحاكم الإله، ألا وهو مشهد «البلطجية» مع ثوار الخامس والعشرين من يناير، ثم مشهد بكاء ربات البيوت بعد خطاب مبارك الثاني شفقة عليه، وهو ما كاد يودي بالثورة، وما أعقب ذلك المشهد من ظاهرة «أولاد مبارك»، ثم مشهد حصول «أحمد شفيق» على نسبة غير متوقعة في انتخابات الرئاسة والتي كادت أن تودي بالثورة وتجهضها «شعبيا». لقد بات واضحا للجميع أن الاستبداد السياسي في مصر له أساسه النفسي المتأصل في المجتمع ذاته، وهو تعلق الشعب بالحاكم المستبد، والخوف من الحرية والعيش دون استبداد.

      والحقيقة أن موقف المجتمع المصري من الإسلاميين على مدار عقود طويلة هو نفسه موقف «أولاد مبارك»  من الثورة، وهو نفسه موقف نصف المجتمع المصري حين انتخب «أحمد شفيق» في سباق الرئاسة. وكلا الموقفين يصدران عن دافع نفسي واحد هو الحرص على الحاكم المستبد، والغيرة أن تنتهك حرمات ذلك الحاكم، والحنق على كل من يتطاول عليه. ولا يميز أحد الموقفين عن الآخر سوى الظهور الفج لدافع النفسي في حالة العداء للثورة، وكمون نفس الدافع في حالة ما قبل الثورة تجاه الإسلاميين. وكل معاد للإسلاميين، من حيث هو مشبع بنمط الحاكم الإله، هو، من منظور معين، «بلطجي» معاد لكل من يعادي الحاكم المستبد، حتى لو كان مثقفا، بل وحتى لو كان يبدو كمعارض سياسي.

      ولإلقاء الضوء على تلك النزعة العريقة في مجتمعنا يكفينا الرجوع إلى الدكتور  «جمال حمدان» وكتابه: «شخصية مصر» لنقف على نشأة دافع الحرص على الحاكم المستبد منذ فجر تاريخ مصر، وإليكم نص ما قال:

       «الحقيقة الكبرى في كيان مصر هي أنها بيئة نهرية فيضية لا تعتمد على المطر الطبيعي في حياتها، وإنما على ماء النهر. وقوامها هو زراعة الري – الري الصناعي- لا الزراعة المطرية. ومن هنا بالدقة يبدأ كل الفرق في حياة المجتمع النهري وطبيعته. ففي البلاد التي تعيش على الأمطار مباشرة يختزل المجهود البشري إلى حده الأدنى. فبعد قليل من إعداد الأرض والبذر يتوقف العمل أو يكاد حتى الحصاد. وبين هذا وذاك فليس هناك من يحفر الترع والمصارف أو يقيم الجسور والسدود، وأهم من هذا كله أن ليس هناك من يمكنه أن يحبس عنك المطر أو يتحكم في توزيعه.

      حقا إن الزراعة المطرية عرضة لذبذبات المناخ، وفلاحها من ثم تحت رحمة الطبيعة، لكنك لست بحاجة ـ ولن تستطيع إن أردت، وهذا هو المهمـ أن «تخطط» المطر، من هنا فقد تكون الطبيعة سيدة الفلاح، ولكن الفلاح بعد ذلك سيد نفسه، وهذا في نفس الوقت يمنح الفلاح فرصة للفردية بدرجة أو بأخرى.

      أما في بيئة الري فالأمر مختلف كل الاختلاف، فالوادي في فجر تاريخه ليس مصرفا طبيعيا ولكنه مستنقع اسفنجي ملازي مشبع، ولا زراعة ولا تعمير إلا بعد التصريف و «التقنيل»، لا بد – يعني – من مجهود بشري جماعي ضخم حتى تُعد الأرض مجرد إعداد لاستقبال البذرة، وبعد هذا فلا بذر حتى توصل المياه إلى الحقول، أي لا بد من شكبة غطائية كثيفة من الترع من كل مقياس ابتداء من قنوات الحمل وقنوات التغذية إلى مساقي الحقول، حتى تزرع أذن لا بد لك أولا من أن تعيد خلق الطبيعة، ثم ما جدوى تلك الشبكة إذا لم تسيطر على أعناقها ورؤوسها بالنواظم والقناطر والسدود؟ أعني أي جدوى فيها بغير «ضبط النهر»؟. وأكثر من هذا ، ما جدوى الجميع بغير «ضبط الناس»؟ إن زراعة الري إذا تركت بلا «ضابط» يمكن أن تضع مصالح الناس المائية في مواجهة بعضها البعض مواجهة متعارضة دموية، ذلك أن كل من يقيم على أعلى الماء يستطيع أن يسيء استعماله إما بالإسراف أو بحبسه تماما عمن يقع أسفله، أي أن كل حوض علوي يستطيع أن يتحكم في حياة – أو موت – كل حوض سفلي، وكل من يقع على أفواه الترع يستطيع أن يهدد حقوق المياة لمن يقع على  نهايات الترع, كذلك يمكن للمحاباة والتحيز أن تسخو بالماء لمن تريد وتقبضه عمن تريد، إن العلاقات المائية داخل الوادي بأكمله، أشبه ما تكون بقانون الأواني المستطرقة، فكل تغير فيها هذا يستتبعه بالضرورة تغيير هناك وأي مضخة كابسة هنا هي بمثابة مضخة ماصة هناك.

      المحصلة إذن واضحة: بغير ضبط النهر يتحول النيل النبيل إلى شلال محطم جارف، وبغير ضبط الناس يتحول توزيع الماء إلى عملية دموية، ويسيطر على الحقول قانون الغاب والأدغال. ولو تركت البيئة المصرية اجتماعية لما تطورت عن الغاب الطبيعي الذي بدأت منه، والواقع أن البيئة الفيضية يمكن أن تجعل من «المجتمع الهيدرولوجي» - كما يسميه برون – مجموعة من المصالح المتعارضة، فتصبح سلسلة الأحواض سلسلة من المتنافسين، ومما له مغزاه أن كلمة منافس في اللاتينية مشتقة من كلمة نهر  rivalus, rivus وليس صدفة كذلك أن المصريين القدماء اشتهروا بكثرة الخصام والتقاضي، وفيما بعد بالأخذ بالثأر.

      في ظل هذا الإطار الطبيعي يصبح التنظيم الاجتماعي شرطا أساسيا للحياة، ويتحتم على الجميع أن يتنازل طواعية عن كثير من حريته ليخضع لسلطة أعلى توزع العدل والماء بين الجميع، سلطة عامة أقوى بكثير مما لا تكون الطبيعة وحدها سيدة الفلاح، وإنما بين الاثنين يضيف الري سيدا آخر هو الحاكم، هنا يصبح الحكم والحاكم «وسيطا» بين الإنسان والبيئة لا يتعامل مع الماء مباشرة، وإنما من خلال الحاكم، وبتعبير آخر فإن الحكومة – فكرة وجهازا – هي بالضرورة أداة التكامل الأيكولوجي بين البيئة والإنسان، إنها تبدأ نتيجة وضرورة جغرافية ، لتنتهي «عاملا جغرافيا» بكل معنى الكلمة»، انتهى كلام د. جمال حمدان.

      ويبدو أن تأليه المصريين القدماء صراحة للفراعنة لم يكن سوى (ضرورة تمظهرت في عقيدة)، فالنيل نفسه، الذي هو منشأ الضرورة ومبعثها، كان مقدسا على امتداد جميع الأسر الفرعونية وعلى اختلاف معبوداتها كما هو معروف. ومع استمرار (الضرورة للاستبداد) في حياة المصريين ظلت النزعة إلى تقديس الحاكم كامنة في الضمير المصري على مر العصور حتى بعد أن زالت الديانات المؤلهة للفرعون وحتى بعد الفتح الإسلامي، ولطالما حرص المصريون على تطعيم أي معتقدات وافدة عليهم بمبدأ عدم المساس بالحاكم، حتى قال قائلهم للحاكم الفاطمي:

      ما شئت لا ما شائت الأقدار     فاحكم فأنت الواحد القهار

      فأي سلبية سياسية عند المصريين، وأي تبرير للخضوع للحاكم إنما هو من جنس عبادة الفراعنة قديما، وبقايا منه. وأي تحفز من المجتمع المصري ضد أي فصيل مناوئ للسلطة إنما هو من جنس التحفز ضد ما يهدد الفرعون الإله قيدما وبقايا منه.

      هذه الثلاثية التاريخية المسيطرة على المشهد المصري منذ سبعة آلاف سنة، أعني ثلاثية الحاكم والأرض والشعب، يلخصه بدقة أهم مشاهد فيلم «شيء من الخوف»، وهو مشهد العقاب الجماعي لأهل القرية، حين أغلق (عتريس) هويس الماء وجفف الأرض وأفسد الزرع وقعد الفلاحون في صمت وحزن واستكانة، صحيح أن المشهد انتهى بـ «فؤادة» وهي تكسر حالة العقاب تلك بفتحها الهويس، إلا أن الواقع المصري دوما لم يكن فيه «فؤادة»، وصحيح أن المشهد يتعلق بالبيئة الريفية، إلا أن البيئة الريفية في مصر تبقى هي جسم المجتمع والطرف السياسي الحقيقي فيه، والذي يشكل في النهاية صورة الحياة السياسية في مصر.

      أعتقد أننا بذلك تحسسنا سببين رئيسين لعداء المجتمع للحركة الإسلامية، وتسليطه سيف «التغريب» نحوها طيلة عقود، بقي أن نحلل مضمون عملية التغريب تلك، وكيف استغرقت حياة الحركة الإسلامية قسرا وشتت جهدها وشوهت أهدافها وعطلت مسيرتها حين تحولت إلى أزمة داخلية عميقة لم يكن الشغل الشاغل لها سوى التخلص منها أو التكيف معها.

       

      انتهت الحلقة السادسة ويليها الحلقة السابعة إن شاء الله.

      * 9 سبتمبر 2012