فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      حكم التحاكم إلى محاكم تطبق القوانين الوضعية

      حكم التحاكم إلى محاكم تطبق القوانين الوضعية

      رسالة إلى بعض الشباب في سجن جوانتنامو

       الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

      لقد اتصل بنا المترجم الخاص لمجموعة من الشباب المعتقلين بسجن جوانتنامو بدولة كوبا شارحاً لنا أن بعض الشباب في سجن جوانتنامو برفضون المثول أمام المحاكم الأمريكية حيث يعتبرون أن هذا تحاكم إلى قوانين وضعية لا تحكم بما أنزل الله.. وقد حاول البعض إقناعهم لكنهم لا يزالون مصرين على رأيهم.. وأخيراً طلبوا فتوى شرعية تجيز لهم اللجوء إلى هذه المحاكم. فرشح لهم أحد الشباب الذي أفرج عنه مؤخراً من جوانتنامو الاتصال بنا لكتابة رأينا في هذا الموضوع.

      أقول وبالله التوفيق:

      بادئ ذي بدء؛ إن ما أقوله وأكتبه وأفتي به لا ألزم به أحداً، فمن أخذ برأيي فبها ونعمت؛ فقد اجتهدت قدر وسعي ابتغاء مرضاة الله وآملاً في رفع الحرج والضيق عن هؤلاء الشباب والشيوخ المسجونين في جوانتنامو وغيره من سجون؛ حيث إن سلطان الإسلام غائب عن سدة الحكم في العالم بأسره منذ أكثر من قرن تقريباً. وأما من رأى غير ما أراه من قولي بالجواز بالشروط والضوابط الشرعية، فالمسألة يسع فيها الاجتهاد وهي من النوازل القاصمة التي حلت بالأمة الإسلامية منذ تنحية الشريعة الإسلامية في واقعنا المعاصر. أسأل الله أن يهدينا وإياهم سواء السبيل. ثم أما بعد:

      الأًصل أنه لا يجوز لمسلم أن يتحاكم إلى غير ما أنزل الله.. قال تعالى في محكم التنزيل: (ألم ترَ إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أُمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً. وإذا قيل لهم تعالَوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً) النساء آية 60.

      قال العلامة الطاهر بن عاشور: "وقوله (يريدون) أي يحبّون محبّة تبعث على فعل المحبوب" أهـ التحرير والتنوير ـ ابن عاشور ـ دار سحنون للنشر ـ تونس ـ ج3ـ ص105.

      أقول: فقد علقت الآية التحريم بالإرادة (يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت) .. فالمتحاكم يريد ويبتغي ويحب أن يتحاكم إلى الطاغوت لأنه يدين به وله، ولذلك قال الله تعالى (وقد أمروا أن يكفروا به) .. فهل هؤلاء المسلمون المسجونون في جوانتنامو وغيره من سجون العالم يحبون التحاكم إلى الطاغوت أي القانون الوضعي محبة تبعث على فعل المحبوب؟!

      إن أي مسلم يريد مجرد الإرادة والحب للطاغوت وحب التحاكم إليه حتى ولو لم يكن مسجوناً أو متهماً في أية قضية؛ إن مجرد هذا الوصف في حبه للطاغوت والدينونة له يخرجه عن الملة بصرف النظر عن مسألة أنه مسجون أو غير مسجون أو أنه مظلوم أو غير مظلوم؛ كما إذا استحل مسلم الخمر أي قال إن الخمر حلال فإنه يكفر وإن لم يشربها.. يقول الله تعالى في محكم التنزيل: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا۟ فِىٓ أَنفُسِهِمْ حَرَجًۭا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا۟ تَسْلِيمًۭا ) النساء آية 65. 

      هكذا لا إيمان لمن لم يسلم تسليماً كاملاً لشريعة الله ..  فلا حكم إلا لشرع الله ولا سلطان إلا له .. ومن ثم فأحسب أن الآيات القرآنية الكريمة لا تتناول هؤلاء الشباب والشيوخ في سجن جوانتنامو وغيره؛ فهؤلاء لا يريدون التحاكم إلى الطاغوت وهم يرفضون المثول أمام هذه المحاكم الوضعية؛ إذن فهم لا يحبون هذه القوانين الوضعية ويرفضونها..

      لكن المشكلة أن الشريعة الإسلامية التي يريدون ويحبون أن يتحاكموا بموجبها وفي كنفها وتحت ظلها غائبة عن العالم! وهم في نفس الوقت مظلومون مقهورون فماذا عساهم أن يفعلوا؟

      فهل خيروا بين التحاكم إلى القوانين الوضعية والتحاكم إلى الشريعة الإسلامية مثلاً؟ رغم أن هذا التخيير لو فرض جدلاً فلا يجوز لمسلم أن يختار التحاكم إلى القوانين الوضعية على الشريعة الإسلامية.. فإذا فعل ذلك فإنه يكون قد خرج عن ربقة الإسلام .. يقول الله تعالى (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍۢ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـٰلًۭا مُّبِينًۭا) الأحزاب آية 36.

      فهكذا ما ينبغي لمؤمن ولا مؤمنة أن يختار على شريعته وإلا انتفى عنه الإيمان.. ثم أعود فأتساءل وهل هؤلاء المسلمون المعتقلون في سجن جوانتنامو أو في سجون الشرق والغرب؛ هل لهم خيار آخر؟ وهل عرضت عليهم السلطات التحاكم إلى شريعتهم الإسلامية؟

       فإذا كان هذا لم لم يحدث بالطبع، وهذا هو الواقع المرير للمسلمين في العالم؛ أن شريعة غير شريعة الإسلام مفروضة عليهم!!.

      وإذا كان الوضع كما نعلمه جميعاً هكذا بهذا السوء فهل يظل هؤلاء المسلمون يعانون الظلم والقهر والتعذيب والحرمان عن أسرهم وعوائلهم وقد يحكم عليهم بالإعدام بموجب هذه القوانين الجائرة! فهل يظلون هكذا دون تظلم ودون حل لدفع الظلم عنهم وطلب براءتهم وهم في الحقيقة كافرون بالطاغوت الذي يحكم بغير ما أنزل الله .. وهم مذعنون خاضعون منقادون إلى شريعتهم المغيبة قسراً عن سدة الحكم؟! 

      وإزاء ذلك لا يسعنا إلا أن نقول إنه يجوز للمسلم أن يلجأ مضطراً إلى هذه المحاكم الوضعية، إن لم يجـد محاكم أو هيئات تحكم بالشريعـة الإسلامية ليدفع عن نفسه الظلم والأذى والضرر وليسترد حقه..

       وذلك للأدلة التالية:

      أولاً: قال الله تعالى في سورة يوسف: (وَقَالَ لِلَّذِى ظَنَّ أَنَّهُۥ نَاجٍۢ مِّنْهُمَا ٱذْكُرْنِى عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَىٰهُ ٱلشَّيْطَـٰنُ ذِكْرَ رَبِّهِۦ فَلَبِثَ فِى ٱلسِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) يوسف آية 42.

      قال شيخ المفسرين ابن جرير الطبري:

      "قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال يوسف للذي علم أنه ناج من صاحبيه اللذين استعبراه الرؤيا: (اذكرني عند ربك) يقول: اذكرني عند سيدك وأخبره بمظلمتي، وأني محبوس بغير جُرْم" أهـ جامع البيان عن تأويل القرآن ـ الطبري ـ دار الفكر ـ بيروت ـ الطبعة الأولى ـ 2001 ـ مج7 ـ ص 257.

      قال الحافظ أبو عبد الله القرطبي:

      "أي اذكر ما رأيته، وما أنا عليه من عبارة الرؤيا للملك، وأخبره أني مظلوم محبوس بلا ذنب"أهـ الجامع لأحكام القرآن ـ القرطبي ـ تحقيق د. محمد إبراهيم الحفناوي ود. محمود حامد  عثمان ـ دار الحديث ـ القاهرة ـ الطبعة الثانية ـ 1996م ـ مج 9-10 ج9 ص200 .

      قال الحافظ عماد الدين ابن كثير:

       "ولما ظن يوسف عليه السلام أن الساقي ناج قال له يوسف خفية عن الآخر والله أعلم لئلا يشعره أنه المصلوب قال له "اذكرني عند ربك" يقول اذكر قصتي عند ربك وهو الملك فنسي ذلك الموصى أن يذكر مولاه الملك بذلك (..) هذا هو الصواب أن الضمير في قوله  فأنساه الشيطان ذكر ربه" عائد على الناجي كما قاله مجاهد ومحمد بن إسحاق وغير واحد ويقال إن الضمير عائد على يوسف عليه السلام رواه ابن جرير عن ابن عباس ومجاهد أيضا وعكرمة وغيرهم وأسند ابن جرير ههنا حديث فقال: حدثنا ابن وكيع حدثنا عمرو بن محمد عن إبراهيم بن يزيد عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعا قال: قال النبي صلي الله عليه وسلم لو لم يقل يعني يوسف الكلمة التي قال ما لبث في السجن طول ما لبث حيث يبتغي الفرج من عند غير الله وهذا الحديث ضعيف جدا لأن سفيان بن وكيع ضعيف وإبراهيم بن يزيد هو الجوزي أضعف منه أيضا وقد روي عن الحسن وقتادة مرسلا عن كل منهما وهذه المرسلات ههنا لا تقبل لو قبل المرسل من حيث هو في غير هذا الموطن" أهـ. تفسير القرآن العظيم ـ ابن كثير ـ  تحقيق د. محمد إبراهيم البنا ـ الطبعة الأولى ـ 1998م ـ ج4 ـ ص1843.

      قال العلامة السعدي:

      " أي:{ وَقَالَ } يوسف عليه السلام:{ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا } وهو: الذي رأى أنه يعصر خمرا: { اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ } أي: اذكر له شأني وقصتي، لعله يرقُّ لي، فيخرجني مما أنا فيه، { فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ } أي: فأنسى الشيطان ذلك الناجي ذكر الله تعالى، وذكر ما يقرب إليه، ومن جملة ذلك نسيانه ذكر يوسف الذي يستحق أن يجازى بأتم الإحسان، وذلك ليتم الله أمره وقضاءه"أهـ.  تيسير الكريم  الرحمن في تفسير كلام المنان  ـ السعدي ـ مركز صالح بن صالح الثقفي ـ بعنيزة ـ السعودية ـ 1987م ـ ج 4 ص 30.

      قال العلامة جمال الدين القاسمي:

      "دلت الآية على جواز الاستعانة بمن هو مظنة كشف الغمة، ولو كان مشركاً"أهـ محاسن التأويل ـ القاسمي ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ الطبعة الأولى ـ 1997م ـ  ج6 ص 179.

      أقول: لاحظ دقة عبارة العلامة القاسمي "وهو مظنة كشف الغمة، ولو كان مشركاً" .. فهؤلاء المسلمون المسجونون في جوانتنامو وغيره من سجون في غمة لا يعلمها  إلا الله تعالى.. فماذا عساهم أن يخففوا عن أنفسهم بغية كشف هذه الغمة إلا أنه يجوزو لهم اللجوء إلى هذه المحاكمة الوضعية لعل الله يفرج عنهم ما حل بهم من كرب.

      قال العلامة الشوكاني في فتح القدير:

      "وذهب كثير من المفسرين إلى أن الذي أنساه الشيطان ذكر ربه هو الذي نجا من الغلامين: وهو الشرابي، والمعنى: إنساء الشيطان الشرابي ذكر سيده: أي ذكره لسيده فلم يبلغ إليه ما اوصاه به يوسف مع ذكره عند سيده، ويكون المعنى: فأنساه الشيطان ذكر إخباره بما أمره به يوسف مع خلوصه من السجن ورجوعه إلى ما كان عليه من القيام بسقي الملك، وقد رجح هذا بكون الشيطان لا سبيل له على الأنبياء"أهـ. فتح  القدير ـ الشوكاني ـ تحقيق سيد إبراهيم ـ مج 3 ـ دار الحديث ـ القاهرة ـ 2003م مج3 ص 37.

      أقول: ومما يدل على رجحان عود الضمير في (ربه) على ساقي الملك، قوله تعالى وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ) يوسف الآية 45 .. حيث ذكر الطبري في تفسيره:"قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وقال الذي نجا من القتل من صاحبي السجن اللذين استعبرا يوسف الرؤيا ، (وادّكر)، يقول: وتذكر ما كان نسي من أمر يوسف ، وذِكْرَ حاجته للملك التي كان سأله عند تعبيره رؤياه أن يذكرها له بقوله: اذكرني عند ربك، (بعد أمة)، يعني بعد حين"أهـ. الطبري ـ مج7 ـ ص 263.

      وهذا ما قاله أيضاً العلامة السعدي: (وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا) أي: من الفتيين، وهو: الذي رأى أنه يعصر خمرا، وهو الذي أوصاه يوسف أن يذكره عند ربه (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ ) أي: وتذكر يوسف، وما جرى له في تعبيره لرؤياهما، وما وصاه به، وعلم أنه كفيل بتعبير هذه الرؤيا بعد مدة من السنين فقال: { أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ } إلى يوسف لأسأله عنها"أهـ. تيسير الكريم  الرحمن في تفسير كلام المنان  ـ السعدي ـ ج 4 ص 30.

      الشاهد مما سبق

      أن نبي الله يوسف عليه السلام طلب من ساقي الملك الذي أفرج عنه أن يذكر قضيته التي حبس فيها ظلماً للملك.. ومعلوم أن ملك مصر في ذلك الوقت لم يكن مسلماً وذلك على رأي من قال إن ملك مصر أسلم فيما بعد وسلم الحكم ليوسف عليه السلام يتصرف فيها حيث يشاء. ومعنى ذلك أنه يجوز للمسلم أن يرفع مظلمته لكافر إن غلب على ظنه أن هذا الحاكم لا يظلم أحد عنده أو أن مظلمته ستزول أو تخفف من قبل هذا الحاكم غير المسلم.

      وقد أصر نبي الله يوسف ألا يخرج من السجن إلا بعد أن يسمع الملك قضيته ويحكم فيها ببراءته واستجاب الملك وعقد محكمة واستمع إلى الشهود وإلى زوجة الملك والنسوة ثم أصدر حكمه ببراءة يوسف عليه السلام.. ودليل ذلك قوله تعالى:

      (وَقَالَ ٱلْمَلِكُ ٱئْتُونِى بِهِ فَلَمَّا جَآءَهُ ٱلرَّسُولُ قَالَ ٱرْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَسْـَٔلْهُ مَا بَالُ ٱلنِّسْوَةِ ٱلَّـٰتِى قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ۚ إِنَّ رَبِّى بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌۭ . قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَ‌اوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِۦ ۚ قُلْنَ حَـٰشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوٓءٍۢ ۚ قَالَتِ ٱمْرَأَتُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْـَٔـٰنَ حَصْحَصَ ٱلْحَقُّ أَنَا۠ رَ‌اوَدتُّهُۥ عَن نَّفْسِهِۦ وَإِنَّهُۥ لَمِنَ ٱلصَّـٰدِقِينَ  ذَ‌لِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّى لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَا يَهْدِى كَيْدَ ٱلْخَآئِنِينَ) يوسف الآيات 50 إلى 52.

      قال الحافظ ابن كثير:

      "يقول تعالى إخبارا عن الملك لما رجعوا إليه بتعبير رؤياه التي كان رآها بما أعجبه وأيقنه فعرف فضل يوسف عليه السلام وعلمه وحسن اطلاعه على رؤياه وحسن أخلاقه على من ببلده من رعاياه فقال "ائتوني به" أي أخرجوه من السجن وأحضروه فلما جاءه الرسول بذلك امتنع من الخروج حتى يتحقق الملك ورعيته براءة ساحته ونزاهة عرضه مما نسب إليه من جهة امرأة العزيز وأن هذا السجن لم يكن على أمر يقتضيه بل كان ظلما وعدوانا فقال ارجع إلى ربك " الآية"أهـ تفسير القرآن العظيم ـ ابن كثير ـ ج4 ـ ص 1845.

      ودليل أن فعل يوسف عليه السلام كان ممدوحاً قال الحافظ ابن كثير:

      "وقد وردت السنة بمدحه على ذلك والتنبيه على فضله وشرفه وعلو قدره وصبره صلوات الله وسلامه عليه ففي المسند والصحيحين من حديث الزهري عن سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال "رب أرنى كيف تحي الموتى" الأية ويرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي" أهـ. تفسير القرآن العظيم ـ ابن كثير ـ ج4 ـ ص 1845.

      وفي صحيح البخاري في كتاب التعبير: أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « لَوْ لَبِثْتُ فِى السِّجْنِ مَا لَبِثَ يُوسُفُ ، ثُمَّ أَتَانِى الدَّاعِى لأَجَبْتُهُ » .

      قال الحافظ ابن عطية: "كان هذا الفعل من يوسف عليه السلام أناة وصبرا وطلبا لبراءة الساحة وذلك أنه - فيما روي - خشي أن يخرج وينال من الملك مرتبة ويسكت عن أمر ذنبه صفحا فيراه الناس بتلك العين أبدا ويقولون: هذا الذي راود امرأة مولاه فأراد يوسف عليه السلام أن يبين براءته ويحقق منزلته من العفة والخير وحينئذ يخرج للإحظاء والمنزلة فلهذا قال للرسول : ارجع إلى ربك وقل له ما بال النسوة. ومقصد يوسف عليه السلام إنما كان: وقل له يستقصي عن ذنبي وينظر في أمري هل سجنت بحق أو بظلم ونكب عن امرأة العزيز حسن عشرة ورعاية لذمام الملك العزيز له"أهـ المحرر الوجيز في تفسير القرآن العزيز ـ ابن عطية ـ دار ابن حزم ـ بيروت ـ  الطبعة الأولى ـ 2002م ـ ص 1000.

      قال العلامة الطاهر بن عاشور في التحرير والتنوير:

      "وقد أبى يوسف عليه السّلام الخروج من السجن قبل أن تثبت براءته مما رمي به في بيت العزيز، لأن ذلك قد بلغ الملك لا محالة لئلا يكون تبريزه في التعبير الموجب لإطلاقه من السجن كالشفيع فيه فيبقى حديث قرفه بما قرف به فاشياً في الناس فيتسلق به الحاسدون إلى انتقاص شأنه عند الملك يوماً ما، فإن تبرئة العرض من التهم الباطلة مقصد شرعي، وليكون حضوره لدى الملك مرموقاً بعين لا تنظر إليه بشائبة نقص. وجعل طريق تقرير براءته مفتتحةً بالسؤال عن الخبر لإعادة ذكره من أوله ، فمعنى {فاسألْه} بلَغ إليه سؤالاً من قِبلي. وهذه حكمة عظيمة تحق بأن يؤتسى بها. وهي تطلب المسجون باطلاً أن يَبقى في السجن حتى تتبين براءته من السبب الذي سجن لأجله، وهي راجعة إلى التحلي بالصبر حتى يظهر النصر".أهـ. التحرير والتنوير ـ ج6 ـ ص288.

      وأوضح الحفاظ ابن عطية في مدح النبي صلى الله عليه وسلم فعل يوسف:

      "وهنا اعتراض ينبغي أن ينفصل عنه، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما ذكر هذا الكلام على جهة المدح ليوسف، فما باله هو يذهب بنفسه عن حالة قد مدح بها غيره؟  فالوجه في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أخذ لنفسه وجها آخر من الرأي  له جهة أيضا من الجودة أي : لو كنت أنا لبادرت بالخروج، ثم حاولت بيان عذري بعد ذلك، وذلك أن هذه القصص والنوازل إنما هي معرضة ليقتدي بها الناس إلى يوم القيامة، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم حمل الناس على الأحزم من الأمور؛ وذلك أن تارك المتعمق في مثل هذه النازلة التارك فرصة الخروج من مثل ذلك السجن، ربما ينتج له من ذلك البقاء في سجنه، وانصرفت نفس مخرجه عنه، وإن كان يوسف عليه السلام أمن من ذلك بعلمه من الله  فغيره من الناس لا يأمن ذلك، فالحالة التي ذهب إليها النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه حالة حزم ومدح،  وما فعله يوسف عليه السلام صبر عظيم وجلد"أهـ. المحرر الوجيز في تفسير القرآن العزيز ـ ابن عطية ـ دار ابن حزم ـ بيروت ـ  الطبعة الأولى ـ 2002م ـ ص 1000.

      أقول: هكذا قد أفاد وأجاد الحافظ ابن عطية رحمه الله في قول الرسول صلى الله عليه وسلم : " لَوْ لَبِثْت فِى السِّجْنِ مَا لَبِثَ يُوسُفُ ، ثُمَّ أَتَانِى الدَّاعِى لأَجَبْتُهُ".. الحديث. فهذا من تمام رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم وشفقته على أمته فهو خاتم الأنبياء ولا نبي بعده يوضح للأمة مثل هذا الأمر الذي اتخذه نبي الله يوسف عليه السلام، واشتراطه ألا يخرج من السجن إلا بعد أن تظهر براءته.. فهذه حالة فريدة من الصبر والأناة والجلد قد لا تتوافر في معظم البشر إذا كانوا في مثل حالة يوسف عليه السلام، كما أن الناس يتفاوتون في صبرهم وتحملهم ومقاومتهم للسجن والظلم والقهر، فلذلك ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم تواضعاً منه وشفقة على أمته، بأنه إذا كان في مثل حال يوسف وكان في السجن ودعي للإفراج عنه لأجاب ثم بعد أن يخرج يشرح للناس مظلمته وما حدث له. وعليه فإن هؤلاء الشباب والشيوخ في جوانتنامو مسجونون مظلومون ولهم في نبي الله يوسف عليه السلام قدوة وأسوة.. فقد ذكر نبي الله يوسف من جملة الأنبياء الذين هداهم الله وأمر رسولنا محمدا صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهم في آيات نورانية من الذكر الحكيم : (وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيْنَـٰهَآ إِبْرَ‌اهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِۦ ۚ نَرْفَعُ دَرَجَـٰتٍۢ مَّن نَّشَآءُ ۗ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌۭ .وَوَهَبْنَا لَهُۥٓ إِسْحَـٰقَ وَيَعْقُوبَ ۚ كُلًّا هَدَيْنَا ۚ وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ ۖ وَمِن ذُرِّيَّتِهِۦ دَاوُۥدَ وَسُلَيْمَـٰنَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَـٰرُونَ ۚ وَكَذَ‌لِكَ نَجْزِى ٱلْمُحْسِنِينَ. وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلْيَاسَ ۖ كُلٌّۭ مِّنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ. وَإِسْمَـٰعِيلَ وَٱلْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًۭا ۚ وَكُلًّۭا فَضَّلْنَا عَلَى ٱلْعَـٰلَمِينَ. وَمِنْ ءَابَآئِهِمْ وَذُرِّيَّـٰتِهِمْ وَإِخْوَ‌ٰنِهِمْ ۖ وَٱجْتَبَيْنَـٰهُمْ وَهَدَيْنَـٰهُمْ إِلَىٰ صِرَ‌اطٍۢ مُّسْتَقِيمٍۢ . ذَ‌لِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهْدِى بِهِۦ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِۦ ۚ وَلَوْ أَشْرَكُوا۟ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا۟ يَعْمَلُونَ . أُو۟لَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ ءَاتَيْنَـٰهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْحُكْمَ وَٱلنُّبُوَّةَ ۚ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَـٰٓؤُلَآءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًۭا لَّيْسُوا۟ بِهَا بِكَـٰفِرِينَ . أُو۟لَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ ۖ فَبِهُدَىٰهُمُ ٱقْتَدِهْ ۗ قُل لَّآ أَسْـَٔلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ۖ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْعَـٰلَمِينَ) الأنعام الآيات من 83 حتى 90.

       

      ثانياً: إن بأرض الحبشة ملكاً لا يظلم أحد عنده:

      روى البيهقي بسنده عن الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهَا قَالَتْ : لَمَّا ضَاقَتْ عَلَيْنَا مَكَّةُ وَأُوذِىَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَفُتِنُوا وَرَأَوْا مَا يُصِيبُهُمْ مِنَ الْبَلاَءِ وَالْفِتْنَةِ فِى دِينِهِمْ وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لاَ يَسْتَطِيعُ دَفْعَ ذَلِكَ عَنْهُمْ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِى مَنْعَةٍ مِنْ قَوْمِهِ وَعَمِّهِ لاَ يَصِلُ إِلَيْهِ شَىْءٌ مِمَّا يَكْرَهُ مَمَّا يَنَالُ أَصْحَابَهُ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« إِنَّ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ مَلِكًا لاَ يُظْلَمُ أَحَدٌ عِنْدَهُ فَالْحَقُوا بِبِلاَدِهِ حَتَّى يَجْعَلَ اللَّهُ لَكُمْ فَرَجًا وَمَخْرَجًا مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ ». فَخَرَجْنَا إِلَيْهَا أَرْسَالاً حَتَّى اجْتَمَعْنَا بِهَا فَنَزَلْنَا ِخَيْرِ دَارٍ إِلَى خَيْرِ جَارٍ أَمِنَّا عَلَى دِينِنَا وَلَمْ نَخْشَ مِنْهُ ظُلْمًا. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ. سنن البيهقي الحديث رقم 18190.

       

      ثالثاً: مرافعة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه أمام ملك الحبشة:

      روى أبو القاسم سليمان بن محمد الطبراني في معجمه الكبير تحت عنوان:  "حديث جعفر بن أبي طالب مع عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد عند النجاشي" ثم ساق بسنده عن الشعبي عن عبد الله بن أبي طالب، عن أبيه قال : بعثت قريش عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد بهدية من أبي سفيان إلى النجاشي ، فقالوا له ونحن عنده : قد بعثوا إليك أناسا من سفلتهم وسفهائهم فادفعهم إلينا ، قال: لا، حتى أسمع كلامهم، فبعث إلينا فقال: ما تقولون ؟ قلنا: إن قومنا يعبدون الأوثان، وإن الله - عز وجل - بعث إلينا رسولا فآمنا به وصدقناه، فقال لهم النجاشي: عبيد هم لكم؟ قالوا: لا، قال: فلكم عليهم دين؟ قالوا: لا، قال: فخلوا سبيلهم، فخرجنا من عنده، فقال عمرو بن العاص: إن هؤلاء يقولون في عيسى غير ما تقولون، قال : إن لم يقولوا في عيسى مثل ما أقول لم أدعهم في أرضي ساعة من نهار، قال: فأرسل إلينا وكانت الدعوة الثانية أشد علينا من الأولى، فقال: ما يقول صاحبكم في عيسى ابن مريم ؟ فقلنا : يقول: "هو روح الله وكلمته ألقاها إلى العذراء البتول "، قال: فأرسل فقال: ادعوا فلانا القس وفلانا الراهب، فأتاه ناس منهم، فقال: ما تقولون في عيسى ابن مريم، قالوا: أنت أعلمنا فما تقول؟ فقال النجاشي وأخذ شيئا من الأرض ثم قال: هكذا عيسى، ما زاد على ما قال هؤلاء مثل هذا، ثم قال لهم: أيؤذيكم أحد؟ قالوا: نعم، فأمر مناديا فنادى: من آذى أحدا منهم فأغرموه أربعة دراهم، ثم قال: يكفيكم؟ فقلنا: لا، فأضعفها ، فلما هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة وظهر بها قلنا له: إن صاحبنا خرج إلى المدينة وهاجر وقتل الذين كنا حدثناك عنهم، وقد أردنا الرحيل فزودنا، قال: نعم ، فحملنا وزودنا وأعطانا، ثم قال: أخبر صاحبك بما صنعت إليكم، وهذا رسولي معك، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله ، وأنه رسول الله، وقل له يستغفر لي، قال : فخرجنا حتى أتينا المدينة فتلقاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاعتنقني فقال: "ما أدري أنا بفتح خيبر أفرح أو بقدوم جعفر " فسله ما صنع به صاحبنا، فقلت: نعم، قد فعل بنا قد فعل كذا وكذا، وحملنا، وزودنا، ونصرنا، وشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسوله، وقال: قل له يستغفر لي، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتوضأ ثم دعا ثلاث مرات: " اللهم اغفر للنجاشي" فقال المسلمون: آمين، قال جعفر: فقلت للرسول: انطلق فأخبر صاحبك ما رأيت من النبي صلى الله عليه وسلم"أهـ.  المعجم الكبير للطبراني تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي ـ ج25 ص 221 ، ص 222.

      أقول: الشاهد من هذه الرواية أن الصحابي جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ترافع أمام ملك الحبشة النجاشي ولم يكن قد أسلم الملك في ذلك الوقت، ولم يقل أنا لا أترافع أمام ملك كافر! فعمرو بن العاص رضي الله عنه كان في ذلك الوقت كافراً وكان مبعوث قريش إلى الحبشة  ويريد أن يتسلم هؤلاء الصحابة من ملك الحبشة ليعيدهم إلى مكة حيث الإيذاء والتعذيب وتعريضهم للفتنة في دينهم..

       

      رابعاً: دخول الرسول صلى الله عليه وسلم في جوار مشرك:

      فقد كان من أعراف وقوانين قريش قبل صدور الإسلام حق الجوار لمن يطلبه ودليل ذلك ما رواه البخاري في كتاب المغازي بسنده َعَنِ الزُّهْرِىِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ فِى أُسَارَى بَدْرٍ « لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِىٍّ حَيًّا ثُمَّ كَلَّمَنِى فِى هَؤُلاَءِ النَّتْنَى لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ» . وسبب قول النبي صلى الله عليه وسلم ذلك:

      ما رواه الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية بسنده:

      "ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة مرجعه من الطائف في جوار المطعم بن عدي، وازداد قومه عليه حنقا، وغيظا ، وجرأة، وتكذيبا، وعنادا. والله المستعان وعليه التكلان.  وقد ذكر الأموي في "مغازيه" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن أريقط إلى الأخنس بن شريق، فطلب منه أن يجيره بمكة، فقال: إن حليف قريش لا يجير على صميمها. ثم بعثه إلى سهيل بن عمرو ليجيره، فقال : إن بني عامر بن لؤي لا تجير على بني كعب بن لؤي. فبعثه إلى المطعم بن عدي  ليجيره، فقال : نعم، قل له فليأت. فذهب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبات عنده تلك الليلة، فلما أصبح خرج معه هو وبنوه ستة - أو سبعة - متقلدي السيوف جميعا، فدخلوا المسجد وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : طف. واحتبوا بحمائل سيوفهم في المطاف، فأقبل أبو سفيان إلى مطعم، فقال : أمجير أم تابع؟ قال: لا، بل مجير. قال: إذا لا تخفر. فجلس معه حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم طوافه ، فلما انصرف انصرفوا معه ، وذهب أبو سفيان إلى مجلسه. قال : فمكث أياما ثم أذن له في الهجرة، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة توفي المطعم بن عدي بعده بيسير"أهـ. البداية والنهاية ـ ابن كثير ـ تحقيق د.عبد الله بن عبد المحسن التركي ـ هجر للطباعة والنشر ـ الطبعة الأولى ـ 1997م ـ ج4 ص 343 (بتصرف)، ونفس هذه الرواية ذكرها ابن هشام في السيرة النبوية قريباً من هذه الألفاظ..

       وذكرها الحافظ ابن القيم في زاد المعاد بقوله: "ثم انتهى إلى مكة فأرسل رجلا من خزاعة إلى مطعم بن عدي: أدخل في جوارك ؟ فقال: نعم، ودعا بنيه وقومه فقال : البسوا السلاح، وكونوا عند أركان البيت فإني قد أجرت محمدا ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه زيد بن حارثة حتى انتهى إلى المسجد الحرام ، فقام المطعم بن عدي على راحلته فنادى: يا معشر قريش إني قد أجرت محمدا، فلا يهجه أحد منكم، فانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الركن فاستلمه، وصلى ركعتين، وانصرف إلى بيته، والمطعم بن عدي وولده محدقون به بالسلاح حتى دخل بيته"أهـ زاد المعاد ـ ابن القيم ـ مكتبة الصفا ـ القاهرة ـ الطبعة الأولى ـ 2002م ـ مج1-2 ـ ج2 ص 67.

       

      خامساً: دخل أبو بكر الصديق في جوار ابن الدغنة المشرك:

      كما ذكرنا آنفاً أن قوانين قريش الجاهلية كانت تجيز الجوار أو ما يسمى في عصرنا اللجوء السياسي.. فقد روى البخاري في صحيحه في كتاب الكفالة: حيث ساق بسنده عن عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ - رضى الله عنها قالت: "فَلَمَّا ابْتُلِىَ الْمُسْلِمُونَ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا قِبَلَ الْحَبَشَةِ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَرْكَ الْغِمَادِ لَقِيَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ - وَهْوَ سَيِّدُ الْقَارَةِ - فَقَالَ أَيْنَ تُرِيدُ يَا أَبَا بَكْرٍ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَخْرَجَنِى قَوْمِى فَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَسِيحَ فِى الأَرْضِ فَأَعْبُدَ رَبِّى. قَالَ ابْنُ الدَّغِنَةِ إِنَّ مِثْلَكَ لاَ يَخْرُجُ وَلاَ يُخْرَجُ، فَإِنَّكَ تَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَقْرِى الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ، وَأَنَا لَكَ جَارٌ فَارْجِعْ فَاعْبُدْ رَبَّكَ بِبِلاَدِكَ. فَارْتَحَلَ ابْنُ الدَّغِنَةِ ، فَرَجَعَ مَعَ أَبِى بَكْرٍ ، فَطَافَ فِى أَشْرَافِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَقَالَ لَهُمْ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لاَ يَخْرُجُ مِثْلُهُ، وَلاَ يُخْرَجُ، أَتُخْرِجُونَ رَجُلاً يُكْسِبُ الْمَعْدُومَ ، وَيَصِلُ الرَّحِمَ ، وَيَحْمِلُ الْكَلَّ، وَيَقْرِى الضَّيْفَ، وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ. فَأَنْفَذَتْ قُرَيْشٌ جِوَارَ ابْنِ الدَّغِنَةِ وَآمَنُوا أَبَا بَكْرٍ وَقَالُوا لاِبْنِ الدَّغِنَةِ مُرْ أَبَا بَكْرٍ فَلْيَعْبُدْ رَبَّهُ فِى دَارِهِ، فَلْيُصَلِّ وَلْيَقْرَأْ مَا شَاءَ، وَلاَ يُؤْذِينَا بِذَلِكَ، وَلاَ يَسْتَعْلِنْ بِهِ، فَإِنَّا قَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا ..." الحديث بطوله في البخاري رقم الحديث 2279.

       

      سادساً: حلف المطيبين وحلف الفضول:

      كان لقريش في الجاهلية حلف لنصرة المظلوم ونجدته وقد شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الحلف وهو غلام مع أعمامه، وحلف المطيبين وحلف الفضول مثل منظمات حقوق الإنسان في عصرنا..

      (أ) حلف المطيبين:

      لقد ذكر ابن إسحاق وأصحاب السير أن خلافاً حدث بين بني عبد مناف وبين بني عبد الدارالذين أرادوا أن يأخذوا مما كان جدهم الأكبر قصي جعل إلى عبد الدار؛ الحجابة واللواء والسقاية والرفادة، ورأوا أنهم أولى بذلك منهم فتفرقت قريش عند ذلك فكانت طائفة مع بني عبد مناف وطائفة مع بني عبد الدار فعقد كل قوم على أمرهم حلفاً مؤكاً على ألا يتخاذلوا، ولا يسلم بعضهم بعضا. وذكر لنا ابن هشام قصة الحلفين وسبب تسميتهما:

      بالنسبة لحلف المطيبين: "قال ابن هشام: فأخرج بنو عبد مناف جفنة مملوءة طيباً. فيزعمون أن بعض نساء بني عبد مناف أخرجتها لهم، فوضعوها لأحلافهم في المسجد عند الكعبة، ثم غمس القوم أيديهم فيها، فتعاقدوا وتعاهدوا هم وحلفاؤهم، ثم مسحوا الكعبة بأيديهم توكيداً على أنفسهم، فسموا المطيبين"أهـ  السيرة البنوية ـ ابن هشام  تحقيق مصطفى السقا والإبياري وشلبي ـ دار إحياء التراث العربي ـ بيروت ـ الطبعة الأولى ـ 1995م ـ ج1 ص 168.

      أما عن بني عبد الدارفقد عقدوا أيضاً حلفاً أطلق عليه حلف الأحلاف.. قال ابن هشام: "وتعاقد بنو عبد الدار وتعاهدوا هم وحلفاؤهم عند الكعبة حلفاً مؤكداً، على أن لا يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم بعضاً، فسموا الأحلاف"أهـ السيرة النبوية ـ ابن هشام ـ ج1 ص 168.

      وذكر ابن هشام أن الناس قد أجمعوا للحرب ثم تداعوا للصلح على أن يعطوا بني عبد مناف السقاية والرفادة، وأن تكون الحجابة واللواء والندوة لبني عبد الدار ففعلوا ورضي كل فريق وثبت كل قوم مع من حالفوا. ثم مرت أعوام وتحالفت قبائل من قريش فيما بينها وأسسوا حلف الفضول وكان من المشاركين فيه نفس جماعة المطيبين وحلف الأحلاف شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الحلف ومعه أبو بكر الصديق رضي الله عنه.

      (ب) حلف الفضول:

      "قال ابن هشام : وأما حلف الفضول فحدثني زياد بن عبد الله البكائي عن محمد بن إسحاق قال: تداعت قبائل من قريش إلى حلف، فاجتمعوا له في دار عبد الله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي، لشرفه وسنه، فكان حلفهم عنده: بنو هاشم، وبنو المطلب، وأسد بن عبد العزى. وزهرة بن كلاب، وتيم بن مرة فتعاقدوا وتعاهدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه، وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته، فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول. قال ابن إسحاق : فحدثني محمد بن زيد بن المهاجر بن قنفذ التيمي أنه سمع طلحة بن عبد الله بن عوف الزهري يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم ولو أدعى به في الإسلام لأجبت. " السيرة النبوية ـ ابن هشام ج1ص 169 ، ص170.

      أقول: وقد أثنى الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا الحلف.. فقد روى الإمام أحمد في مسنده بسنده عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنِ الزُّهْرِىِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « شَهِدْتُ حِلْفَ الْمُطَيَّبِينَ مَعَ عُمُومَتِى وَأَنَا غُلاَمٌ فَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِى حُمْرَ النَّعَمِ وَأَنِّى أَنْكُثُهُ ». رقم الحديث في المسند 1677. ورواه البخاري في الأدب المفرد بسند صحيح.

      أقول: معلوم أن حلفي المطيبين والفضول أسسهما سادة قريش وكبار مشركيها لنصرة المظلوم وأخذ حقه من الظالم، وأن أي إنسان كان في وسعه أن يلجأ إلى هذا الحلف الذي هو أقرب إلى محكمة بالمعنى المتعارف عليه حديثاً.. حيث تسمع دعوى الشاكي ويتم استدعاء المشكو في حق ثم بعد الاستماع إلى حجة الطرفين يحكمون بنصرة هذا المظلوم وأخذ حقه.. وقد مدح رسول الله صنيع هؤلاء المشركين في حلفهم وما أحب أن ينكثه ولو أعطي حمر النعم.. لماذا؟

      لأن صنيع هؤلاء المشركين في تحالفهم ونصرتهم للمظلوم لا يتعارض مع مقاصد الشريعة الإسلامية في إنصاف المظلوم ورفع الضرر عنه. وعلى ذلك من لجأ ضرورة إلى المحكمة الوضعية التي تحكم بغير الشريعة لاسترداد حقه ورفع الظلم عنه فليس من باب إرادة التحاكم إلى الطاغوت وإن كان في ظاهره صورة من صور التحاكم إلى الطاغوت.

       

      الاعتراض بالنسخ:

      فإن اعترض معترض وقال إن حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "شَهِدْتُ حِلْفَ الْمُطَيَّبِينَ مَعَ عُمُومَتِى وَأَنَا غُلاَمٌ فَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِى حُمْرَ النَّعَمِ وَأَنِّى أَنْكُثُهُ" نسخه حديث آخر رواه البخاري بسنده: عن عن إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ حَدَّثَنَا عَاصِمٌ قَالَ قُلْتُ لأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَبَلَغَكَ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « لاَ حِلْفَ فِى الإِسْلاَمِ » . فَقَالَ قَدْ حَالَفَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ قُرَيْشٍ وَالأَنْصَارِ فِى دَارِى . البخاري في الأدب رقم الحديث 6083.

      وفي رواية مسلم في حديث جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لاَ حِلْفَ فِى الإِسْلاَمِ وَأَيُّمَا حِلْفٍ كَانَ فِى الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَزِدْهُ الإِسْلاَمُ إِلاَّ شِدَّةً ». رواه مسلم في كتاب فضائل الصحابة. رقم الحديث 6628.

      أقول: إن دعوى النسخ غير مسلم بها لأنه يمكن الجمع بين الحديثين فمعنى لا حلف في الإسلام أي لاحلف على باطل ونصر الظالم في الإسلام.. أما ما كان من أمر الجاهلية وأحلافها من مكارم الأخلاق ونصر المظلوم فليس بمنسوخ.. وهكذا يكون النسخ على التحالف على الباطل، أما التحالف على نصر المظلوم وإعانته في استرداد حقه فهذا مقصد عظيم من مقاصد الإسلام ومكرمة كريمة باقية إلى قيام الساعة. ومصداقاً لما أقول: ما ذكره الحافظ ابن حجر العسقلاني في شرحه لحديث "لا حلف في الإسلام".

      قول الحافظ ابن حجر العسقلاني في حديث لا حلف في الإسلام:

      "قوله : (قلت لأنس بن مالك أبلغك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا حلف في الإسلام فقال: قد حالف النبي - صلى الله عليه وسلم - بين قريش والأنصار في داري ) ووقع في رواية أبي داود من رواية سفيان بن عيينة عن عاصم قال "سمعت أنس بن مالك يقول حالف " فذكره بلفظ المهاجرين بدل قريش، فقيل له أليس قال لا حلف في الإسلام؟ قال: قد حالف فذكر مثله وزاد مرتين أو ثلاثا، وأخرجه مسلم بنحوه مختصرا(..) وأما الحديث المسئول عنه فهو حديث صحيح أخرجه مسلم عن جبير بن مطعم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لا حلف في الإسلام ، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة. وأخرجه الترمذي من عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (..) وأخرج البخاري في " الأدب المفرد " عن عبد الله بن أبي أوفى نحوه باختصار، وأخرج أيضا أحمد وأبو يعلى وصححه ابن حبان والحاكم من حديث عبد الرحمن بن عوف مرفوعا (شهدت مع عمومتي حلف المطيبين، فما أحب أن أنكثه وحلف المطيبين).. كان قبل المبعث بمدة، ذكره ابن إسحاق وغيره، وكان جمع من قريش اجتمعوا فتعاقدوا على أن ينصروا المظلوم وينصفوا بين الناس ونحو ذلك من خلال الخير، واستمر ذلك بعد المبعث، ويستفاد من حديث عبد الرحمن بن عوف أنهم استمروا على ذلك في الإسلام، وإلى ذلك الإشارة في حديث جبير بن مطعم"أهـ فتح الباري شرح صحيح البخاري ـ ابن حجر العسقلاني ـ دار الفكر للبطاعة والنشر ـ بيروت ـ الطبعة الأولى ـ 1992 ـ مج12 ـ ص 128.

      ثم يجمع ابن حجر بين الحديثين بقوله:

       "وتضمن جواب أنس إنكار صدر الحديث لأن فيه نفي الحلف، وفيما قاله هو إثباته، ويمكن الجمع بأن المنفي ما كانوا يعتبرونه في الجاهلية من نصر الحليف ولو كان ظالما ومن أخذ الثأر من القبيلة بسبب قتل واحد منها ومن التوارث ونحو ذلك ، والمثبت ما عدا ذلك من نصر المظلوم والقيام في أمر الدين ونحو ذلك من المستحبات الشرعية كالمصادقة والمواددة وحفظ العهد، وقد تقدم حديث ابن عباس في نسخ التوارث بين المتعاقدين، وذكر الداودي أنهم كانوا يورثون الحليف السدس دائما فنسخ ذلك. وقال ابن عيينة: حمل العلماء قول أنس " حالف " على المؤاخاة. قلت : لكن سياق عاصم عنه يقتضي أنه أراد المحالفة حقيقة، وإلا كان الجواب مطابقا، وترجمة البخاري ظاهرة في المغايرة بينهما وتقدم في الهجرة إلى المدينة " باب كيف آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بين أصحابه " وذكر الحديثين المذكورين هنا أولا ولم يذكر حديث الحلف، وتقدم ما يتعلق بالمؤاخاة هناك. قال النووي: المنفي حلف التوارث وما يمنع منه الشرع، وأما التحالف على طاعة الله ونصر المظلوم والمؤاخاة في الله - تعالى - فهو أمر مرغب فيه" أهـ فتح الباري ـ مج12 ـ ص 128.

      قول العلامة ابن الأثير في الجميع بين الحديثين:

      قال ابن الأثير: "وفي حديث آخر (لا حلف في الإسلام) .. أصل الحلف: المعاقدة والمعاهدة على التعاضد والتساعد والاتفاق، فما كان منه في الجاهلية على الفتن والقتال بين القبائل والغارات، فذلك الذي ورد النهي عنه في الإسلام بقوله  صلى الله عليه وسلم: (لا حلف في الإسلام)، وما كان منه في الجاهلية على نصر المظلوم وصلة الأرحام؛ كحلف المطيبين، وما جرى مجراه، فذلك قال فيه  صلى الله عليه وسلم ( وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة).. يريد من المعاقدة على الخير ونصرة الحق. وبذلك يجتمع الحديثان، وهذا هو الحلف الذي يقتضيه الإسلام، والممنوع منه ما خالف حكم الإسلام" أهـ  النهاية في غريب الحديث والأثر ـ مجد الدين أبو السعادات محمد بن الأثير ـ تحقيق علي عبد الحميد ـ دار ابن حزم ـ الطبعة الأولى ـ 1421 هـ ـ ص 225.

      أقول: هكذا نسف علماؤنا دعوى النسخ.. والمعلوم أصولياً أنه طالما يمكن الجمع بين الحديثين إذا كانا متعارضين في الظاهر فلا وجه للنسخ.. وعلى افتراض أن هناك نسخاً فالمقصود أنه نسخ جزئي، وهو نسخ أي تحالف على باطل وعلى نصر القوي على الضعيف، ونسخ التعصب للظلم والطغيان .. أما التحالف على مكارم الأخلاق ونصر المظلومين من الظالمين فهذه محمدة ومنقبة؛ الإسلام أولى بها وأجدر.. والعجب العجاب في من يتمسك بنسخ النص السابق الوارد في حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه رغم أنهم يعتبرون أن التحاكم إلى الشريعة الإسلامية من أصل الدين ومن ثم فلا نسخ على قضية متعلقة بأصل الدين سواء قبل فتح مكة أو بعدها وسواء قبل الهجرة أو بعدها.. والذي جعلهم يقولون بالنسخ لينفوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أقر على حلف أسسه مشركون في الجاهلية كانوا ينصرون فيه المظلوم أي أن الناس كانوا يتحاكمون إلى هؤلاء المشركين لينصفوهم.. ورسول الله صلى الله عليه وسلم أثنى على هذا الحلف أي أنه صلى الله عليه وسلم أقر بهذه الصورة الواردة في حديث عبد الرحمن بن عوف وتمنيه صلى الله عليه وسلم أنه لو دعي إليه لأجاب.. وأنه ود ألا ينقضه لو أعطي حمر النعم.. فماذا عسا هؤلاء المعترضون أن يجيبوا؟! فلو قالوا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وحاشاه ذلك أثنى ـ على التحاكم بالطاغوت لكفروا وخرجوا من الإسلام! لذلك لما وقعوا في هذا المأزق لجأوا إلى دعوى النسخ رغم أنهم يعلمون حسب قولهم أن قضية التحاكم من أصل الدين؛ وأصل الدين لا نسخ فيه فهو من القضايا المحكمة إلى يوم القيامة.

       

      سابعاً: فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء:

      س 13: ما حكم تحكيم القضاء الأمريكي في النزاع بين المسلمين، أمور الطلاق والتجارة وغيرها من الأمور؟ 

      ج 13: لا يجوز للمسلم التحاكم إلى المحاكم الوضعية إلا عند الضرورة إذا لم توجد محاكم شرعية، وإذا قضي له بغير حق له فلا يحل له أخذه.  وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.  اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء .. بكر بن عبد الله أبو زيد  = صالح بن فوزان الفوزان  = عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ  = عبد العزيز بن عبد الله بن باز" أهـ . جزء رقم : 23، الصفحة رقم: 503.

      الشاهد في فتوى اللجنة قوله (إلا عند الضرورة)، وهذه الاستثناء يكاد ينطبق على حالة الشباب المعتقلين في جوانتنامو بغية رفع الظلم عنهم وشرح قضيتهم للرأي العام وإظهار ما وقع عليهم من ظلم وتعذيب فهم يستنصرون الرأي العام في الدفاع عن قضيتهم والضغط للافراج عنهم ولكي لا تموت قضيتهم بموتهم في غيابات السجون.

      ثامناً: فتوى الشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك:

      السؤال: لو حصل للمسلم خصومة في ديار الكفر أو ما يشابهها فهل يجوز أن يترافع للمحاكم الوضعية؟

      الإجابة: "الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده أما بعد: إذا اعتدى على الإنسان في بلاد الكفر في نفسه أو ماله أو حرمته فله أن يرفع قضيته لمن يرفع عنه الظلم أو يدفع عنه الظلم فإن الإنسان المظلوم له أن يستعين بمن ينصره من غير أن يعتدي على الظالم، وإذا كان يعلم أن جهة الترافع لحل الخصومة تعتدي على الظالم بزيادة فتغرمه فوق ما يجب عليه فليس للمظلوم أن يأخذ فوق حقه ولو حكمت له المحكمة بذلك، وليس هذا من التحاكم إلى الطاغوت، فإن الذين يتحاكمون إلى الطاغوت يفضلون حكمه على شرع الله ويرتضونه ويقبلون حكمه ولو علموا أنه مخالف لشرع الله فما يخالف شرع الله من أحكام الذ