فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      الحركة الإسلامية بين جوهر الكمال وعوارض النقص (4& 5)

      الحركة الإسلامية بين جوهر الكمال وعوارض النقص (4)

      تشوه نمطي الهروب والمواجهة, وفائدة ذلك في فهم تدهور التيار الإسلامي.

      إذا كان ما افترضناه صحيحا، من أن التيار العلماني والإسلامي يعبران عن نمطي هروب ومواجهة أمام «صدمة الهيمنة الغربية»، أو ما أطلق عليه: «صدمة الحداثة»، فإنه ينبغي أن نجد على أرض الواقع، تبعا لهذا الافتراض، نمط مواجهة  ممتلئ تماما مفاهيم الاستعلاء والتحدي، ويخلو تماما من أي نزعة تعايشية مع الغرب، ونمط هروب ممتلئ تماما بمظاهر الإعجاب بالغرب، ويخلو تماما من أي نزعة عدائية أو ممانعة أو استعصاء، وعلاقة بين هذين النمطين لا مكان فيها لأي تسوية أو قبول.

      غير أن العين لا تكاد تخطئ ذلك التشوه المتزامن والمتماثل والذي أصاب النمطين معا، وجعل كل منهما يفقد حدته أو نقاوته، ويتداخل مع النمط النقيض له مستعيرا منه بعض خصائصه دون حرج.

      وهي ملاحظة يجب علينا أن نعيرها ما تستحقه من اهتمام، ذلك أنها تقف بنا مباشرة أمام العلة الفاعلة لتدهور التيار الإسلامي، وذلك أنه إذا كان التيار العلماني متدهور هو أيضا بالنسبة إلى شكله الأصلي، وإذا كان هذا التدهور متماثل مع نظيره الإسلامي ومتزامن معه، فالنتيجة التي يمكن أن نظفر بها من ذلك هي أن تدهور التيار الإسلامي يعود في أسبابه إلى مرحلة نفسية هي مرحلة «ما قبل تجلي إرادة المواجهة في شكلها الإسلامي» ، أي يعود إلى إرادة المواجهة ذاتها كإرادة مواجهة، بل يعود إلى ما هو قبل ذلك أيضا، إلى «إرادة التكيف مع أزمة الغرب أساسا»، وذلك استنادا إلى ما أصاب نمط الهروب كذلك، أي أن النمطين باعتبار ما ينطويان عليه من نسب مشترك ومعنى واحد، وكونهما استجابة اجتماعية لمثير الهيمنة الغربية، يبدو أنهما واقعين معا تحت طائلة التدهور الحتمي.

      وقيمة هذه النقلة البعيدة التي تحولنا خلالها من فحص السلوك الإسلامي المباشر إلى فحص« إرادة المواجهة» نفسها، أي إلى «ما قبل تمظهر نمط المواجهة في شكله إسلامي»، ثم إلى «إرادة التكيف مع أزمة الغرب» مطلقا، قيمة هذه النقلة هي أنها تضعنا مباشرة أمام العلة الأبعد لتدهور التيار الإسلامي، وتجعلنا قادرين على أن نمس بأيدينا موطن الانحراف وبدايته، وتخفف عنا عبئ هذا الكم الهائل من التفسيرات المزيفة لهذا التدهور والتي تعتمد كلها على فحص «الأعراض» لا أصل العلة، من قصور النظرة الإسلامية وقصة الفيل والعميان الثلاثة، إلى الأمزجة الخاصة بمؤسسي التيارات، إلى الظروف الضاغطة للإسلاميين عموما، إلى الأنانية الفردية أو العمالة أو ما إلى ذلك. وكلها تفسيرات مزيفة تُفقِدنا البداية الحقيقية لسلسلة الأحداث النفسية عند التيار الإسلامي.

      مظاهر تشوه نمطي الهروب والمواجهة.

      رغم أن مضمون الظاهرة العلمانية هي الإعجاب بالغرب والنفور من التراث، إلا أنه من السهل علينا أن نسجل تشاركا علمانيا ذي طبيعة نضالية ضد ممارسات عدوانية غربية، أبرزها المشروع الصهيوني مثلا، على الأقل على المستوى الإعلامي؛ أيضا الموقف العلماني من التراث لم يعد بتلك الوقاحة التي بدأ بها، فمثلا: العاهة البصرية عند (طه حسين) لم تنجح تماما في خلق تيار أعمى في رفضه للتراث وفي قبوله لقيم الغرب، بل على خلاف ذلك، انحسرت إلى حد ما دعوى إعلان القطيعة مع التراث، ولم تعد هي السائدة في الخطاب العلماني العربي. نموذج (عبد الله القصيمي) و(سيد القمني) لم يعد هو النموذج الأمثل للمفكر العلماني في المنطقة العربية.

      لا يمكن تفسير ذلك على أنه نوع من انتصار لـ «نمط المواجهة» وحركة إحياء التراث، وذلك أن نمط المواجهة نفسه لم يعد بذلك الإخلاص المتوقع لنشأته كنمط مواجهة، فقد أصابه أيضا نوع من الشلل فقام بفرض حصارا داخليا حول كل المفاهيم المتعلقة بالصراع، فهذا الذراع الذي لم يخرج لحيز الوجود أصلا إلا لعصر عنق الهيمنة الغربية، قد أصبح مرتعشا لا يقوى على الفعل، لم يعد الإسلاميون يتعاملون مع المسألة الغربية بذلك الحسم المتوقع منهم. بعضهم أصبح تأكيده على قيم التعايش مع الغرب أكثر من تأكيده على ضرورة الاستعداد للتحدي الحضاري، وبعضهم عاش في حالة من (الجهل الاستراتيجي) بمفردات الصراع الثقافي مع الغرب، أيضا فالظاهرة الإسلامية أصبحت مترددة بشأن شرعية الأنظمة الموالية للغرب، وتميل إلى الإقرار له بالشرعية، ومترددة أيضا بشأن الفصيل الجهادي المشتبك عسكريا مع قوى الغرب ومع الأنظمة التابعة له، وتميل إلى التربص به ومحاصرته. وعلى مستوى القيم، فقد فرض الإسلاميون حصارا داخليا حول كل قيمة تسير بهم آجلا نحو المواجهة الحضارية، فُرِض حصار حول مفهوم (التكفير) كقيمة سالبة ضرورية لتحديد الهوية الدينية، كذلك مفهوم الجهاد كممارسة ضرورية للحفاظ على الوجود السياسي.

      إذا فهي عطالة وظيفية للنمطين معا وليس انتصارا لأحدهما على الأخر، هذه الحالة قد خلقت جوا من الفوضى توج فيما بعد بما يسمى بـ «اليسار الإسلامي» أو «الإسلام المعتدل » أو « الإسلام المستنير »، وهي كيانات رغم أنها تبدو (فكرية)، إذ عادة ما يسبق اسم رموزها كلمة (المفكر الإسلامي)، إلا أن كل صخبها وضجيجها (الفكري)! لا يعدو أن يكون قدرة لغوية على الجمع بين النقيضين: التوجه نحو التراث والتعايش مع الغرب، ذلك التراث الذي لم ينشأ في الوعي إلا كإمكانية لمواجهة الغرب، وذلك التعايش الذي هو صيغة (صيغة ديبلوماسية) لنزعة (الإعجاب بالغرب) والتي بدورها آلية لـ (الهروب من الغرب كخصم حضاري).

      ستجد دائما عند ذلك الكيان الهجين تلك العبارات ذات الشقين: « نحن نعتز بتراثنا لكن لا ننكر تراث الآخرين »، « نحن حداثيون لكننا نرفض الحداثة بشكلها الغربي »، « نحن نرفض الاستلاب النفسي بنوعيه: الاستلاب أمام الغرب أو أمام الأسلاف »، «كلا الأصوليتين خطر: الأصولية الدينية والأصولية العلمانية »، وهكذا.

      «الغرب الإسلامي» هو الاسم الذي أطلقه بعض كتابهم على ذلك الكيان، في إشارة صريحة إلى وضعهم الجغرافي باعتبار أن أغلبهم من شمال أفريقيا ويقعون في غرب المنطقة العربية، (محمد عمارة/الجابري/ أركون/ طه عبد الرحمن/ المرزوقي/ الغنوشي)، ولكن هذا الاسم أيضا يشير على المستوى النفسي وبشكل مضمر إلى الرغبة في المقاربة بين «الإسلام » وبين « الغرب».

      بالطبع لا يعنينا كثيرا تلك الفروق البينية عند أفراد ذلك الكيان، ولا يعنينا التفاوت في النسبة بين كمية المظاهر العلمانية والمظاهر الإسلامية بين أفراده، ولا يعنينا أيضا إن كان أحدهم لقح إسلاميته بمضمون علماني أو أن الآخر لقح علمانيته بمفردات إسلامية، فالمحصلة واحدة في النهاية، انظر مثلا إلى ذلك التطابق المدهش بين كتاب «الإسلام السياسي» لـ محمد سعيد العشماوي (العلماني) وبين كتاب «الدولة الإسلامية بين العلمانية والسلطة الدينية» لـ محمد عمارة (المفكر الإسلامي)، التطابق قد يصل إلى شبهة الاقتباس في الموضوعات وحتى ترتيبها داخل الكتاب، هذا ما نعنيه بوحدة المحصلة وهي تشوه نمطي الهروب والمواجهة وتداخل مظاهر كل منهما مع الآخر.

      تداخل نمطي الهروب والمواجهة.. تشوها وليس اعتدالا.

      إننا نهدف إلى رصد «تشوه أنماط التكيف العامة مع أزمة الغرب» باعتبارها مدخلا لرصد «تدهور التيار الإسلامي كنمط خاص هو نمط المواجهة»، لكن هذا الهدف يقف أمامه عائق هو تلك الفكرة الراسخة في الأذهان والتي تنظر لهذا التداخل بين الأنماط ليس على أنه «تشوها» للنمطين كما نفترض، بل على أنه «اعتدالا» بينهما، وبحسب هذه الفكرة: فلا يجوز لنا رصد «التدهور» من خلال «الاعتدال»، وبناءا عليه فكل ما يتبع دعوى «التشوه» من نتائج هي باطلة بالضرورة.

      الحقيقة أن ما ساعد على فكرة الاعتدال هو «الصواب النسبي» أو حتى «الصواب المطلق» لبعض السلوك الناشئ عن هذا التشوه والتداخل، فالتقارب العلماني مع التراث هو صواب في ذاته، يصعب أن يوصف بأنه تشوه حادث في العلمانية، كذلك فتبني الإسلاميين لفكرة التعايش مع الغرب هو صواب بالنسبة للعلمانيين يصعب وصفه بأنه تشوه حصل عند الإسلاميين.

      وهذا الضرب من التفكير يتجاهل أهمية تتبع المسار النفسي للسلوك، ومن ثم يغفل عن «الدلالة النفسية » له، ويمكن بسهولة إبراز الخلل المنطقي في فكرة الاعتدال هذه والناشئ عن ذلك التجاهل من خلال عدة أمرين:

      أولا: «التوحد بالمعتدي» و «الصراع معه» رغم أنهما يحققان وظيفة نفسية واحدة هي «نفي حالة الهزيمة»، أحدهما نفيا موضوعيا والآخر نفيا تخيليا، إلا أنهما ليس كل منهما طرف للآخر على متصل واحد حتى يمكن العثور بينهما على نقطة «توسط » أو «اعتدال»، فالاختلاف بينهما هو اختلاف كيفي وليس كمي، والعلاقة بينهما لا تماثل مثلا العلاقة بين طرفي (الإسراف والبخل) أو (التهور والجبن) حتى يكون بينهما توسط، بل هما مسلكين متناقضين تماما بحيث لا يمكن العثور بينهما على حالة «اعتدال». بمعنى أنني أستطيع أن أحب باعتدال، أستطيع أن أكره باعتدال، لكني لا أستطيع أن أمارس الاعتدال بالجمع بين مظاهر الحب ومظاهر الكراهية، فالتراث لم يظهر أمام الوعي إلا كأداة من أدوات المواجهة، والجمع بين التوجه نحو التراث وبين التعايش مع الغرب هو تشويه لـ (معنى) التوجه نحو التراث.

      ثانيا: يستحيل أن يكون «الاعتدال» قرارا نابعا من داخل أي من نمطي الهروب والمواجهة، بل تبقى دائما أي مقولة الاعتدال، وصفا خارجيا للتشوه الحادث، وصفا للمظاهر من خارجها، أما من داخل نمطي الهروب والمواجهة فيختفي تماما منطق الاعتدال هذا، لأن كلا من الهروب والمواجهة غريزتين تهدفان للبقاء وللوجود، وغريزة البقاء لا تعرف معنى الاعتدال، أي أن كل من النمطين ينظر للآخر على أنه حالة موت أو حالة عدم، وليس هناك توسط اختياري بين الوجود والعدم.

      وهذا ما يدعونا إلى التأكيد على أن «التداخل بين نمطي الهروب والمواجهة» ليست «قرارا داخليا عقلانيا بالاعتدال» ، لكنه «انفعال غير عقلاني بمؤثر خارجي» يجبر كلا النمطين على خيانة نفسه بدرجة أو بأخرى.

      الخلاصة

      ما نستطيع التأكيد عليه هو أن التدهور الحاصل في التيار الإسلامي يعود إلى تشوه حاصل في إرادة التكيف مع أزمة الغرب، وأن علينا أن نفحص أسباب هذا التشوه جيدا، حتى نصل إلى مبتغانا.

      الحركة الإسلامية بين جوهر الكمال وعوارض النقص (5)

      تعيين العلة الفاعلة لتشوه الأنماط والتي هي الفاعلة لتدهور التيار الإسلامي

      إذا كان مفهوم الاعتدال لا يصلح لتفسير ذلك التداخل والتشوه بين نمطي الهروب والمواجهة، فهو على الأقل يساعدنا في الكشف عن حقيقة ذلك التشوه، فهو يشير «ضمنيا» إلى الجهة المؤثرة والضاغطة على النمطين والمحدثة لهذا التشوه، إنها ببساطة تلك الجهة التي منحت «التشوه» لقب «الاعتدال».

      مقولة «الاعتدال» غالبا تعني: «التماثل مع الحالة الوسطى الفكرية والوجدانية للمجتمع»، وفيما يخص الأنماط فهي تعني: «تنازل النمط للمجتمع عن النقاط الحادة والجوهرية في منطقه الداخلي تحت تهديد فقدانه للمجتمع كبيئة حاضنة له». وهي حالة لا تثير الضيق أو القلق أو الإحراج داخل النمط لأنها تتسم بالبطئ والتواطؤ بين المجتمع والنمط على عدم سفورها وتمريرها بنوع من الخداع المتفق عليه. ولا تتبدى إلا في لحظات خاطفة تسودها رغبة عابرة في الصدق مع النفس، مثل تلك اللحظة التي أقدمت فيها الروائية الماركسية «أروى صالح» على الانتحار بعد نجاح المجتمع في ترويض النمط الماركسي وإجباره على خيانة نفسه، وبعد أن دونت تجربة خيانة النمط لنفسه في مذكراتها بعنوان «المبتسرون».

      فهذا التشوه ليس اعتدالا أو تقاربا بين النمطين، بل هو في حقيقته تقاربا بين كل نمط على حدة وبين المجتمع، يدل على ذلك ما نراه من أن العلاقة بين النمطين لا زالت كما هي: النفور التام والاتهام المتبادل بخداع المجتمع.

      إذا كانت «صدمة الهيمنة الغربية» والتي عانى منها المجتمع هي ما تفسر إخراجه لنمطي الهروب والمواجهة في البداية، فإن «صدمة الاغتراب عن المجتمع» والتي عانى منها كل من النمطين هي ما تفسير ما طرأ على كل منهما من تشوهات وتداخل بيني وخلو من المضمون.

      سبب ضغط المجتمع على نمطي الهروب والمواجهة رغم أنه هو من أفرزهما في البداية

      ولكن، كيف نزعم اضطراب العلاقة بين النمط وبين المجتمع، رغم أننا قد أكدنا في البداية أن المجتمع هو من أفرز النمط ليقوم بوظيفة معينة يحافظ من خلالها المجتمع على ذاته، فنمط المواجهة هو لحشد قوى المجتمع ضد الهيمنة الغربية، ونمط الهروب هو لتحويل الخصم الغربي إلى صديق وحليف ومثل أعلى.

      الحقيقة أن الوسيلتان اللتان قصد بهما المجتمع أن يحافظ على ذاته ضد أزمة «الهيمنة الغربية » هما وسيلتان متضاربتان أصلا، فمن يعزم على حشد طاقة العدوان ضد خصمه لا يمكن أبدا أن يلين معه لحظة واحدة بقصد أن يحوله من خصم إلى مثل أعلى صديق، لكن وجود النمطين معا في المجتمع يعني أمرا هاما، هو أن ذلك المجتمع متردد بشأن كل منهما، ولم يقرر المجتمع بعد أن يتبنى أحدهما وتماما ويتنكر للآخر إلى الأبد، فكل نمط هو أمام المجتمع ما بين قبول ورفض، ما بين رضا وسخط، ما بين دعم وخذلان.

      فمن جهة: الاستفزاز الغربي المستمر للمجتمع يفوت على المجتمع البيئة الملائمة للتوحد بالغرب كمثل أعلى صديق، لأن هذه البيئة تتطلب نوعا من الخصومة المستترة حتى يتمكن المجتمع من خداع نفسه فينكر وجودها أو يستطيع تبريرها، فيتخيل الغرب صديقا بأي شكل. ولما كانت خصومة الغرب تزداد سفورا يوما بعض يوم، فإن المجتمع غير قادر على منح نمط الهروب كل ثقته، ولا يزال ينظر للعلمانية نظرته لشيء غريب عنه، ولكنه يحتاج إليه لتبرير خديعة الإعجاب بالغرب.

      ومن جهة أخرى: فالمواجهة الصريحة مع الغرب أمر فوق طاقة المجتمع وفوق استعداده للتضحية، فهو لذلك عاجز عن منح نمط المواجهة كل ثقته، ولا يزال ينظر للإسلاميين نظرته لشيء غير مرغوب فيه، ولكنه يحتاج إليه كلما شعر بالمهانة أمام الغرب.

      والحاصل أن كل من النمطين يشعر تجاه المجتمع بالاغتراب بمقدار رفض المجتمع له، كما يشعر تجاه المجتمع بالألفة والحماية بمقدار قبول المجتمع له. لأن الشعور بالاغتراب هو «اللعنة» التي يصبها المجتمع على أي نمط هو غير راض عنه، و «الآلية» التي يسلكها المجتمع للتخلص من كل ما هو غريب عنه.

      علة أن المجتمع أكثر قسوة مع نمط المواجهة في مظهره الإسلامي مقارنة بنمط الهروب.

      قدمنا ما يدل على أن كلا من نمطي المواجهة والهروب يعاني من أزمة «اغتراب عن الواقع»، لأن المجتمع متردد بينهما، فكل منهما مرفوض من المجتمع من وجه، ومقبول من وجه آخر، وأن ذلك الاغتراب هو علة كل الانحرافات داخل النمط لأن النمط يتشوه ويخلي نفسه من مضمونه كسبا للقبول الاجتماعي.

      لكن ليس كل من النمطين سواء بالنسبة لأزمة الاغتراب عن الواقع، فصدمة «الاغتراب عن المجتمع» لدى التيار الإسلامي، أو تحديدا لدى «نمط المواجهة » هي أضعاف نظيرتها الواقعة على نمط الهروب، وذلك لسببين ، أحدهما متعلق بطبيعة المجتمع، والآخر متعلق بطبيعة التراث الإسلامي.

      السبب الأول: وهو المتعلق بطبيعة المجتمع، أن نزعتي الهروب والمواجهة ليستا متماثلتين كميا في المجتمع، فالمجتمعات هي أكثر نزوعا إلى الهروب. وابن خلدون عندما كان يتحدث عن ظاهرة «الاقتداء بالمتغلب» لم يكن يتحدث عن فصيل منزوي في المجتمع يمارس التوحد بالمعتدي في هدوء، بل كان في الحقيقة يتحدث عن "المجتمع المغلوب"، أي كان يعني أن تلك النزعة تستغرق كافة أفراده تقريبا. ولذلك يجدر بنا إذا كنا بصدد المقارنة بين قابلية المجتمع لكل من نمطي الهروب والمواجهة، ألا ننخدع بتلك العزلة الشعبية التي يعانيها التيار العلماني، لأن النمط نفسه أوسع انتشارا من غطاؤه الفكري المتمثل في فئة العلمانيين والتي لا تمثل مظهره الوحيد بأي حال من الأحوال، بل تمثل في نزعة الإعجاب بالغرب فقط ذلك الجزء المتحور إلى أفكار.

      أي مظهر من مظاهر الإعجاب بالغرب يشير إلى توفر مساحة لنمط الهروب أمام الغرب، وبالتالي يشير إلى أن هذه المساحة مملوءة نفورا من نمط المواجهة معه، الشعور بالكراهية لا يتواجد أبدا مع الشعور بالإعجاب (حتى لو توفرت أسباب طبيعية للإعجاب). ويمكن من خلال مظاهر الإعجاب بالغرب أن نستدل على مدى سيطرة نمط الهروب على المجتمع وتوغله في عقله الجمعي. ويمكن إدراك مدى كارثية الوضع برصد سلوكيات بعينها تبدأ بالاستعراض بالمفردات الأجنبية أثناء الكلام وتنتهي بتأييد المواقف السياسية للغرب ولو كانت مواقف موجهة ضد الأمة.

      هذا الإعجاب بالغرب قد يتوارى لحظيا خلف مشاعر سخط قد تنتاب عموم الناس من تصرف عدائي غربي سافر، لكن مشاعر السخط هذه لن تتجاوز كونها (حالا) وليست (مقاما) بالتعبير الصوفي، أي تبقى طارئة سطحية غير متأصلة في البناء النفسي للإنسان المعجب بالغرب. وغالبا ما تجد هذه المشاعر الساخطة تتحول من الغرب إلى الأسباب الداخلية للهزيمة، (التشتت العربي.. صدام حسين.. الحكام العملاء.. إلخ )، «نقد الذات» عادة ما يستخدم لا في «تقويم الذات» بل في «صرف الانتباه عن الآخر»، أما عند الاضطرار إلى الحديث عن العدوان الغربي فستجد ميلا غريبا إلى حصر ذلك العدوان في (دولة معينة) أو (إدارة معينة) في تلك الدولة، أو (إسم معين) في تلك الإدارة، لكنك لن تجد نفورا واضحا من (الحضارة الغربية) بشكل عام، أما لو فرض الحديث عن الميول الاستعمارية للغرب فستجد ما يشبه التبرير لتلك الميول (هذه طبيعة السياسية)، وستجد تلك العقليات ترتاح سريعا لأي اعتذار غربي، وتتمسك سريعا بأي بادرة أمل في تغيير إرادته العداونية (حسين أوباما سيحل الأزمة)، المهم أن مشاعر السخط هذه لن تتحول إلى نمط مستقر يعمل على تطوير نفسه في اتجاه المواجهة.

      وما يهمنا هنا من هذا الوضع الذي يبدو فيه نمط الهروب الحضاري مهيمنا على مجتمعاتنا بشكل عام هو وضع تلك الهيمنة على نمط المواجهة كأزمة نفسية هي اغتراب ذلك النمط عن المجتمع وظهوره كنغمة نشاز فيه. ويجب التذكير هنا أن هذا الاغتراب وبين نمط المواجهة وبين المجتمع هو أكبر مما قد نرصده داخل إطار الإدراك الواعي،

      السبب الثاني: وهو المتعلق بطبيعة التراث الإسلامي، لقد ذكرنا أن نمط المواجهة في أي مجتمع يتضمن حركة نحو تراث ذلك المجتمع، وحركة إحياء التراث تعني في سياقها الحضاري عملا من أعمال الحرب، وأن الإنسانية شهدت ذلك البعد الصراعي للتراث بوضوح من خلال النازية والفاشية والصهيونية وما صاحبهم من إحياء للتراث التيوتوني والروماني واليهودي.

      وهذا ما فعله مجتمعنا بعد تعرضه لأزمة الهيمنة الغربية، غير أن مجتمعنا قد فوجئ باختلاف جوهري وعميق يميز  التراث الإسلامي عن أي تراث إنساني آخر، فبعد أن هرع المجتمع إلى التراث بقصد الحفاظ على وجوده أمام الهجمة الغربية، إذا بهذا التراث هو نفسه مصدر تهديد للمجتمع.

      كل تراث إنساني يهدف إلى تمجيد الإنسان من حيثية معينة، إلا التراث الإسلامي الذي يؤكد على تمجيد الله سبحانه وتعالى، ولذلك ففي الوقت الذي لم يجد فيه أي مجتمع أي مشكلة في استدعاء تراثه، وجد مجتمعنا في التراث الإسلامي تكاليف هي أكثر وطأة عليه من وطأة الهزيمة أمام الغرب.

      فمجتمعنا يمجد ذاته، ومظهر تمجيده لذاته هو تشبعه بنمط «عبادة الحاكم» أو «النموذج الفرعوني»، وهو نمط متوغل داخل مجتمعنا منذ آلاف السنين، ومستقل في وجوده تماما عن أزمة الهيمنة الغربية، ومعاد تماما للتيار الإسلامي  ليس من حيث هو نمط مواجهة مع الغرب، لكن من حيث هو نمط معاد  للنموذج الفرعوني في الحكم.

      وتتبع أنت بنفسك هؤلاء الأفراد المتشبعين بالنموذج الفرعوني في السلطة، ومن العلامات التي تساعدك على العثور عليهم هو أن أفرادهم عادة ما يعشقون شخص عبد الناصر، تتبعهم وستجد ارتباطا دالا بين هذا النمط النفسي وبين معاداة كل ما هو إسلامي.

      وهذا النمط، أي نمط «عبادة الحاكم» شأنه شأن نمط التوحد بالغرب، غير محصور في فئة ظاهرة معروفة، لكنه منتشر في المجتمع كله انتشارا متفاوتا وضمنيا وغير واضح المعالم.

      وهكذا فوجئ التيار الإسلامي بأنهم في مجتمع ينفر منهم مرتين، مرة حين ينظر إليهم بعين الغرب فيشعرون تجاههم بأنهم مصدر التخلف، وتارة ينظر إليهم بعين الحاكم الإله فيرونهم كمتطاولين على أسيادهم ويستحقون منهم كل مكروه.

      رغم أن المجتمع نفسه كان يحتاج إليه في أزمته الأولى، لكن يبدو أن معاناته من الغرب هي أيسر عنده من إنكاره لذاته وتمجيده لله.

      الخلاصة

      أن التيار الإسلامي يعاني منذ نشأته من شعور جارف بالاغتراب عن المجتمع، شعورا يصل إلى درجة «الصدمة»، من حيث هو نمط مواجهة مع الغرب، ومن حيث هو نمط توحيدي قائم على إفراد الله تعالى بالعبودية، وأنه وجد في مجتمع يرفضه تماما.

      وأن «صدمة الاغتراب» هذه هي أكثر وقعا على «الأنا الإسلامية» من وقع «صدمة الهيمنة الغربية» على المجتمع، وأنه مثلما تكيف المجتمع مع صدمة الغرب بخلق نمطي الهروب والمواجهة، فإن نمط المواجهة نفسه قد تكيف مع أزمة الاغتراب عن الواقع بأنماط داخلية عرفت باسم «التيارات الإسلامية» والتي تحمل كل منها شكلا من أشكال التكيف.

      إننا نستطيع، بناء على ذلك، أن نصل إلى المستوى الأعمق في فهم الحركة الإسلامية، فقط علينا أن نرد كافة الأنماط الداخلية تلك إلى معنى التكيف مع صدمة الاغتراب.