فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      ثوابت التمكين الغائبة عن الأمة

      • التمكين
      • 3663 قراءة
      • 0 تعليق
      • 21:00 - 09 يونيو, 2009

      تعتمد الأمم في بناء حضارتها وتمكين وجودها بين الأمم والحضارات على مجموعة من الثوابت والمرتكزات تكون لها كقواعد البنيان التي تقوم عليها جدرانه وسُـقُفَهُ، والتي لا قيام للبنيان إلا بها وعليها. وهذه الثوابت – دينية كانت أو مدنية - تتغير من أمة إلى أمة وإن اشتركت الأمم في عدد منها تحتاجه كل أمة في بناء حضارتها كما يشترك كافة بني آدم في الحاجة إلى الهواء والماء للحياة، دون إعتبار للون أو جنس أو دين. من هذه الثوابت التي تشترك فيها الأمم والحضارات على إختلاف مكانها وزمانها ثابت "الحرية"، وثابت "العدل" وثابت "القـوة" على إختلاف في مصادرهما وحدودهما وتطبيقاتهما حسب المرجعية التي تتخذها كلّ أمة كمصدر لتشريعاتها، وما ينشأ عنهما من قواعد "الأمن" و"الرقي" و"الإستقرار". الأمم إنما تُأتي من القواعد، والخلل في هذه الثوابت المرجعية لا ينشأ عنه إلا زعزعة الأمة كما تتكسّر جدران البنيان حين تبدأ قواعده في التهدم.

      وهذه العناصر يجدها الباحث المدقق مبثوثة في كليات الشرائع، خاصة شريعة الإسلام الحنيفية، فترجع إليها مقاصد الشريعة وكلياتها العامة التي هي أعلى مرتبة مما تجده مبثوثا في مباحث أصول الفقه، والتي قامت عليها مباحث مقاصد الشريعة مما هو مبثوث في كتب العلماء الأقدمين كالجويني والعز بن عبد السلام والشاطبيّ والقرافي المالكيّ وغيرهم، وفي المباحث المعاصرة التي تناولت هذه المدونات بالشرح والتعليق.

      فالحرية والعدل هما حجرا الزاوية في بناء الأمة الإسلامية، كما جمعهما وعبّر عنهما الصحابيّ الجليل ربعيّ بن عامر: "جئنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد " مفهوم الحرية"، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة "الأمن والإستقرار"، ومن جَور الأديان إلى عدل الإسلام "العدل". كذلك قول الله تعالى: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة" على مستوى الأمة، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :"المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف"، والناظر في مجموع الأحكام الشرعية، جزئياتها وكلياتها يجدها ترجع بوجه أو بآخر إلى حفظ هذه المبادئ المرجعية في حياة الأفراد والأمم على السواء. كذلك فإن هذه العناصر ذاتها تجدها محفوظة معتبرة في الدساتير الوضعية قديماً وحديثاً لما هي عليه من ثبات واستقرار في الوعي الإنسانيّ على الجملة دون النظر إلى دين أو عرق، ومثالها في الملحق الأول للدستور الأمريكيّ “First Amendment” والتي تنص على حرية الدين والكلمة والصحافة، أو الملحق السادس “Six Amendment” والتي تنص على حق المتهم في محاكمة عادلة وسريعة بواسطة محلفين غير متحيزين. ونظرة إلى واقع الأمم العربية والإسلامية في عصرنا الحاضر يرى أنّ السقوط والإنهيار الذي بدا في كلّ ناحية من نواحي الحياة إن هو إلا إنعكاس للهجمة الشرسة المنظمة على هذه العناصر الأساسية في تركيب الأمة المتمثلة فيما أعطاها الإسلام من حرية وعدل وقوة، تؤدى إلى الإستقرار والرقي والأمن.

      فإن المؤسسات المدنية التي يفترض فيها أن تقوم على الحفاظ على وجود هذه العناصر وترقيتها وتنقيتها وإيجاد ما يدعمها ويكملها، ومقاومة ما يهددها ويضعفها وينتكس بها، تجد هذه المؤسسات قد صارت تقوم بعكس دورها بشكل تام، فهي تعمل على إضعاف هذه العناصر في الأمة وتغييبها والإتيان بكل مقياس يخذلها ويهلكها، وتقاوم كلّ عمل من شأنه أن يقوّيها ويرتقي بها ويحميها، يستوى في ذلك إن كانت المرجعية في هذه العناصر والثوابت مرجعية دينية، أو مرجعية علمانية وضعية، فالمهم هو دحض هذه المقاصد العامة والثوابت المكينة وهدمها بكل وسيلة ممكنة.

      فعنصر الحرية مثلا، قد غاب عن الواقع غياباً تاماً وأستُبدل بمؤسسات شكلية تكمم الكلمة وتئد الرأي وتخدم أرباب السلطة سواء في التشكيلات الحزبية التلفيقة أو في المؤسسات الصحفية الحكومية التي تقف على قمة هرم النفاق السياسيّ وتمثل عداءاً صريحاً للكلمة الحرة، أو في المؤسسات الإعلامية المسموعة والمرئية التي باتت عامل دمار خلقيّ ومركز تشويه للثوابت الإجتماعية التي شُيدت عليها الشخصية العربية في القرون الخمسة عشر الماضية. وعنصر العدل، الذي هو صنو الحرية ومسببها، قد غاب عن الحياة، بل أصبح غائباً حتى عن الوعيّ في الشخصية العربية، ولم تعد تتعرف عليه أو تدرك معناه وملابسات تطبيقه، وانضوت المؤسسات القضائية والتشريعية تحت جناح السلطة التنفيذية، فأصبح العدل هو ما تراه السلطة الحاكمة بعد أن تشرع له ما يبرره كما في حالة قانون الطوارئ وقانون الإرهاب.

      أما عنصر القوة، الذي هو أساس حفظ الحرية من العدو الخارجي أصالة، وحفظ العدل بضمان القدرة على تحقيقه، فقد تحول إلى ضعف مروّع في مواجهة العدو الخارجيّ، بل أصبح ضماناً لسيطرة العدو الخارجيّ على مقدرات الأمة، وإتجهت القوة إلى تكميم الحرية التي يفترض أنها ترعاها، وتخضيع الفرد لما يراد به وبالأمة.

      هذا الإنقلاب في المعايير الذي بدأت بوادره في محيط بلادنا الإسلامية منذ قرن من الزمان، وأصبح واقعاً حياً منذ أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، قد آتى أُكله الخبيث، فدمرت الشخصية العربية، واستُعبد الفرد وظُلم واستُبيح. وكما أنّ الناس لا تقوم لهم حياة دون الماء والهواء والغذاء، فالأمم لا تقوم لها قائمة بدون الحرية والعدل والقوة الحامية لهما. ومما لا شك فيه أنّ ما تعانيه أمتنا في هذا العصر يؤهلها، إن لم تدركها رحمة الله تعالى، إلى أن تلحق بالأمم المنقرضة والحضارات السالفة. وهو الأمر الذي يغيب عن بال سادة هذا الإنقلاب وسدنته، إذ هم لا يقدرون حقيقة ما ستؤول اليه حال هذه الأمة في حالة استمرار هذا العدوان على أصولها وثوابتها، وأنه لن تكون لهم بلاد يحكمونها ويحلبون ثرواتها في وقت أقرب مما يتخيلون.

      كما أنّ أبناء هذه الأمة ممن لا تزال لديهم القدرة على رؤية الطريق وتقدير العواقب ومثابرة المحن يجب أن يدركوا أنّ الأمر ليس مجرد نهب ثروات ومقدرات، وإنما هو هدم مبرمج ومنظم لكيان هذه الأمة من خلال تدمير ثوابتها التي ركزها الله سبحانه في فطر البشر حين خلقهم من نفس واحدة.

      نقلاً عن صحيفة المصريون الالكترونية