فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      طه جابر علواني - عقل البدعة وبدعة العقل - الجزء الثاني 6-8

      (6)

      وقبل أن نكمل حديثنا عن "تداخل الأديان" عند طه علواني، لا يسعنا إلا أن نشير إلى داهية أخرى من دواهي التجديد في الفكر الإسلامي!، وأقصد جمال البنا قبّحه الله وأخزاه وحشره أعمى في الآخرة كما هو أعمى عن الحق في الدنيا. فقد خرج أمس[1] هذاالزنديق بقول ليس بالجديد، بل هو قديم خبيث، أنّ المسلم إن ارتد إلى اليهودية أو النصرانية لم يكفر، بل يظل على الإسلام! وهي الخطوة التالية لإنكار حدّ الردة الذي يحاوله طه وأمثاله. وهو قول صدر من كائن لا يستحق تضييع الأوقات أو تسويد الصفحات في الردّ عليه، وكفاه ما سوّد هو من صفحات عمره البائس. فليكن في مثل هذا عبرة لمن لا يرى طريق الشرود والضلال الذي تؤدى اليه مثل هذه الإدعاءات التي يدثرها دعاتها برداء البحث والنظر، وهي عارية عن العقل والفهم.

      وعودة إلى طه علواني.

      يقرر الرجل في أسلوب ثعبانيّ ملتو: "ففي مراحل معينة تدخل بعض قضايا الأديان السابقة إلى الدين اللاحق بشكل أو بآخر، إما بعمليات التفسير والتأويل، أو من خلال عملية من الإيمان بالتواصل بين الأديان"

      أنظر إليه كيف يتدسس بكامات توهم العلمية والنظر إلى إيصال قضية تبديل الدين من خلال "التواصل"! ألا ما أرقها وأدسّها من كلمة، التواصل! والرجل خلط بين التواصل بين الثقافات المتداخلة وبين تلوث الدين بهذه الثقافات التي هي في غالبها عالة على دين الله الذي أرسل به إبراهيم ثم موسى ثم عيسى عليهم السلام، والذي أدى إلى هذه الأديان المسيحية واليهودية المحرفتين، ثم ختم سبحانه برسالة محمد صلى الله عليه وسلم التي لم تتبدل ولم تتواصل ولم يأتها الباطل من بين يديها ولا من خلفها سواء في قرآنها أو سنة رسولها التي ثبتت عنه والتي مهّد لنا فيها ثوابت الإيمان وصالح الأعمال في الدميا والآخرة. وقد أشرنا في كتابنا "مقدمة في أسباب إختلاف المسلمين وتفرقهم" إلى تأثير هذا التداخل بين الثقافات كاليونانية وأثرها في إنشاء علم الكلام وإعانة المعتزلة على تأصيل مذهبهم الذي يدعونه عقلا، وأثر الفارسية في إنشاء عقيدة الرافضة المجوسية وفكرتهم عن المهديّ التي بدّلوا فيها ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في عقيدة المهديّ الثابتة عند أهل السنة والجماعة. وما اقترفته الرافضة ليس "تواصلاً" بل هو تحريف بمعنى التحريف، وتبديل بمعنى التبديل، جاءت به الرافضة للحفاظ على تراثها الثقافي المجوسي. وليس ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتواصل بين الأديان، بل إن هذاا لتعبير ليس له حقيقة أصلاً، إلا للتهوين بما وراءه، وإنما هو التداخل بين الثقافات واسيراد الأفكار والعقائد الباطلة لتخريب دين الله سبحانه، وهو ما لم يحدث في دين الإسلام الذي يؤمن به أهل السنة إلا عند طه وأمثاله.

      ويقول طه :" نعم.. النصارى نقلوا عن طريق الثقافة الشفوية فكرة المخلص؛ وعقيدة المخلص منتشرة في اليهودية والنصرانية وبالتالي انتشرت في الجزيرة العربية قبل الإسلام {وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا} اليهود يستفتحون، تبعهم النصارى يستفتحون بالمخلص القادم الذي هو السيد المسيح، فدخلت إلينا فكرة المخلص.

      وأنا أقول: لو سلمنا بفكرة المخلص فأين ختم النبوة؟! " إنظر هداك الله إلى هذا الخلط والخبط! فما جاء في القرآن أنّ اليهود كانوا على علم بنزول محمد صلى الله عليه وسلم ليس إلا وليد عقيدة المخلّص التي كانت" منتشرة في اليهودية والنصرانية وبالتالي انتشرت في الجزيرة العربية قبل الإسلام" فهي إذن ليست عقيدة حقيقية! هكذا يتكشّف مخبوء هذا الرجل! الأمر ليس أمر السنّة، بل هو أمر كلّ ما لا يعجبه عقله المريض من عقائد يعجز عن التسليم بها، أو لا يجد لها في منظومته التجديدية موضعاً! ثم الرجل يهرف مرة أخرى بالربط بين المهدي الخليفة وبين ختم النبوة! ووالله إنه لأمر لو شرحناه لطالب الثالثة الإبتدائية لفهم عنا، ولكن هؤلاء هم "العقلانيون"! المهديّ – يا طه – ليس له في مجال النبوة ناقة ولا جمل! المهديّ – يا طه – ليس مخلّصاً كما تحب أن تدعوه لتربط بينه وبين الفكرة المسيحية أو مهدي الرافضة، المهديّ – يا طه – هو خليفة عادل يأتي بين يديّ السيح عليه السلام ليقرّ العدل ويحكم بالإسلام، على رغم أنفك وأنف أعداء الإسلام. ثم هو يخلط مرة أخرى بين الإسلام كما هو في عقيدة الفرقة الناجية، وبين ما استحدثته مبتدعة الصوفية من أفكار الحلول فيقول :" ولما دخل الفرس الإسلام وجاءوا من الخلفية الملكية التي تؤمن بأن الملك حينما يموت فأولى الناس به ابنه الذكر الكبير فقد أصبح من السهل جدًّا أن يقال لمن انتقل من الفرس إلى الإسلام إن سيدنا علي وهو زوج ابنته وتربى في حجره ولم يسرق ولم يسجد لصنم هو أولى.. فدخلت أيضا فكرة الحلول." وهو قول حق أريد به باطل، إذ أن أهل السنة لن يعتقدوا هذه الخرافات الرافضية المجوسية، ولكن هذا لا يعنى أن نرفض كلّ ما له وجه شبه بين ما يقوله المبتدعة وبين ما عليه أهل الفرقة الناجية مما ثبتت صحته عن رسول الله صلى اله عليه وسلم. ولا يفعل هذا إلا من ضاق أفقه وجفّت قريحته عن أن يتصور هذا التشابك العقائديّ وأن يفرّق بين الصحيح والسقيم من هذه الأفكار لا أن يرفضها جملة دون تمييز.

      ثم نعود إلى ما يراه طه في الحديث الشريف.

      (7)

      يقول الرجل: " رسول الله صلى الله عليه وسلم حدد الله تعالى مهمته بما يلي: "يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم" فيعلم الكتاب ويعلم الحكمة الكامنة فيه.

      سؤال* لكن أليست الحكمة هنا هي السنة كما نفهم؟

      - لا.. هذا تفسير الإمام الشافعي، ولكن الحكمة أيضا مفهوم مثل مفهوم الرفع الذي تحدثنا عنه في قضية عودة عيسى عليه السلام، مفهوم قرآني يحتاج إلى تحرير ولي محاولات في تحريره..

      وقد كتب بعض الناس في هذا كتابات، ولكن تحتاج إلى تحرير باعتباره مفهوما قرآنيا، والسنة لا يقال لها الحكمة؛ لأن الله سبحانه وتعالى استخدم كلمة السنة كثيرا في القرآن الكريم "سنة الله في الذين خلو من قبل" و"قد خلت من قبلكم سنن"، و"ولن تجد لسنة الله تبديلا" فما المانع أن يقول يعلمهم الكتاب والسنة”

      وقد حشد الرجل في هذه العبارة أخطاءً نحصيها عليه إن شاء الله. حدّد الرجل مهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإعلام بالقرآن وفي بيان الحكمة التي ينطوى عليها في منطوق آياته، دون أن يكون له دور مستقل في بيان أو تفصيل أو تقييد أو إلحاق، ثم بعد أن أنكر على الشافعي – كأنما هذا القزم قرين للشافعي فيستدرك عليه - أن تكون الحكمة الواردة في كلام الله تعالى عن مهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم "ويعلمهم الكتاب والحكمة" هي السنّة القولية والفعلية، وهي كلّ ما آتانا به رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في قوله تعالى :"وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا". ويبرر هذا الإنكار بأنّ السنة لا يصح أن يقال لها الحكمة! ونسأل: لماذا؟ فيقول: لأن كلمة السنّة قد استعملت في القرآن بمعنى الطريقة الماضية والعادة المستحكمة، فنقول لهذا الشرلتان: إن للكلمات معان و استعمالات أو أوضاع ثلاثة، الوضع الشرعي والوضع اللغوي والوضع العادي، تتقدم بعضها حسب هذا الترتيب إن توارد علي الكلمة أكثر من معنى، كما أنّ السياق يحدد الوضع الصحيح للكلمة، فمثلا كلمة الصلاة تعنى في الوضع اللغوي الدعاء، إلا أنّ الوضع الشرعيّ قد غلي عليها فأصبحت الصلاة تعنى ما فرضه الله سبحانه على عباده من ركوع وسجود خمس مرات في اليوم والليلة. إلا أن هذا لم يمنع أن تأتي كلمة الصلاة في القرآن بمعناها اللغوي قال تعالى في سورة التوبة 103"خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إنّ صَلاتكَ سَكَنٌ لهمْ" أي إدع لهم. ولتلحظ أنّ الإستعمال اللغوي لا يبعد كثيراً عن الإستعمال الشرعيّ بل هو عادة جزء منه، إذ الدعاء قطعة من الصلاة. فأن يأتي القرآن بكلمة في وضعها اللغوي أو في وضعها الشرعيّ فلا غرابة في ذلك إلا لمن لم يتحقق بالعلم من أولئك المدّعين. والحديث عن سنّة الله والسنن التي جرت على الأمم سابقها ولاحقها هو بالضرورة حديث عن السنّة بمعناها اللغوي أي الطريقة الماضية والعادة المستحكمة المستقرة. وسياق الآيات التي قرنت بين الكتاب والحكمة أي السنّة بمعنى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلّم تدلّ على سنّة تقترن في حكم طاعتها بحكم القرآن الكريم سواء كان ذلك ببيان أو تفصيل أو تقييد أو إلحاق. ثم يدلل طه على ما يريد بأن يقول " فما المانع أن يقول يعلمهم الكتاب والسنة"، فسبحان الله! يريد الرجل أن يتحكم فيما ينزّل الله من آيات، ثم نقول، وما المانع أن يقول "يعلمهم الكتاب والحكمة، بمعنى السنّة، والسنّة النبوية هي الطريقة التي سار عليها ومنهجه في البيان والتقييد والتفصيل، فلها صلة وثيقة بالمعنى اللغوي، فلا غرابة في استعمالها بهذا المعنى في القرآن. ويكون الأمر هو لماذا قال تعالى "يعلمهم الكتاب والحكمة" ولم يقل يعلمهم الكتاب والسنة؟ فغير أن الله سبحانه يقول ما يشاء، فإن السنّة النبوية أعلى درجات الحكمة، فهي تشمل ذلك المعنى الذي يريد أن يحجر عليه طه معنى السنّة ويشمل كذلك ما يريد أن ينزعه من معنى الحكمة وهو ما فصّله رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقيّده وبيّنه بما أوْحيَ اليه الله وبما فرض على المسلمين طاعته فيه طاعة مستقلة بقوله تعالى :"واطيعوا الله وأطيعوا الرسول" في طاعة مستقلة تنشأ من أنّ ما يأت به رسول الله صلى الله عليه وسلّم هو من عند الله. وهذا المعنى من الحكمة الذي أدركه الشافعيّ ومن بعده من أئمة المسلمين بلا خلاف هو أوسع وأعمق من مجرد ما أراد له طه وأمثاله من مبتدعة المعتزلة، وهو من ثمّ أليق بكلام الله سبحانه.

      ثم لا يفوتنا أن نشير إلى تدسسه في الحديث مرة أخرى حيث يقول "وقد كتب بعض الناس في هذا كتابات، ولكن تحتاج إلى تحرير" وشرح هذه الجملة هو أن أئمة أهل السنة – المشار اليهم ببعض الناس – قد دونوا في هذا المعنى – أي في أنّ الحكمة هي السنة وأنها مستقلة بالتشريع وأنها واجبة الإتباع – مما يحتاج إلى تحرير اي تبديل وتغيير، وكأن ما تفتقت عنه عبقريته من التحرير قد غفلت عنه عقول بن تيمية وبن القيم والشافعي وأحمد ومالك وغيرهم من أعلام العلماء وأئمة الدنيا!

      ثم ينتقل الرجل إلى ما اسماه "السنّة القرآنية".

      (8)

      والسنة القرآنية التي يقصدها طه هي ما يكون لها أصلٌ مقررٌ صريح في القرآن كما يراه طه، فمثلا طريقة الصلاة عنده هي سنة قرآنية، إذ هي توضيح رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة المنصوص عليها في القرآن، وهو وإن لم يتطرق لأمثلة دالة على ما يقول فإنه يمكن استنباط أنه يقصد ما جاءت به الأحاديث المتواترة لا غير، إذ يُشكل علينا أن نوفق بين رؤيته في إنكار أحاديث الأحاد وبين ما يراه في تقدير الزكوات التي جاءت بها أحاديث أحاد!

      ثم إن الرجل ليجرو على أن يدعى أنّ الإمام الشافعيّ يقول بقوله الخائب في إنكار حجية السنة، بل ويقرر أنه ذكر ذلك كتابه "الرسالة" حيث يقول على لسان الشافعيّ: .. .وما سنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ليس لله فيه حكم -يعني بخصوصه وليس حكما مطلقا- فبحكم الله سنه.." يعني بالكلي من القرآن{ وهذه الجملة الأخيرة تدل على منهج أهل البدعة في الإلتواء بالكلام ومرض الفهم السقيم، فالشافعي رضى الله عنه يقصد أن ما ورد من سنة رسول الله الي ثبتت عنه فهي واجبة الإتباع لأنه صلى الله عليه وسلم سنّها بما حكم به الله في قوله تعالى: "وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا"، وقوله تعالى :"ومن يطع الرسول فقد أطاع الله"، وغير ذلك من الآيات التي تقرر استقلالية السنة وحجيتها التي يقصد بها "فبحكم الله سنّه"، لا أن ما ثبت عن رسول الله مما ليس فيه نصّ قرآني خاص فهو مردود وإن صحّ، لأنه ليس من حكم الله!

      ثم نأتي أخيرا إلى ما نقله طه عما قال أنه تقرير الشاطبيّ في الموافقات: (السنة لا تستقل بإثبات الواجب والمحرم؛ لأن وظيفتها فقط تخصيص عام القرآن وتفسير مجمله وتقييد مطلقه، ويجب أن يكون ذلك بالأحاديث المتواترة لا الأحادية). والرجل كاذب مدلس فيما نقله عن الشاطبيّ، فإن قول الشاطبيّ كما جاء في ج3 ص12: " السنة راجعة في معناها إلى الكتاب فهي تفصيل مجمله وبيان مشكله وبسط مختصره"، وهو كلام ليس له صلة بما اختلقه طه المدلس كما يتضح من مجرد قراءة النصين، وسبحان الله العظيم، ألا يستحى هذا الرجل من مثل هذا التدليس الظاهر؟ ألا يعلم أنه هناك من الناس من يحمل كتاب الموافقات في صدره فلا يخيل عليه مثل هذا التدليس؟والأمر الذي يريد الشاطبيّ تقريره في هذا الباب هو بيان رجوع السنة الصحيحة إلى ما في الكتاب سواء بتفصيل المجمل أو تقييد المطلق أو بيان المشكل، وما كان ليس داخلا تحت هذه الأنواع الثلاثة فقد دلّ عليه القرآن بما جاء عن وجوب طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ذكرنا، وهو يبين أنّ الحديث عن إذا ما تعارض الكتاب والسنة وجب تقديم الكتاب لأنه كلية الشريعة ومصدرها الأول، ولكنه يقرر بعدها أنّ السنة الصحيحة وحيّ من الله كذلك ولذلك لا يمكن أن تعارض الكتاب، قال: "فإن الحديث إما وحي من الله صرف وإما اجتهاد من الرسول عليه الصلاة والسلام معتبر بوحي صحيح من كتاب أو سنة وعلى كلا التقديرين لا يمكن فيه التناقض مع كتاب الله لأنه عليه الصلاة والسلام ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى وإذا فرع على القول بجواز الخطأ في حقه فلا يقر عليه ألبتة فلا بد من الرجوع إلى الصواب والتفريع على القول بنفي الخطأ أولى أن لا يحكم باجتهاده حكما يعارض كتاب الله تعالى ويخالفه نعم يجوز أن تأتي السنة بما ليس في مخالفة ولا موافقة بل لما يكون مسكوتا عنه في القرآن إلا إذا قام البرهان على خلاف هذا الجائز وهو الذي ترجم له في هذه المسألة" ج3ص20. ويتضح من هذا أن الشاطبيّ يقصد ما وقع فيه الخلاف بين قطعيّ الكتاب وبين السنة، وهو ما لم يقع فيما صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم يبيّن الشاطبيّ بشكل لا مجال للتحريف أو للتخريف فيه ما قصده في بيان أنّ "في الوجه الذي دلّ فيه الكتاب على السنة، حتى صار متضمناً لكليتها"، قال الشاطبيّ:

      " إن للناس في هذا المعنى مآخذ: منها ما هو عام جدا وكأنه جار مجرى أخذ الدليل من الكتاب على صحة العمل بالسنة ولزوم الاتباع لها وهو في معنى أخذ الإجماع من معنى قوله تعالى { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين } الآية وممن أخذ به عبد الله بن مسعود فروى أن امرأة من بني أسد أتته فقالت له بلغني أنك لعنت ذيت وذيت والواشمة والمستوشمة وإنني قد قرأت ما بين اللوحين فلم أجد الذي تقول فقال لها عبد الله أما قرأت { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله } قالت بلى قال فهو ذاك وفي رواية قال عبد الله لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله قال فبلغ ذلك امرأة من بني أسد فقالت يا أبا عبد الرحمن بلغني عنك انك لعنت كيت وكيت فقال ومالي لا ألعن من لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله فقالت المرأة لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته فقال لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه قال الله عز وجل { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } الحديث { فخذوه } دون قوله { ولآمرنهم فليغيرن خلق الله } إن تلك الآية تضمنت جميع ما جاء في الحديث النبوي ويشعر بذلك أيضا ما روى عن عبد الرحمن بن يزيد أنه رأى محرما عليه ثيابه فنهاه فقال ائتني بأية من كتاب الله تنزع ثيابي فقرأ عليه { وما آتاكم الرسول فخذوه } الآية وروى أن طاوسا كان يصلي ركعتين بعد العصر فقال له ابن عباس اتركهما فقال إنما نهى عنهما أن تتخذا سنة فقال ابن عباس قد نهى رسول الله صلى لله عليه وسلم عن صلاة بعد العصر فلا أدري أتعذب عليها أم تؤجر لأن الله قال { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } وروى عن الحكم ابن أبان أنه سأل عكرمة عن أمهات الأولاد فقال هن أحرار قلت بأي شيء قال بالقرآن قلت بأي شيء في القرآن قال قال الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } وكان عمر من أولي الأمر قال عتقت ولو بسقط وهذا المأخذ يشبه الاستدلال على إعمال السنة أو هو هو ولكنه أدخل مدخل المعاني التفصيلية التي يدل عليها الكتاب من السنة ومنها الوجه المشهور عند العلماء كالأحاديث الآتية في بيان ما أجمل ذكره من الأحكام إما بحسب كيفيات العمل أو أسبابه أو شروطه أو موانعه أو لواحقه أو ما أشبه ذلك كبيانها للصلوات على اختلافها في مواقيتها وركوعها وسجودها وسائر أحكامها وبيانها للزكاة في مقاديرها وأوقاتها ونصب الأموال المزكاة وتعيين ما يزكى مما لا يزكى وبيان أحكام الصوم ومما فيه ما لم يقع النص عليه في الكتاب وكذلك الطهارة الحدثية والخبثية والحج والذبائح والصيد وما يؤكل مما لا يؤكل والأنكحة وما يتعلق بها من الطلاق والرجعة والظهار واللعان والبيوع وأحكامها والجنايات من القصاص وغيره كل ذلك بيان لما وقع مجملا في القرآن وهو الذى يظهر دخوله تحت الآية الكريمة { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم }.

      وقد روى عن عمران بن حصين أنه قال لرجل إنك امرؤ أحمق أتجد في كتاب الله الظهر أربعا لا يجهر فيها بالقراءة ثم عدد إليه الصلاة والزكاة ونحو هذا ثم قال أتجد هذا في كتاب الله مفسرا إن كتاب الله أبهم هذا وإن السنة تفسر ذلك وقيل لمطرف بن عبد الله بن الشخير لا تحدثونا إلا بالقرآن فقال له مطرف والله ما نريد بالقرآن بدلا ولكن نريد من هو أعلم بالقرآن منا وروى الأوزاعي عن حسان بن عطية قال كان الوحي ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحضره جبريل بالسنة التى تفسر ذلك قال الأوزاعي الكتاب أحوج إلى السنة من السنة إلى الكتاب قال ابن عبد البر يريد أنها تقضى عليه وتبين المراد منه وسئل أحمد بن حنبل عن الحديث الذي روى أن السنة قاضية على الكتاب فقال ما أجسر على هذا أن أقوله ولكني أقول إن السنة تفسر الكتاب وتبينه. فهذا الوجه في التفصيل أقرب إلى المقصود وأشهر في استعمال العلماء في هذا المعنىومنها النظر إلى ما دل عليه الكتاب في الجملة وأنه موجود في السنة على الكمال زيادة إلى ما فيها من البيان والشرح وذلك أن القرآن الكريم أتى بالتعريف بمصالح الدارين جلبا لها والتعريف بمفاسدهما دفعا لها وقد مر أن المصالح لا تعدو الثلاثة الأقسام وهى الضروريات ويلحق بها مكملاتها والحاجيات ويضاف إليها مكملاتها والتحسينيات ويليها مكملاتها ولا زائد على هذه الثلاثة المقررة في كتاب المقاصد وإذا نظرنا إلى السنة وجدناها لا تزيد على تقرير هذه الأمور فالكتاب أتى بها أصولا يرجع إليها والسنة أتت بها تفريعا على الكتاب وبيانا لما فيه منها فلا تجد في السنة إلا ما هو راجع إلى تلك الأقسام" ج3ص24-27 وقد أطلنا النقل عن الشاطبيّ لنبين ما قصده مما أراد أن يوهم به تدليس طه،وأن نبين كذلك أنّ الشاطبيّ كأهل السنة جميعا لا يقول بمثل هذا القول البدعيّ الذي عليه أمثال طه من حاملي جرثومة الإعتزال.

      ونكتفي فيما دوّنا من مقال في نقض ما قال طه ولعل الله سبحانه أن يجعل في المقال أداة يكفّ به أذى هؤلاء المبتدعين عن المسلمين، آمين

      د.طارق عبد الحليم

      [1] http://www.alarabiya.net/articles/2008/02/28/46273.html