فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      الهوية الوطنية وتهافتها؛ شرعيًّا وموضوعيًّا

      القضايا التي نستهدف تحريرها وتوضيحها في هذا المقال هي: 

       • بيان المعنى الحقيقي لمفهوم "الوطنيَّة" المعاصر[1] : بأنَّها ليست مجرَّد "حبِّ الوطن" الذي هو حاجة فطريَّة طبيعية، ولا مجرَّد الدِّفاع عن الأرض، بل تتضمَّن - في أساسها - مفاهيمَ مُناقِضةً أو مخالفةً للمفاهيم الشرعيَّة الإسلامية، سوف نبيِّنُها في سياق المقال، وإنَّ رفْضنا لهذا المفهوم المعاصر للوطنيَّة لا يعني رفْضَنا لحبِّ الوطن، أو الدِّفاع عن الأرض والمال والعِرْض.

       -• بيان عدم جواز دخول الوطنيَّة في مفهوم "الهُوِيَّة" عند المسلم؛ بسبب ما تُحْدِثه من غبش في مفهوم "الولاء"؛ سواء على المستوى الشعوريِّ أو السُّلوكي، وما تتسبَّب به من إضعاف فاعليَّة الهوية الإسلاميَّة كمحورِ استقطابٍ وحيد للأمَّة، وعاملٍ رئيسيٍّ في وحدتها؛ حيث يؤثِّرُ مفهوم الوطنيَّة المعاصر في زيادة عوامل تفريق الأمَّة إلى هُوِيَّات متعدِّدة، وكيانات متفرِّقة، ضعيفة وهزيلة.

       • رفع أهمِّ الالتباسات التي أحدثَها بعض المفكِّرين (من المدرسة "التوفيقيَّة" على وجه الخصوص) في موضوع الوطنيَّة، وعلاقتها بالإسلام.

       ولنبدأ بتعريف الوطنيَّة:

       تعريف الوطنية:

      مفهوم "الوطنية" مفهومٌ معاصر، لم يَرِدْ في تُراث المسلمين قبل التاريخ الحديث، ولا يشكُّ أحدٌ أنَّ هذا المفهوم قد دلف إلى العالَمِ الإسلامي والعربي مع تفكُّكِ الدَّولة الإسلاميَّة (العثمانيَّة)، ثُمَّ انهيارها وتفتيتها، وترسَّخَ في مرحلة "الاستعمار" وما بعدها على النَّحو الذي سُقْناه في مقال "الخلفيَّة التاريخيَّة لانحراف مفهوم الهويَّة"، فما هو المفهوم المعاصر الحقيقيُّ للوطنية؟

       تعدَّدَت تعريفات الوطنيَّة على النَّحو التالي[2] :

      أ- تُعرِّف الموسوعة العربية العالميةُ الوطنيةَ بأنَّها: تعبيرٌ قويم؛ يَعني حبَّ الفرد وإخلاصَه لوطنِه، الذي يشمل الانتماء إلى الأرض والناس، والعادات والتَّقاليد، والفخر بالتَّاريخ، والتفاني في خدمة الوطن.

       ب- وقيل: إنَّها الشُّعور الجمعي الذي يربط بين أبناء الجماعة، ويَملأ قلوبَهم بحبِّ الوطن والجماعة، والاستعداد لبذل أقصى الجهد في سبيل بنائهما، والاستعداد للموت دفاعًا عنهما.

       ج- وعرَّفَها البعضُ بأنَّها: تعني التعبير الصَّادق عن الانتماء للوطن بالقول والعمل، والإسهام الفعَّال في الدِّفاع عن الوطن ضدَّ أيَّة تحديات خارجيَّة، والإسهام في تقدُّمه ورِفْعته، وإعلاء شأنه بين الأوطان؛ وعليه فإنَّ مقياس الوطنيَّة هو: مقدار الرَّصيد الوطني الذي يُسجِّله كلُّ مواطن من أجل الوطن؛ بمعنى: أنَّ الفرد لا يكتسب الوطنيَّة إلاَّ بالعمل لصالح الوطن والجماعة معًا[3].

       فالوطنيَّة مفهومٌ مبنيٌّ على واقعٍ معيَّن، هذا الواقع هو الدَّولة القُطْريَّة، التي يرتبط فيها الناسُ بعضهم ببعض برابط "الوطنيَّة"، أو "المواطنة"، بغضِّ النَّظَر عن معتقداتهم ومِلَلِهم، وأفكارهم ووجهات نظرهم في الحياة.

       ففي التعريف "ب" يقول عنها: إنَّها: "الشُّعور الجمعيُّ الذي يربط بين أبناء الجماعة، ويملأ قلوبهم بحبِّ الوطن والجماعة"، فمحور الاستقطاب للجماعة وَفْق هذا التعريف هو "الوطن".

       وفي التعريف "ج" يقول: إنَّها "تعني التعبير الصَّادق عن الانتماء للوطن بالقول والعمل"، فمعيار الانتماء هو "الوطن"، والمنتمون إليه هم "الوطنيُّون" ومحور استقطابهم هو هذه الوطنيَّة التي تجمعهم.

       والقضيَّة أنَّ هذه المعاني كلَّها مرتبطةٌ بِمفاهيمَ حديثةٍ نشأَتْ في أوروبا في العصر الحديث، ودخلَتْ إلى العالم الإسلاميِّ على النَّحو الذي بيَّنَّاه في مقال "الخلفيَّة التاريخيَّة لانحراف مفهوم الهُوِيَّة"، فالعودة إلى النُّصوص الشرعية من القرآن والسُّنة، وإلى السِّيرة النبويَّة للدلالة على الأصل الشرعيِّ لمفهوم "الوطنيَّة" هي عمليَّةٌ "اعتسافية" تهدف إلى التوفيق بين هذا المفهوم وبين المفاهيم الشرعيَّة.

       مع أنَّ المسلم لم يُطالَب بأن يجد للواقع - أيًّا كان - متَّكأً من الأدلة الشرعيَّة، بل هو مُطالَبٌ أن يقيس كلَّ "واقع" مُحْدَثٍ بالمقياس الشرعيِّ بشكلٍ موضوعي؛ أيْ: بفهم الواقع على ما هو عليه، بالمعاني التي تشكَّل بها، ثُمَّ العودة إلى النصوص الشرعية لقياس "شرعيَّةِ" هذا الواقع من عدَمِها، ويكون وضعه الشرعيُّ واحدًا من خمس حالات: واجبٌ، أو حرامٌ، أو مكروهٌ، أو مندوبٌ، أو مباح.

       ولذا فإنَّنا في موضوع الوطنيَّة علينا أوَّلاً أن ننظر إلى واقعها المعاصر - مفهومًا وتطبيقًا - فنَسْتخلص معانِيَها كما هي على الحقيقة في الواقع، وكما هي عند القوم الذين ابتدَعوها ونشأَتْ عندهم، ثم نقيس هذه المعاني بمقياس "الشَّرع"، ونتبيَّنُ حينَها تَوافُقَها مع الشرع، أو مُجافاتها وتناقُضَها معه.

       وهذه هي الطريقة الشرعية للحكمِ على واقعٍ معيَّن، استجدَّ في حياتنا، أمَّا الطريقة "التوفيقيَّة" في البحث، والتي تقترب إلى أن تكون "إعطاء شرعيَّة" للواقع أكثر مِمَّا هي "قياسٌ لشرعيَّتِه" - أمّا هذه الطريقة، ففيها مجافاةٌ لِما تقرَّر عند علماء المسلمين من طُرق الاجتهاد الشرعيِّ منذ عصر الأئمَّة المجتهدين.

       ونحن في بحثنا هذا، ننتهج طريقةَ رصد المعاني المتشكِّلة في الواقع المعاصر - مفهومًا وتطبيقًا - وتجميعها وقياسها بالمقياس الشرعيِّ، فإنْ كانت مخالِفةً للشرع، بيَّنَّا ذلك بالأدلَّة القاطعة، وإنْ كانت غير مُخالِفة، بيَّنَّا ذلك.

       وإذا أردنا استخلاص المعاني التي تكرَّرَت وترسَّخَت في الواقع المعاصر حول مفهوم "الوطنيَّة"، نَخْرج بأسس ومحاور تُشكِّل صلب مفهوم الوطنية؛ بحيث إذا ما اختفَتْ هذه الأسس والمحاور لم يَعُد للوطنيَّة حقيقةٌ مَحسوسة غير العبارة! ونخرج بمعانٍ أخرى ارتبطَت بالوطنية، من دون أن تكون مِحورَها الأساسي، وإنَّما هي توابع لها.

       معاني الوطنيَّة في الواقع المعاصر:

      • المعنى الأبرز للوطنيَّة في الواقع المعاصر أنَّها محورُ انتماءٍ وولاء بين جماعةٍ من الناس، يجمعهم وطنٌ واحد، يحملون آمالاً وأهدافًا واحدة، فالوطن "هُوِيَّة" تشكِّل محور استقطابٍ لهم، بغضِّ النظر عن معتقداتهم ومِللهم وطوائفهم، ووجهات نظرهم في الحياة.

       • والوطنيَّة تأتي بمعنى وجود "واجبٍ وطني"، على جميع المواطنين في الدولة "القُطْرية" الالتزامُ به، ومعايير هذا الواجب الوطنيِّ تحدِّدها الجماعةُ البشرية التي تعيش في هذا القُطر أو ذاك[4] ، وهذا معنًى متكرِّر في مقولات النُّشطاء "الوطنيِّين"، وفي كتابات المفكِّرين، حتى "الإسلاميِّين" منهم؛ حيث يتمُّ التفريق بين "الواجب الدِّيني" وبين "الواجب الوطني" في الكثير من خطاباتهم، فالأوَّل واجبٌ يُحتِّمُه الشَّرع، والآخر واجب تحتِّمُه الوطنيَّة أو المُواطَنة!

       • وتندرج تحت مفهوم الوطنيَّة معانِي حبِّ الوطن، والشوق والحنين إليه، وما يقتضيه هذا الحبُّ والشوق والحنين من مشاعر، وما يدفع إليه من أعمالٍ يقوم بها المرءُ؛ كزيارة الوطن إنْ تغرَّب عنه، أو السعي للعودة إليه والسَّكن فيه، والدِّفاع عنه من الأخطار المُحْدِقة به، ومن الأعداء المتربِّصين به، ودفع المحتلِّين عنه.

       هذه هي المعاني البارزة لمفهوم "الوطنيَّة"، والتي نجدها حاضرةً بقوَّة في الحياة المعاصرة؛ بحيث لا مجال إلى إنكارها، وسوف نعالج كلَّ واحدة منها على حِدَةٍ؛ وفقًا للمنهج الذي بيَّنَّاه في هذا المقال.

       رَفْع الالتباس بين مفهوم "الوطن" ومفهوم "الدولة" أو "الكيان السِّياسي":

      ونحبُّ أن نشير إلى مُغالطةٍ عميقة تدور حول مفهوم "الوطن" عند دُعاة الوطنيَّة؛ فالوطن عندهم هو ذلك الكيان السِّياسي الذي تقوم فوقَه دولةٌ لها حدود مرسومة، دون الالتفات لمن رسم هذه الحدود؛ فهناك الوطن المصريُّ، والوطنيَّة المصرية، والوطن العراقي، والوطنية العراقية، والوطن السُّوري، والوطنية السورية، والوطن الفلسطيني، والوطنية الفلسطينيَّة، والوطن اللُّبناني، والوطنية اللبنانية.. إلخ.

       ولكن حينما عُدْنا إلى المعاجم العربيَّة، وجَدْنا الآتي:

      • الوَطَنُ: المَنْزِلُ تقيم به، وهو مَوْطِنُ الإنسان ومحلُّه؛ "لسان العرب".

       • الوَطَنُ، مُحرَّكةً ويُسَكَّنُ: مَنْزِلُ الإِقامَةِ، ومَرْبَطُ البَقَرِ والغَنَمِ، ج: أوطانٌ، وَوَطَنَ به يَطِنُ وأوْطَنَ: أقامَ، وأوْطَنَهُ وَوَطَّنَهُ واسْتَوْطَنَهُ: اتَّخَذَهُ وَطَنًا؛ "القاموس المحيط".

       فالوطن هو محلُّ الإقامة؛ أي: المكان الذي نقيم فيه ونَستوطنه، وهذا ينطبق على المدينة أو القرية، أو المنطقة التي يسكن فيها الإنسان ويقيم، وكلُّ ما لم يُقِمْ فيه ويستوطنه ليس بوطنٍ بالنسبة إليه، ولا فرق بين أن يكون هذا المكان الذي لم يُقِم به هو مدينةً واقعة داخل حدود الدولة التي تحكم بلادَه، أو مدينةً تقع خارج حدود تلك الدولة، بل إن الواقع يدلُّنا في أحيانٍ كثيرة على إنسانٍ نشأ متنقلاً في منطقة معيَّنة، ثم قامت الاتفاقيَّات الدوليَّة برسم حدود المنطقة التي كانت وطنًا له، وتقسيمها إلى قسمين؛ قسم يقع في الدولة "أ"، وقسم يقع في الدولة "ب"، فهل مجرد التقسيم وبقائه في الدولة "أ" يعني أنَّ المنطقة التي عاش فيها في الدولة "ب" لم تَعُد وطنه؟! وأن الأراضي التي تبعد عنه مئات الأميال في الدولة "أ" أصبحت وطنًا له لمجرَّد أنَّها واقعةٌ في "الدولة" التي تحكم بلاده؟!

       إن الدَّلالة اللُّغوية والموضوعية لكلمة "وطن" تُبيِّنُ خطأ سحب مفهوم الكلمة على الكيان السياسيِّ الذي تشكَّلَ بفعل عوامل مختلفة على أرض تَمَّ رسم حدودها واعتبارها "دولة"!

       وإسقاط مفهوم "الوطن" على "الكيان السياسيِّ" الذي يحكم البلاد، أو على "الدولة" ذات الحدود المرسومة هو سقوطٌ موضوعي وقعَ فيه دعاةُ الوطنيّة، وهو كذلك سقوطٌ على مستوى القِيَم؛ فالذي رسم حدود معظم الكيانات السياسيَّة، وأراد لها أن تكون "أوطانًا" ودُوَلاً ذات انتماءات خاصة هو الكافر المحتلُّ الذي استباح أرض المسلمين، وخصوصًا بعد انهيار الدولة العثمانيَّة، التي كانت تجمع أراضي هذه الدُّول تحت سيادة كيانٍ سياسي واحد.

       ولَم تعرف الأمَّةُ الإسلامية طوال تاريخها فكرةَ أن يكون لكلِّ إقليم أو منطقة من مناطق الدولة الإسلامية استقلالٌ وانتماء خاص، وأن يكون له كيان سياسي يصطبغ باسمه، مثل: العراق، يكون اسمه "دولة العراق"، وسُكَّانه هم العراقيُّون، ولهم انتماءٌ لوطنهم هذا؛ الذي هو العراق، وكذلك: مصر، يكون اسمها "دولة مصر"، وسكانها هم المصريُّون، ولهم انتماء خاص لوطنهم هذا؛ الذي هو مصر.

       فالذي يعيش في "الموصل" لا يسكن كلَّ أنحاء العراق حتى تُدْعَى "وطنًا" له، وكذلك "الطنطاويُّ" (نسبة إلى مدينة طنطا في مصر) لا يَسْكن كلَّ أنحاء مصر حتى تُدْعى "وطنًا" له! لم تعرف الأمة الإسلاميَّة طوال تاريخها انصراف مفهوم "الشعب" أو "الأمَّة" إلى حيِّزٍ جغرافي، مرسومٍ بحدود اصطناعيَّة، حتى لو رُوعيَت فيه اعتبارات البيئة، والتَّسميات التاريخية للمناطق، واللَّهجات، والعادات والتقاليد التي تتميَّزُ بها كلُّ منطقة.

       والواقع أنَّ فكرة الانتماء الوطنيِّ - باعتبار الوطن كيانًا سياسيًّا مرسومًا على مساحة جغرافيَّة - هي فكرة حديثة، تشكَّلَتْ في عهود الاحتلال في التاريخ الحديث؛ تأثُّرًا بثقافة المحتلِّ التي حملت مفاهيم الدَّولة القُطْرية والانتماء الوطني، ولعلَّ ما يَذْكره الدكتور عزمي بشارة[5] في مقالٍ له بعنوان "بيان قوميٌّ ديمقراطي" دليلٌ واضح على اعتراف دعاة الوطنيَّة والقومية أنفسهم بحداثة فكرة "الهوية الوطنيَّة"؛ حيث نشأَتْ في ظلال الواقع الاحتلاليِّ الحديث.

       يقول الدكتور عزمي: "وشعبُ فلسطين العربي هو نتاج التَّفاعل بين الحضارات في أرض فلسطين، وهو شعب الفلاَّحين، وشعب المدُن الذي بلْوَر هويَّته الوطنيَّة في ظلِّ الصراع مع الاستعمار والصِّهيَوْنية، هذا الصِّراع الذي أفرزَه التقسيم الاستعماريُّ لبلاد الشام"[6].

       فالدكتور عزمي يقرُّ بحداثة فكرة الهويَّة الوطنية، التي تُشكِّل فيها الرابطةُ الوطنية "هويَّةً" لدى مجموعة من البشر، ويقرُّ كذلك بأنَّ واقع التقسيم الاستعماري هو الذي أثَّرَ في بلورة هذه الهوية ونشأتها؛ ولذا فهي ليست هويَّةً أصيلة في الأمة الإسلامية، بل هي هويَّة دخيلة تشكَّلَتْ بفعل عوامل مختلفة، تَمَّ ذِكْرُها سابقًا[7].

       بل إنَّ الواقع يدلُّ على أنَّ بعض المناطق أو الولايات تمَّ تقسيمها إلى أكثر من "قُطْر" وأكثر من "وطن"؛ كالشام التي قُسِّمَت إلى سوريا ولبنان والأردن وفلسطين، والذي قام بتحديد هذه التقسيمات ورسَم حدودها هو الكافر المحتل، بُعَيْدَ سقوط الدولة العثمانيَّة عن طريق اتفاقيَّاته ومعاهداته، وأبرزها معاهدة "سايكس - يبكو".

       فواقع الدعوة إلى الوطنيَّة - باعتبار أنَّ هذه الدول والكيانات السياسية هي "أوطان" - أنَّها دعوة إلى إضفاء الشرعيَّة على تقسيمات أعداء الله الكُفَّار في بلاد المسلمين، فالتاريخ يبيِّن لنا أن الاستعمار المباشر لم يعد له مكانٌ في العالم الإسلامي والعربي؛ لأنَّه يذلُّ "الكبرياء القومي"، فتمَّت الاستعاضةُ عنه بفِكْرة الاستعمار غير المباشر، والذي يكون عن طريق تفتيت وَحْدة المسلمين وانتمائهم الواحد، إلى كياناتٍ شتَّى، وانتماءات شتَّى؛ بُغْيةَ السَّيطرة عليهم بواسطة حُكَّام عُمَلاء، يتمُّ نَصْبُهم وتوطيد العلاقات معهم، فاللُّقَيمات الصغيرة سهلةُ الازدِراد، بعكس اللقمة الكبيرة.

       ونقتبس بيانًا جيِّدًا حول ذلك للشيخ الدكتور غازي التوبة من مقالٍ له بعنوان: "الأمة الإسلامية وأخطار القُطْريَّة عليها"؛ إذْ يقول:

      "لكن وحدة الأمة تتعرَّض الآن إلى أخطر تهديدٍ على مدار القرون الماضية جميعها، وهذا التهديد جاء من الكيانات القُطْرية التي تسعى إلى تأسيسٍ ثقافي مستقلٍّ بِها؛ مما سيؤدِّي إلى تقسيم الأمَّة الواحدة إلى أممٍ متعدِّدة مختلفة، ولكن هذا التأسيس الثقافي للقُطرية مرَّ بمرحلتين:

      الأولى: مرحلة تقسيم الأمة الواحدة إلى أمِّتين: عربية وتركية، وقد جاء ذلك على يد دولة الاتِّحاد والترقِّي في عام 1908م من الجهة التركيَّة، وعلى يد الثورة العربية الكبرى عام 1916م من الجهة العربيَّة، ولم تستطع الثورة العربية أن تجمعَ ما كان متفرقًا، بل فرَّقَت ما كان مجموعًا في اتفاقية سايكس - بيكو وغيرها، ثم جاء التنظير القوميُّ على يد "ساطع الحصري"؛ ليرسِّخَ القُطرية، ليس لأنه أراد ذلك؛ بل لأنه جعل الأمَّة تقوم على عنصرَيِ اللغة والتاريخ، واستبعد الدِّين من عناصر تكوين الأمَّة، وهو في ذلك كان متابعًا النظرية الألمانيَّة، ولكنه نسي أننا لا نستطيع أن نفهم واقع الأمة التي تقطن العالم العربي إلا بالإسلام؛ لأنَّ الإسلام دخل كلَّ تفاصيلِ حياتها الفكرية والاجتماعيَّة والاقتصادية والسياسية إلخ...

       وإنَّنا إذا أرَدْنا أن ننتقل بهذه الأمَّة من واقع التَّجزئة إلى الوَحْدة، فلا بدَّ من الاعتراف بدور الإسلام في بناء الأمَّة، وتفعيل عناصره، وهو ما لم تَقُم به القيادات القوميَّة، فكان بروزُ القُطرية وترسُّخها، وصار الظنُّ عند عامة الناس بأنَّ التجزئة هي الأصل، والوحدة هي الطارئة، مع أنَّ العكس هو الصحيح.

       الثانية: مرحلة التأسيس الثقافي المستقلِّ لكلِّ قُطْر: اتَّخذ دعاةُ القُطرية عدمَ التقدُّم باتِّجاه الوحدة خلال القرن الماضي حجَّةً من أجل اعتبار الوحدة خيالاً ووَهْمًا، واتَّخذوا ذلك أيضًا ذريعةً من أجل الترويج للقُطرية والتأسيس الثقافي لها، والذي تجلَّى في عدة عوامل، منها: طباعة كتب المؤرِّخين الذين تناولوا تاريخ القُطر، وإبراز الرحَّالة الذين مرُّوا به وكتبوا عنه، وتعظيم رموز الأدب والشِّعر المرتبطين به، وتزكية تاريخه السابق على الإسلام؛ كالتاريخ الفرعوني، والبابلي، والكَلْداني، والآشوري، والبربري، والسيرياني، والفينيقي، وإنشاء مراكز ومؤسَّسات تَرعى ذلك التاريخ إلخ...

       ويرافق كلَّ ذلك الاهتمامُ باللُّغة العاميَّة، والاهتمام بالشِّعر الشعبي، والترويج لشعرائه ودواوينهم، والاهتمام بالعادات والتقاليد، والفولكلور الشعبي الخاصِّ بذلك القُطر، وإنشاء المتاحف الخاصة به إلخ...

       ليس من شكٍّ بأن هذا التأسيس الثقافيَّ المستقل لكلِّ قُطر على حِدَة يتقاطع مع الوحدة الثقافيَّة التي عرفَتْها الأمة على مدار تاريخها السابق، وهو في حال استمراره ونجاحه، فإنَّه سيؤدِّي إلى أخطر ما واجهَتْه أمتنا على مدار تاريخها السابق، وهو تحويل الأمة الواحدة إلى أمم متعددة"[8].

       ويقول أيضًا في مقالٍ له بعنوان: "تهديد هُويَّة أمَّتِنا قديمًا وحديثًا": "والأخطر في قضيَّة القُطرية هو تحويل هذه الأقطار إلى أممٍ مستقِلَّة، وهذا ما يعمل عليه الغربُ ودُعاة القطريَّة، فهم يؤصِّلون لهذه القطريَّة في مختَلِف المجالات؛ الثقافيَّة، والاقتصادية، والسياسية... إلخ؛ لتصبح هناك أمَّة أردنيَّة، وهناك أمة عراقيَّة، وهناك أمة مصريَّة، وهناك أمة سوريَّة... إلخ، ولتصبح الحدودُ القائمة بين هذه الدُّول حدودًا نهائيَّة، كالحدود بين دولتَي فرنسا وألمانيا مثلاً، وهذا ما تُراهن عليه المُخطَّطات الخارجيَّة؛ من أجل إنهاء وجود هذه الأمَّة الواحدة"[9].

       فواقع الأمر أنَّ تسمية هذه الكيانات "أوطانًا"، والدعوة إلى ترسيخ الانتماء إليها عند المسلمين - هو إضفاءٌ للشرعيَّة عليها، وهي أساسًا ساقطةُ الشرعيَّة؛ فالله - سبحانه وتعالى - نهى عن التفرُّق، وكذلك رسوله الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم - كما مرَّ معَنا في مقال: "الهويَّة والشرعية"[10].

       وهذه الكيانات إنَّما هي مِن صُنْع المحتلِّ الكافر، عدوِّ الأمَّة، والعامل على تفريقها وإفشال نهضَتِها، فكيف يجوز للمسلم أن يُضفي الشرعيَّة عليها، مع العلم بأنَّه لا شرعيَّةَ لها، كما تدلُّ النصوص الشرعيَّة الحاسمة؟![11]

       وقد يكون مَن يقطن خارجَ حدود الدولة التي نسكن فيها شخصٌ "مسلم"، وداخل هذه الحدود يقطن "كافر"، فهل ننتمي إلى كلِّ مَن يقطن داخل هذه الحدود التي رسمَها أعداءُ الأمَّة؛ لمجرَّد أنه وُلِد داخلها، بغضِّ النَّظَر عن معتقَدِه ودينه، مسلمًا كان أم كافرًا، ونفضِّلُه في الانتماء على المسلم الذي يَقْطن خارجها؟! أيُّ خبَلٍ يبرِّر هذا الأمر؟! وأيَّة انتكاسة حلَّتْ بالمسلم الذي يحمل هذا المعيارَ الزائف؟! بل حتى لو حيَّدْنا عامل الدِّين، وتعامَلْنا بمصطلحاتِ مَن يتحدَّث عن الثقافة الواحدة، والعادات والتقاليد، واللهجات الواحدة التي تكون في دولةٍ معيَّنة، وبناء عليها تمَّ رسْمُ الحدود، نقول لهؤلاء: إنَّ الواقع يدلُّنا على أنَّ الكثير من الناس الذين يَقْطنون في دولة معيَّنة تكون عاداتهم وتقاليدهم وثقافتُهم أقربَ إلى سُكَّان دولةٍ أخرى من سُكَّان نفس الدولة، وهذا واقعٌ مُشاهَد في بعض المناطق، حيث تتقاربُ اللَّهجات والعادات والتقاليد، بل والأنساب[12] في المناطق الحدوديَّة رغم فاصلِ الحدود، وتتباعد وتختلف مع سُكَّان آخرين، رغم أنَّهم يَسْكنون داخل حدود نفس الدولة، ولكنَّهم بعيدون جغرافيًّا، وثقافتهم وعاداتهم وتقاليدهم مغايرة.

       فعلى الرغم من أنَّ راسم حدود هذه الكيانات - التي سُمِّيَت دولاً وأوطانًا - راعَى وجود بعض الفوارق في اللَّهجات التي تتميَّز بها مناطق معيَّنة، وتختلف عن غيرها، وبعض الفوارق في العادات والتقاليد، نقول: على الرغم من مراعاة المحتلِّ الراسم للحدود لهذه الفوارق، وسَعْيه الدَّؤوب إلى تعميقها وتجذيرها في الأمَّة الإسلامية، فإنَّ الواقع لا يزال يَنْضح بأمثلةٍ كثيرة تبيِّن خطأ هذه التَّقسيمات باعتبارات الثقافة واللهجات والعادات والتقاليد، فضلاً عن سقوط الشرعيَّة عنها كما بيَّنا سابقًا.

       والخلاصة: أنَّ مصطلح "الوطنيَّة" وإنْ كانَ مشتقًّا من كلمة "وطن"، فمعناه الحقيقيُّ وواقعه التطبيقي مغايران تمامًا لمدلول كلمة "الوطن"، ويحمِّلانها ما لا تدلُّ عليه لغويًّا.

       رفع الالتباس بين مفهوم "الوطنيَّة" و "حبِّ الوطن":

      وهناك من يظنُّ أن الوطنيَّة هي مجرَّد "حبِّ الوطن"، أو أنَّ محبَّ وطنه هو بالضرورة "وطنيٌّ"، والحقيقة أنَّه قد جانبَ الصَّواب في ظنِّه هذا؛ وذلك لاعتبارين أساسِيَّيْن:

      الاعتبار الأول: هو أنَّ الوطنيَّة - كما بيَّنَّا سابقًا - تحمل في الواقع أكثرَ من معنى؛ سواء كان في واقعِ مفهومها؛ كمحور استقطابٍ وولاء بين جماعة من البشر، يجمعهم وطنٌ واحد، أو مفهومها بأنَّها تفرض واجبات ومحظورات معيَّنةً على المُواطن[13] ، أو كان في واقع تطبيقها المعاصر؛ من حيث هي نزعةٌ تتَّجِه إلى اعتبار "الدُّول" القُطرية التي رسمها المحتلُّ "أوطانًا".

       فهذه المعاني كلُّها متضمَّنة في مفهوم الوطنيَّة، على مستوى الفكر والواقع، فلا يصحُّ أن نظنَّ للحظةٍ أنَّها تعني مجرَّد "حبِّ الوطن" فنَقْبلَها! فلسنا نحن من نقرِّر ما يدلُّ عليه المصطلح في الواقع؛ وإنَّما طبيعة هذا المصطلح كما هو في الواقع، وكما نشأ عند من ابتَدَعه، هي التي تحدِّدُ مفهومه، وطبقًا لذلك تتحدَّد شرعيَّتُه من عدمها، وقبولُنا له من عدمه.

       والاعتبار الثاني: أنَّ حبَّ الوطن ليس هو "جوهرَ" النَّزعة الوطنيَّة، كما نشأت واستقرَّتْ وتشكَّلَت مقتضياتها الواقعيَّة - في المفهوم والتطبيق - وإنما يُعتبر "حبُّ الوطن" من "التَّوابع" لِنَزعة الوطنيَّة؛ لأنَّه ليس عاملاً رئيسيًّا في نشأتها، ولأنَّ النَّزعة الوطنية غيرُ متميِّزة بحبِّ الوطن؛ فهو ليس من خصائصها، وإنَّما حبُّ الوطن دافعٌ فطري مركوزٌ في فطرة الإنسان، وموجود عنده قبل نشوء فكرة الانتماء الوطني، والتجمُّع على أساس الوطن، بل وقد بيَّنَت النصوصُ الشرعيَّةُ أصالة حبِّ الوطن، والحنين إليه عند الإنسان.

       يقول الله - سبحانه وتعالى - : ﴿ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ﴾ [النساء: 66]، فبيَّن أنَّ الإخراج من الدِّيار - أي: الأوطان - هو أمرٌ صعب على الإنسان؛ لشدَّة أُلْفتِه واعتياده عليها.

       وبالفطرة نعلم أن حبَّ الوطن شعورٌ أصيلٌ عند الإنسان، ولا نحتاج مَن يُعلِّمُنا إيَّاه، وليس مخصوصًا في النَّزعة "الوطنية" التي نشأَت وتشكَّلَت في ظروفٍ خاصة، وحملت في معانيها ومقتضياتها قِيَمًا ومدلولاتٍ زائدةً عن مجرَّد حبِّ الوطن، بل حبُّ الوطن ما هو إلاَّ تابع في النَّزعة الوطنيَّة، وأساسها أنَّها: هُوِيَّة ومحورُ انتماء وولاء، وأنَّها تفرض واجباتٍ ومحظورات على المواطن تسمَّى "الواجب الوطنيَّ"، أو "المحظور الوطني"، وأنَّ لها واقعًا تطبيقيًّا ملموسًا هو الدولة القُطريَّة، مرسومةُ الحدود، بحيث يكون الانتماء متوجِّهًا لها، وللجماعة من البشر القاطنين داخل حدودها، بغضِّ النَّظر عن أديانهم ومعتقداتهم، ووجهات نظرهم في الحياة؛ ولذلك فالواقع يُبَرهن أن "الوطنيَّة" ليست مجرَّد "حبِّ الوطن"، وأن استخدامها بهذا المفهوم هو حيادٌ عن الموضوعيَّة والواقع.

       وبالعودة إلى الإسلام، نجد أنه - في نصوصه الشرعيَّة المُحْكَمة - قد وجَّهَ إلى بعض تلك القيم: كالإحساس بالوشيجة بينه وبين الأرض، غير أنَّه جعل هذا الإحساس مرتبطًا بالكون كلِّه، وليس في أرضٍ محصورة بحدودٍ ما أنزلَ الله بها من سلطان! الوشيجة النابعة أصلاً من أنَّ هذا الكون عابدٌ لله، يحسُّ الإنسانُ بالتوافق والتناسق معه حين يكون عابدًا لله، ويمشي في جنباته مستشعرًا عظمة الله.

       والإسلام كذلك يوجِّهُنا إلى الاهتمام بقضايا المسلمين كلِّهم، وليس فقط بأبناء الوطن الواحد؛ فهو لا يعترف بهذه الحدود الوطنيَّة المصطنعة المفرِّقة للأمة، والمشتِّتة لِوَحْدتها، فمفهوم الأمَّة المسلمة الفسيح الواسع يَغْلب فيه على مفهوم الوطن الضيِّق المتعصِّب، ولنا مع كتاب الله - عزَّ وجلَّ - هذه الجولة، نستمدُّ منها تلك المعاني:

      ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ﴾ [فصلت: 11].

       فها هنا يحسُّ المسلم بتلك الوشيجة الكبرى مع هذا الكون العابد لله، حين يرى مَظاهر قدرة الله وتدبيره لِمُختلِف ظواهر الطَّبيعة من حوله، سواء كانت جبال الهملايا، أو غابات الأمازون، أو بُحَيرات إفريقيَّة، أو سهول أمريكا الشمالية، أو أنهار أوروبا، فكلُّها مِن خَلْقِ الله، ومن ثَمَّ فكلُّها طائعٌ لله، وأثَرٌ من آثار قدرته.

       ويقول تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾ [الملك: 15].

       ويقول: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 29].

       ويقول: ﴿ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ﴾ [هود: 61].

       وبعدُ: فوطن المسلمِ الحقيقيُّ الدائمُ هو الجنَّة، وما اعتبارُ الأوطان روابطَ أبديةً إلاَّ خبَلٌ يُصاب به مَن ابتعد عن منهج الله تعالى، فالمقام في هذه الأرض ليس أبديًّا؛ إنما هي دار ممرٍّ، ومتاع إلى حين:

      ﴿ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ﴾ [البقرة: 36].

       الوطنيّة باعتبارها هويةً، ومحورَ انتماء وولاءٍ بين جماعة من الناس:

      وهذا المعنى ظاهرٌ ظهورًا واضحًا عند دُعاة الوطنية، حتى مِمَّن يحملون أسماء مسلمين؛ إذْ إنَّ جعْلَ الولاء منعقِدًا على شيءٍ غير الإيمان والإسلام هو في ذاته "جاهليَّة" حرَّمَها الله ونهى عنها، وقد بيَّنَّا في مقال "الهويَّة والشرعية" كيف ينبغي أن تكون الهويَّة "إسلاميَّةً" فحَسْب؛ حيث إنَّ الإسلام هو محور الاستقطاب "القيميّ" الوحيد الذي ينبغي أن يَستقطب الجماعةَ المسلمة.

       وفي تحديد رابطة العقيدة في الله كرابطةٍ وحيدة يتجمَّعُ حولها الناس، لا المصالح الأرضيَّة، ولا القوم، ولا الأهل؛ يقول الله تعالى:

      ﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [التوبة: 24].

       فانظر كيف وضع الله - سبحانه - الأواصِرَ القوميَّة والمصالح الاقتصادية والوطن في كفَّة، والعقيدةَ الصحيحة في الله في كفَّةٍ أخرى!

       ثم إنَّه لا شرعيَّة في الإسلام للتجمُّع على غير الكتاب والسنة: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴾ [آل عمران: 103].

       وجعل الله - سبحانه - عقْدَ الولاء على "الإيمان" وحده لا شيء سواه؛ من وطنٍ، أو جنس، أو مصالحَ مشتركةٍ، وإلاَّ فلا شرعية لهذا الولاء:

      ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 71].

       ومفهوم "الأمة" في الإسلام لا ينحصر في المجموعة من البشَر، تعيش على أرضٍ مشتركة، وتجمعها مصالِحُ مشتركة، وتَستخدم لغةً مشتركة؛ ففي الكتاب الذي كتبه رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بين المُهاجرين والأنصار ورد: ((بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتابٌ من محمَّد النبيِّ الأميِّ، بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومَن تبعهم، فلَحِقَ بهم وجاهد معهم، إنَّهم أمَّةٌ واحدة من دون الناس))، وجاء فيه أيضًا: ((وإنَّ المؤمنين بعضهم مَوالي بعض دون الناس))[14] ، فالمَحكُّ هو "الإيمان"؛ للدُّخول في مسمَّى الأمة الواحدة.

       لا إنسانية النَّزعة الوطنية:

      إنَّ التَّفرقة بين الناس والتفاضل بينهم على أساس مكانِ مَولدِهم ونشأتهم ومعاشهم - هي أمرٌ "لا إنساني" مرفوضٌ؛ لأنَّه يُقوِّم الناس وفقًا لكيانهم "الجَبْري" الذي لا خيار لهم فيه، بينما الأصل أنْ يكون تقويمُنا للناس وفقًا لأفكارهم ومعتقداتهم وأعمالهم؛ (الكيان الاختياري)؛ أيْ: بحسب ما اختاروه هم بإرادتهم الحُرَّة، لا ما قُدِّر عليهم دون إمكانيَّة قبوله أو رفضه؛ كأرض الميلاد والنَّشأة.

       وهذا هو العدل الذي أُمِرنا به، والذي تقول به كلُّ فطرة إنسانية سليمة، ويا للعجب حين نعلم كيف زيَّف العَلمانيُّون هذه القضيةَ وزعموا - زُورًا وبهتانًا - أنَّ الإسلام كيان "جبري"؛ لأنَّه أمرٌ "موروث"، وأن القوميَّة والوطنية هي أمورٌ يختارها الإنسان! هذا القلْب للمعايير الذي تُمارسه تلك الفئاتُ الضالَّة المُضِلَّة هو بمثابة خَنجر يقدح في إنسانيَّةِ دعواتها ومصداقيتها.

       الواجب الوطني، والثوابت الوطنيَّة:

      يكثر الحديث عند دعاة الوطنيَّة عن "الواجب الوطنيِّ"، و"المحظور الوطني"، وعن "الثَّوابت الوطنية"، وهي قِيَم جماعيَّة معيَّنة يلتزم بها المواطنون، أو ينبغي أن يلتزموا بها، والوطنية - كنَزعةٍ أو رابطة - لا تتضمَّنُ بذاتها "المعاييرَ" أو "القيم" أو "الضَّوابط" التي تحدِّد كلَّ ذلك؛ فما هي هذه "الواجبات" أو "المحظورات" أو "الثوابت" الوطنيَّة بالضبط؟ ومَن الذي يُحدِّدها؟ وما مرجعيَّتها المعيارية التي تضبط ما هو "وطنيٌّ" وما "ليس بوطنيّ"؟

       إنَّها في الحقيقة معاييرُ وضَعَها البشرُ وألصقوها باسم "الوطنيَّة"، وبأنَّ الوطنية تقتضيها، وتعارفوا عليها عبْرَ العقود، والله - سبحانه وتعالى - نهى عن التَّحاكم إلى عقول البشر في شؤون تحديد "القيم" و"المعايير" و"التشريع" للناس، وسَمَّى ذلك عبادةً للطَّاغوت (وهو كلُّ ما يُعبَد من دون الله؛ أيْ: يُطاع من دونه سبحانه)، وجعله محكًّا للإيمان، وأمر بالرُّجوع إلى الشرع فيما تختلف فيه الأهواءُ وآراء الناس، وواقع الثَّوابت الوطنية أنَّها دون ضابطٍ واضح، وتختلف فيها أهواءُ الناس وآراؤهم.

       ولنا جولةٌ أخرى مع كتاب الله تعالى، نستمدُّ منها تلك المعاني؛ فهو دليلنا ومرشِدُنا ونورُنا الذي نهتدي به في الظُّلمات:

      ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا ﴾ [النساء: 60].

       ﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [البقرة: 213].

       ﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [التوبة: 31].

       وفي تفسير هذه الآية نوردُ هذا الحديث النبويَّ:

      "قَدِم عديُّ بن حاتم على النبِيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو نصراني، فسمعه يقرأ هذه الآية: ﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [التوبة: 31]، قال: فقلتُ له: إنَّا لَسْنا نعبدهم، قال: ((أليس يُحرِّمون ما أحلَّ الله فتحرِّمونه، ويحلُّون ما حرم الله فتحلونه؟))، قال: قلتُ: بلى، قال: ((فتلك عبادتُهم))[15].

       ويقول الشيخ الشعراويُّ - رحمه الله - في مَعْرِض تفسيره للآية: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا... ﴾ [البقرة: 143]:

      "الله - سبحانه - يُريد من المؤمنين أن يَعيشوا مادِّيةَ الحياة بقِيَم السماء، وهذه وسطيَّة الإسلام، لم يأخذ الرُّوح وحْدَها، ولا المادَّة وحدها؛ وإنَّما أوجد ماديَّة الحياة محروسةً بقِيَم السماء، فحين يُخبِرُنا الله - سبحانه - أنَّه سيَجْعلنا أمة وسطًا، تجمع خيرَ الطَّرَفين؛ نعرف أن الدِّين جاء لِيَعصم البشرَ من أهواء البشر.

       الله - تبارك وتعالى - يُريدنا أن نبحث في مادِّيات الكون بما يخلق التقدُّم والرَّفاهية والقوة للبشريَّة، فما هو مادِّي مَعْملي لا يختلف البشَر فيه، لكن ما يدخل فيه أهواءُ البشر ستضَعُ السَّماء لكم قانونَه، فإذا عِشْتم بالأهواء ستَشْقَون، وإذا عشتم بنظريَّات السماء ستَسْعدون"[16].

       فواقع الأعمال التي تُوصَف بأنَّها أعمالٌ "وطنيَّة"، أو أنَّها "واجبٌ وطني"، أو "محظور وطني"، أو "ثوابِتُ وطنيَّة"... واقعُ هذه الأعمال أنَّها تدخل عليها "أهواءُ" البشر؛ فهي نشاطاتٌ إنسانيَّة ينبغي تقويمُها بالمعيار الشرعيِّ، لا بالمعايير البشريَّة، فليس ثمَّة أحدٌ يملك أن يفرض الواجباتِ والمحظورات إلاَّ اللهُ - سبحانه وتعالى - وهذا أصلٌ في الدِّين، لا ينبغي أن يُخالِف فيه مسلم.

       ولذلك فحين يقول أحدُ الأساتذة: "إنَّ الواجب يستدعي رفْضَ (الخدمة المدنيَّة) جملة وتفصيلاً، رغم الإغراءات والمُخصّصات والإعفاءات والهِبَات، لا بل والضغوطات من قِبَل السُّلطة وأجهزتها المختلفة، وإلاَّ فإننا سنقع في المحظور، دينيًّا ووطنيًّا"![17].

       حين يقول هذا الكلامَ يقع في مُغالطة شرعيَّة واضحة - وإن لم تكن على مستوى الاعتقاد - بأنَّ هناك مَن يملك فرْضَ الواجبات والمحظورات غير الله - سبحانه وتعالى - فإنَّها على مستوى التَّعبير مرفوضةٌ شرعًا، ولا يجوز أن يختلَّ معيار الإباحة والحظر، والتَّحليل والتحريم عند المسلم؛ لأنَّها مسألةٌ متعلِّقة بأصلٍ من أصول الدين، والتأثير على القارئ المسلم يكون كبيرًا إنِ اعتاد كُتَّابُنا على مجاراة مصطلحات العصر، دون تمحيصٍ لها؛ إنْ كانت توافق الشَّرع أو تخالفه.

       ونحن نتساءل: هل يستوي حالُ المسلم بين أن يكون له مصدرٌ واحد يستمدُّ منه القِيَم والموازين، والتَّوجيهاتِ والشرائعَ، ويتلقَّى منه أوامر الإباحة والحظر، وبَيْن أن يكون له مصادِرُ شتَّى، يأخذ من كلِّ واحد منها بعضَ التوجيهات في ميادين مختلفة من الحياة؟!

       والقرآن قَبْلنا بأكثر من أربعةَ عشرَ قرنًا يتساءل: ﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الزمر: 29]، وتلك هي حقيقةُ دعوة التَّوحيد؛ دعوةٌ لتوجيه هذا الكيان البشريِّ إلى مصدرٍ واحد، بدلاً من أن يتشتَّت شملُه، وتتفرَّق كينونته.

       ومن هنا تنشأ تلك الطاقة العجيبة التي تنطلق في الأرض لِبناء الحضارة الإسلاميَّة من جديد، كما كانت في قلوب أولئك النَّفَر الكِرَام الذين وضَعوا حجارة الأساس فيها، حين وقف واحِدُهم أمام قائد الفرس "رستم"، وقال: "إنَّ الله ابتعَثَنا لِنُخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة ربِّ العباد، ومِن ضيق الدُّنيا إلى سَعة الآخرة، ومن جَوْر الأديان إلى عدل الإسلام".

       خلاصة:

      وأخيرًا نقول لهؤلاء الذين يقلِّلون من أهمية تصحيح هذا المفهوم، ولا يعتبرون أن ثمَّة خطرًا فيه: ألَمْ ترَوْا تلك الثِّمار النَّكِدة للوطنيَّة؟ والتي ما زلنا نعيش في ظلالها المشؤومة هذه الأيَّام؛ حيث يُقتَلُ آلاف المسلمين في أرض ليبيا المسلِمة، ويَسبحُ الآخَرون في حمَّام الدم، ورغم ذلك يقف عاشِرُ أكبر جيش في العالم (الجيش المصري) بِمَقربةٍ من هذه المَجازر لا يُحرِّك ساكنًا! لا لشيءٍ سوى أنَّ هؤلاء الذين يموتون ليسوا "مصريِّين"، وأنَّ التدخُّل في شؤون "وطنٍ" آخَر ليس من مسؤولياته؛ إنَّما مسؤوليَّتُه الحفاظُ على أمن الوطن المصري!

       ألا تعسًا للوطنيَّة! كم فرَّقَت أبناء الأمة! وكم عوَّقَتْهم عن النهوض!

       وخلاصة القول في هذا الفصل أنَّ الوطنية لا يمكن بحالٍ أن تكون هي "هويَّةَ" المسلم، ولا مجرَّدَ جزءٍ في هذه الهويَّة؛ فهذا يؤدِّي إلى تشتُّتِ انتماء المسلم، وفقدان فاعليَّة الهويَّة الإسلاميَّة، فضلاً عن مخالفته للشريعة الربانيَّة، و"الهُوِيَّةُ الوطنية" مفهومٌ يرفضه المسلمُ؛ لأنَّها:

      • تشوبُ صفاءَ التَّوحيد، وتنقض عقيدة "الولاء والبَراء" فيه إنْ جعلَها الإنسان محورَ ولاء؛ بأن يكون ولاؤه منعقِدًا على أبناء الوطن الواحد، بغضِّ النَّظر عن معتقداتهم وأفكارهم، بل حتَّى لو كانوا من المشركين!

       • اتِّباع للأهواء وعقول البشر فيما ينبغي أن تكون مرجعيَّتُه هي الشَّرعَ وحده، فهي زعمٌ (بلسان الحال إن لم يكن بلسان المقال) أنَّ هناك قِيَمًا إنسانيَّة يكون لها مصدرٌ يَمْلك فَرْضها أو إباحتها أو حَظْرها غير الشريعة الإسلاميَّة، التي أنزلها الله - سبحانه وتعالى - وهذا المصدر هو "الوطنيَّة"، أو "الحسُّ الوطني"، أو "الثوابت الوطنية"!

       • تفتقرُ إلى الموضوعيَّة؛ فلا يوجد ضابطٌ يحدِّد "القيم" التي تقتضيها، بل كلٌّ يزعم لها ما يَشاء، ويُدخل في مقتضياتها ما يَشاء.

       • نزعة لا إنسانيَّة؛ لكونِها تُفاضلُ بين البشر، وتقوِّمُهم وفقًا لكيانهم "الجبريِّ"؛ (أرض الولادة، الوطن، النَّشأة)، فتجعل رابطةَ الانتماء بين البشر على أساس هذا الكيان الجبريِّ للإنسان، حتَّى لو كان الإنسان كافرًا معرضًا عن عبادة الله، وتجعلُ من الهويَّة الإسلاميَّة والانتماءِ - وفْقَ الكيان "الاختياري" للإنسان - نزعةً "طائفية"[18] "متعصِّبة"، مع أن المنطق الموضوعيَّ يُبَرهِن أن النَّزعة الوطنية هي "المتعصِّبة" و"اللاَّإنسانية"!

       • تُفْضِي إلى التَّبعية للغرب؛ فحين تجزَّأَت الأُمَّة إلى كيانات وطنيَّة متفرِّقة هزيلةٍ، كان أنِ التحق كلُّ كيانٍ بقوَّة كبرى تسنده؛ لأنَّه لا يعتمد على هويَّةٍ أصيلة عند الأمَّة، فكان من البديهيِّ أن يكون تابعًا لإحدى القوى الكبرى.

       • نزعةٌ عَمِلَ الغرب على زرعها بين المسلمين؛ لتفريقهم، والحيلولة دون وحدتِهم، بعد أن فَشِل في إبقاء وجوده عسكريًّا في كلِّ بلاد المسلمين (رغم وجوده في بعض البلدان اليوم!) عملَ على إثارة هذه النُّعرة الوطنيَّة؛ لتمزيق وحدة الأمة.

       • تقليد لا مُبَرِّر له؛ فمُلابسات ظهورها ونشأتها في أوروبا لم تمرَّ بها الأمة الإسلامية، فكان اعتبارُها شيئًا حتميًّا - على الأمة الإسلاميَّة أن تتعايش معه - أمرًا منافيًا للموضوعيَّة! ولسنا نحتاج إلى أن نبرِّر تَوافُقَ الإسلام مع كلِّ وافد يأتينا من قِيَم الغرب؛ ففي ديننا ما يُغنينا؛ من القِيَم والمَوازين.

       

      [1] ولا يوجد في الحقيقة مفهومٌ قديم للوطنيَّة عند المسلمين، فلا الكلمةُ بِتَصريفها مذكورة، ولا مفهومها المعاصر كان موجودًا!

      [2] تَمَّ النقل من بحثٍ بعنوان: "مفهوم الوطنيَّة والتأصيل الشرعي"، وهو عبارة عن مشاركةٍ في ندوة: "الانتماء الوطني في التعليم العام، رُؤًى وتطلُّعات"، بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ربيع الأول 1430 - 1431، أ.د حسن السيد حامد خطَّاب، (نسخة موقع صيد الفوائد)، وقد توصَّلَ الباحثُ إلى نتائج مختلفة تمامًا عن بحثنا هذا، بل قد كانت له طريقةٌ مختلفة في البحث، وأهدافٌ مختلفة كذلك.

      [3] إلى هنا ينتهي النقل من بحث "مفهوم الوطنيَّة والتأصيل الشرعي".

      [4] في الواقع تحدِّده الجماعة من البشر التي تُهَيمن على مجريات الحياة السياسيَّة والاجتماعية والاقتصادية في هذا القُطْر أو ذاك.

      [5] مفكِّر قوميٌّ معاصر، له حضورٌ بارز في المشهد السياسيِّ والاجتماعي القومي العَلماني.

      [6] من مقال "بيان قومي ديمقراطي"، منشورٌ على موقع التجمُّع الوطني الديمقراطي.

      [7] انظر مقال "الخلفيَّة التاريخية لانحراف مفهوم الهويَّة".

      [8] من مقال بعنوان: "الأمة الإسلامية وأخطار القُطريَّة عليها"، للشيخ غازي التوبة.

      [9] غازي التوبة؛ من مقال بعنوان: "تهديد هويَّة أمَّتِنا قديمًا وحديثًا"، منشور على موقع منبر الأمة الإسلاميَّة للدراسات والبحوث.

      [10] مقال لم يُنشر بعد، وسيُنشَر لاحقًا - بإذن الله - في موقع الألوكة.

      [11] فإن قيل: إنَّها واقعٌ مفروض علينا،