فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      الحركة الإسلامية بين جوهر الكمال وعوارض النقص (1)

      التحليل النفسي للحركة الإسلامية.. لم لا؟

      مسلك التفسير النفسي لمواقف الإسلاميين وتصرفاتهم لم يمارس من قبل إلا في بقصد الإساءة إلى الظاهرة الإسلامية والتشكيك في شرعية وجودها والطعن في نبل مقاصدها. ولذلك، فمن  الصعب أن يسلك أحد الأوفياء للحركة الإسلامية نفس هذا المسلك دون أن يعاني من وطئة الموقف وغرابته.

      ومن المؤكد أن هذه المعاناة الشخصية هي نذير ممانعة عامة لدى الإسلاميين لقبول نتائج ذلك البحث، لأن هذا المعاناة وتلك الممانعة يصدران عن نزوع طبيعي إلى رؤية الذات في شكلها المثالي لا كما هي. لكن إن كنت أنا قد استطعت الظهور على تلك المعاناة بدافع التجرد للحقيقة، وبإدراك أن مبدأ التفتيش عن خبايا النفوس ودخائلها هو مبدأ بريء تماما من تطبيقاته المغرضة والسخيفة، فهذا يدفعني إلى الأمل في أن تحظى تلك الرسالة ببعض الاهتمام، فلست أكثر الإسلاميين تجردا للحقيقة بلا شك.

      وربما تأخذ هذه الممانعة شكلا إسلاميا مزيفا هي الأخرى، فتعتمد على التشكيك في أصل منهج التفسير النفسي للسلوك، وما يتضمنه من تنقيب فيما وراء الوعي، فتطعن فيه باعتباره منهجا غربيا فرويديا سيئ السمعة بشطحاته الجنسية والإلحادية المعروفة، لكن إن كنت قد استطعت الوقوف على مدى انتشار فكرة "اللاوعي" في التراث الإسلامي عموما وعند متصوفة أهل السنة خصوصا، وما اشتهر قديما من أن "الإنسان محجوب عن ذاته"، وأن "من ظن في نفسه الإخلاص فإخلاصه يحتاج إلى إخلاص"، وأن "الشعور بالإرادة ليس شرطا لتحققها" (ابن القيم/شفاء العليل)، وأن معرفة الإنسان لنفسه غاية متعذرة للـ"مُريد" بحيث يحتاج لـ"شيخ" فطن بدروب النفس وبراعتها في خداع صاحبها، إن كنت قد استطعت الوقوف على أن فكرة اللاوعي ليست شذوذا أو نشازا عن النظرة الإسلامية للنفس البشرية، وأن الشطحات الجنسية الإلحادية ليست من لوازم تلك الفكرة وإنما هي مقحمة عليها من التحليل النفسي اليهودي، فإن ذلك يدفعني إلى الأمل في أن تندحر تلك الممانعة الماكرة، وتحظى نتائج بحثنا في النهاية ببعض القبول، فلست أكثر الإسلاميين دراية بالتراث الإسلامي بلا شك.

      ضرورة التحليل النفسي للحركة الإسلامية.

      وقد تأخذ هذه الممانعة شكلا اقتصاديا أقل حدة، فيتسائل بعضهم عن الضرورة التي تلجئنا إلى أن نسلك دروب المتاهات الخفية لدوافع التيار الإسلامي، ويؤكد على ما قد استقر لدينا من أن صريح النقل وسديد العقل كلاهما يحقق الكفاية لتقييم السلوك؟ وأن معيار الصواب والخطأ كفيل بضبطه، فإن كان السلوك صوابا أثنينا عليه وشجعناه، وإن كان خطأ حذرنا منه وشجبناه؟ ويرتاب: ما الذي يدعونا للاهتمام بـ "الدوافع النفسية" كموضوعا للنقد بدلا مما اعتدنا عليه من فحص "المواقف والخيارات الفقهية ووجهات النظر"، فنعود بالسلوك إلى "دافع خفي" بدلا من أن نقيِّمه بـ "حكم شرعي صريح"؟ لماذا نستبدل "التفسير" رغم غموض أساسه، بـ "النقد والتقييم" على وضوح معياره؟.

      الحقيقة أننا لا نستبدل "التفسير والفهم" بـ"النقد والتقييم" في ضبط السلوك، بل ندعم كل منهما بالآخر، نقد الأفعال هو إجراء الأحكام الشرعية والعقلية عليها بغض النظر عن دوافعها، ومجال النقد هو جواب السؤال: هذا الفعل صواب أم خطأ؟ ممكن أم مستحيل؟ نافع أم ضار؟. أما الوعي، وهو حصيلة فهم السلوك، فأمر يختلف عن ذلك، فهو إدارك مكامن الدوافع التي صدرت منها الأفعال بغض النظر عن حكمها الشرعي، ومجال الوعي هو جواب هذا السؤال: هذا الفعل عن أي دافع صدر؟، وأي رغبة يحققها لصاحبه؟، وهل هذا الدافع وتلك الرغبة هي حقا ما يظن هذا الرجل أن فعله قد دار حولهما؟ أم أن لهذا الفعل مقاصد لا يعيها هو؟ وما هي تلك المقاصد؟ وكيف نستدل عليها؟

      أما عن ضرورة التكامل بين كلا المسلكين فتعود إلى أن الدوافع الشريرة إن كانت خارجة عن مجال إدراك الإنسان لها، فلا يأمن على نفسه أمران: أحدهما أن تتبدى في شكل أفعال محمودة من الناحية العقلية والشرعية، غير أنها تستغل هذه الأفعال لتنحرف بصاحبها عن غايات هي أكثر خطرا وأعمق ارتباطا بأصل وجوده، فيكون الإنسان في طريقه إلى الهاوية لأن الرغبات المحضة لا تعرف الغايات الرشيدة. والأمر الآخر: أن تسفر عن نفسها في شكل أفعال مذمومة في الشرع والعقل، لكنها تعبث بمعيار النقد ذاته عند الإنسان، فيعمد إلى تحريف أحكام الشرع والعقل بحيث تلائم أفعاله فلا تكون في موضع نقد منها.

      الوعي إذا يختلف عن العلم، أو هو نوع خاص منه وهو الاستبصار بالذات، أو "البصيرة"، والوعي أو البصيرة، ضروري لخير الإنسان، لإن الوعي بذاته وبمحتواها بشكل شامل يجعله مدركا للخطر المحدق بذاته بشكل شامل أيضا، في حين أن هذا العنصر، أي الشمول، تفتقده تلك الأحكام العقلية والشرعية التي يجريها الإنسان على أفعاله المحدودة. الخطر الشامل لا تدفعه النظرة غير الشاملة.

      ولسنا نقتحم أمورا غريبة بهذا الكلام، فـ"مراقبة النفس" أمر مألوف في تراثنا، ومفهوم "الهوى" كذلك معروف لدينا، وهو الدافع النفسي، ومفهوم "البدعة" كذلك، وهي السلوك الناشئ عن دافع شرير استطاع العبث بمعيار الشرع، ومفهوم "التربية" كذلك، وهو ترويض النفس على مقاومة دوافعها الشريرة، كلها مفاهيم مألوفة ومعروفة.

      غير أننا قد تعودنا أن نتناول تلك الدوافع الشريرة دائما من ثلاث جوانب دون ثلاث، إننا، أولا، نتناولها كمفاهيم بسيطة غير مركبة، كحب الدنيا وحب الشهرة وحب الرئاسة وخوف الموت والأذى، وما يتفرع عن تلك المعاني من عمالة للنِّظام أو تهور في العمل أو ما إلى ذلك. ثم إننا، ثانيا، نتناولها بحيث نقتصر على ما ندركه منها دون مالا ندركه بوعينا، ثم إننا، أخيرا، نتناولها في تطبيقاتها التي تصلح للفرد دون ما يختص منها بالجماعة.

      ولما كان البسيط من الدوافع لا يفسر المركب من السلوك، والجلي من الدوافع لا يفسر ما يصدر عن الخفي منها، والفردي من الدوافع لا يفسر ما يصدر عن الجماعي منها. فإننا ما زلنا نتخبط في فهم أنفسنا كتيار إسلامي، ولا نزال نقف أمام هوة سحيقة تعزلنا عن مكمن مشكلاته، عاجزين عن إدراك كنهها، وإذا فلا بد من تغيير فكرتنا عن بساطة مفهوم "الهوى"، والتفكير بطريقة تلائم الطبيعة المركبة والخفية والجماعية لذلك التيار.

      وأحسب أننا، بعد هذا التوضيح، قادرين على التفطن إلى أننا لا نقصد بفحص دوافع التيار الإسلامي كجماعة بشرية، ذلك المفهوم المزيف للتربية، والذي يتحذلق به "قادة" ذلك التيار مع أتباعهم الجدد، فنحن نفحص التيار نفسه، الجماعة نفسها، حيث المربون هم المرضى، بل هم من يصدر المرض ويرعاه ويحرسه ويؤصل له، إنهم، وبحكم كونهم قادة، بيت الداء.

      ثورة يناير وصفعة القدر

      غير أن هذا التأصيل النظري لضرورة الوعي ليس هو ما استفزنا في الحقيقة مراجعة أصول الدوافع النفسية للتيار الإسلامي بمختلف توجهاته؟ إن ما استفزنا لذلك هو إعلان فشل الحركة الإسلامية في قيادة التغيير في المنطقة العربية وفي مصر خصوصا، هذا الإعلان الذي تمثل في الثورات العربية والتي كانت ثورة على الأنظمة في الوقت الذي كانت فيه صفعة على وجه الحركة الإسلامية، صفعة بيد القدر جعلتنا نرى "العوام" يتصدرون مشهد التغيير في ثورة يناير وغيرها، ورأينا وراءهم "أئمة الهدى ومصابيح الدجى" يهرولون جاهدين أن يثبتوا لهم و"للعوام" أنهم قد "مشاركين" لهم في الثورة!، ثم هذا الشجار المضحك المبكي حول "وائل غنيم" هل أصوله (البعيدة) سلفية أم إخوانية.

      فلنواجه أنفسنا، إن آثار تلك اللطمة لا تزال على وجوهنا، وألمها لا يزال يعتصر قلوبنا، لم نكن أمل الأمة ولا ضميرها ولا ومعدن كبرياءها، كنا نخدع أنفسنا قبل أن نخدع الآخرين، فوجئنا بأنفسنا مجرد جسم ثقيل يتدحرج بوزنه المترهل دون قدرة على القرار ودون وعي بالهدف ودون إحساس بالمسؤولية، كان تصورنا عن أنفسنا مرتع لخيالنا، "كان صرحا من خيال فهوى".

      فشلت الحركة الإسلامية، وفشلت كل محاولات رأب الصدع في الصف الإسلامي قديمها وجديدها، وحق لها أن تفشل، فلم تكن هذه المحاولات تعي أن النزعات والدوافع الدخيلة على التيار الإسلامي هي متأصلة بحيث يصعب انتزاعها بأي محاولات فكرية، بل يصعب حتى رؤيتها، لم تعد تجدي نفعا تلك المقولة التي توصنا بأن: "يعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه ويعين بعضنا بعضا فيما اتفقنا فيه"، هل يرانا هذا الرجل أطفالا في الروضة حتى تكون أفضل حالاتنا ألا نتشاجر؟ أم يرانا، كما كنا نتمنى، حركة بعث للنبوة نسترد بها دورنا في التاريخ؟ فشلت محاولة الدكتور صلاح الصاوي في تشكيل حديقته الوهمية التي أراد أن يجمع فيها من كل بستان زهرة، هذه الزهرات الجميلة يا سيدي ليست لقطف المحبين، بل هي نفسها مرتع للنزعات المريضة، وهي لأجل ذلك أكثر تجذرا في تربتها من أن يحاول أحدهم إعادة جمعها. فشلت حتى محاولات الحديث عن (تكامل قدري) بين التيارات، والاطمئنان إلى أن (اللوحة أكثر جمالا من بعيد)، وأن يد الله تسير بنا نحو الخير دائما، وهل تعهد الله لنا بأن يسير بنا إلى الخير دائما وتوعد الصحابة بالاستبدال لو تولوا؟.

      فشلت كل محاولات التعايش مع مركب النقص بدعوى التسامح، وفشل أيضا كل من أخلصوا للاختلاف بكل عنفوانه ورأوا الحل في استئصال مركب النقص، لم تكن حربهم الشعواء هي ممارسة لاستئصال ذلك المركب، بل كان في حقيقته صراعا بين مركبات نقص مختلفة كل منها تحاول الحفاظ على نفسها بنفي غيرها.

      لم يعد بأيدينا إلا أن نستيقط، إلا أن تصحو تلك المزعومة "صحوة"!، لم يعد بأيدينا إلا، وبما عندنا من بقايا فخر بأنفسنا، أن نكون أكثر قسوة على أنفسنا من خصومنا على أنفسهم، فإن كان خصومنا يحاسبون أنفسهم على أنهم لم يتوقعوا الثورة، فسنحاسب نحن أنفسنا على أننا لم نبدأها.

      وهم الحصول على الثمرة

      هذا الشعور بأن رياح الثورة قد أتت بما تشتهي سفينة التيار الإسلامي، وأنه أصبح سيد الموقف بسبب الثورة وإن لم يكن صانعها، هذا الشعور قد يعطي انطباعا بأننا لسنا في حاجة إلى مراجعات وإعادة حسابات، وليس علينا سوى أن ننظر إلى الأمام ونغتنم الفرصة.

      لا شك أن اغتنام الفرص واجب، لكن من علامات الحماقة أيضا أن نطمئن إلى حصولنا على ثمرة سقطت في حجرنا عن غير استحقاق منا، وعلى عجز عن الوصول إليها بأيدينا، غافلين عن أن حالة العجز هذه ما زالت كامنة فينا حتى لو حُشرت الثمرة بين أسناننا حشرا، وغافلين عن أننا عاجزين عن الحفاظ على تلك الثمرة لو انتزعت منا مرة أخرى.

      حتى ذلك التغير المحدود في طريقة التفكير داخل التيار الإسلامي بعد الثورة، مثل هذا التقارب الهش بين الإخوان وبين السلفيين إنها لا تبعث على الطمأنينة لأنها ليست في أحسن أحوالها سوى إجراءات لالتقاط الثمرة الساقطة، ولا ترقى أبدا لتغيير واقعنا العاجز عن فعل أكثر من ذلك، وليست في أسوأ أحوالها سوى نفاقا من الدوافع الشريرة نفسها للكثرة العددية التي هي أقل إصابة بها، ونتوقع أن تعود هذه الدوافع كما كانت بعد أن تهدأ العاصفة كما يتوقع خصوم الأمة أن يعود واقع الأمة كما كان بعد برهة من الوقت.

      لن يخدعنا هؤلاء العاجزون بنجاح لم يحققوه، وبكثرة عددية إسلامية لم تكن حاصل جهدهم بل كانت تضخم طبيعي حاصل من الصراع الحضاري الدائر على المسرح الدولي وما يخلفه من عودة جماعية للأمة إلى تاريخها.

      تهيئة هامة

      لو اتفقنا أن مسالة المراجعة الشاملة لأصول الدوافع النفسية للتيار الإسلامي لا يجب أن تكون محل اعتراض، ولو استقر لدينا أن الدوافع النفسية ليست بهذه البساطة التي نتصورها دائما، وليست بهذا الوضوح الذي نتوقعه أحيانا، فلنتهيأ إذا لأمر آخر، هو أن اقتناص الدوافع النفسية الخفية له وسائل خاصة تختلف عن تلك الخاصة بتقييم الأفعال تقييما شرعيا أو منطقيا، وسائل لا تولي اهتماما للسلوك إلا من جهة دلالته على أي دافع نفسي غريب أو غير مرغوب فيه.

      وسائلنا مثلا لا تعتبر الممارسات الواجبة شرعا في عصمة من الفحص لمجرد أنها واجبة شرعا، لأن الدوافع الشريرة قد تتلبس بأي فعل ولو كان الخشوع في الصلاة، وكلنا يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل من الخشوع في الصلاة أمارة على دوافع نفسية برزت في فرقة الخوارج، فوصفهم النبي بقوله: "تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم". فليس لأحدنا أن ينزعج حين نتحدث عن ممارسات واجبة شرعا ونقول أنها تخفي دوافع شريرة، طالما أننا قد أتينا بالقرائن التي تؤكد ذلك.

      وسائلنا أيضا كما أنها لا تبالي بخطر الممارسات من الناحية الشرعية، فهي لا تبالي أيضا بتفاهة الممارسات من الناحية العملية، وتعتبرها جديرة بالفحص طالما أنها دالة على مطلوبنا من الدوافع الشريرة. فلا يندهش القارئ حين نقيم وزنا لفعل هو من المباحات قليلة الشأن، فإن ذلك أمر لا تبالي به الدوافع الشريرة أو الدوافع عموما.