فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      10- المباح المحرّم - 3/3

      انعقد اللقاء مرة أخرى في بيت أم أنس، وسارعت كل امرأة في أن تأخذ مكانها وكأنهن يردن أن يستكملن الحديث بأسرع ما يمكن أن يكون. قالت أم الفضل: "فكما رأيتن يا أخوات، أن موضوع زواج علي رضى الله عنه على فاطمة عليها السلام، ليس من هذا الباب الذي نتحدث فيه، وإنما هو من باب خصوصيات الرسول صلى الله عليه وسلم كما رجح بن حجر، أو هو من قبيل الحرص عليها لما أصابها في حياتها القصيرة الثمينة من فقد أحبتها ومن تلجأ إليهم وقت الغضب. وكذلك لعدم صلاحية أن تجتمع بنت نبي الله وبنت عدو الله في بيت واحد. وإني أحب أضيف أمرا آخر من عند نفسي فإن أصبت فهو من عند الله سبحانه وإن أخطأت فهو من الشيطان ومني، أنه قد يكون خشية أن تحزن فاطمة فيحزن الرسول صلى الله عليه وسلم لحزنها فيكون هذا سببا في احتسابه ذنبا لعلي، إذ إن كل من يسبب ألما أو إيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم يقترف به إثما، وإن كان هذا الأمر ليس من قبيل ما يستخلص من نص الحديث، ولكن بحسبي أن بن حجر قد أشار إلى قريب منه.

      ومن عجيب ما سمعت في الأيام الخالية أن بعض من انتسب إلى الإسلام، وحمل رواسب الجاهلية الغربية وعفان العلمانية، يحتج بقوله تعالى في سورة النور:" وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهٌُ وَاسِعٌ عليمِ" النور 32. احتج هؤلاء من النسوة واشباه الرجال، إلى أن ذلك منع من التعدد إذ أن فيه الأمر بتزويج الأيامى، والأيم من ليس له زوجة او من ليس لها زوج! فيكون هذا منع من تزويج من له زوجةّ! هذا أخواتي الفاضلات من غرائب الله في خلقه! فإن الأمر هنا واقع على شيئ يختلف جد الإختلاف عن إباحة التعدد في آية النساء. ففي سورة النور يحث سبحانه المؤمنون على أن لايرفضوا من تقدم لزواج بناتهن البكر إن كان كفئا ترضاه لنفسها، فإن يفعلوا تنتشر الفتنة ويعم الحرام. وليست سورة النساء كلها قي بيان حكم الزنا والحجاب وغض البصر وما من شأنه أن يحمي المجتمع من شر العزوبة، فلا غرو أن يكون فيها الحث على تزويج الأيامى ليمنع بهذا ما يمكن أن يكون من انتشار الفاحشة لوجود من يعش عازبا من ذكر أو انثى. ولكن حدثوني بربكم، ما شأن هذا بما هو من إباحة التعدد في سورة النساء!؟ ألا يمكن أن يبيح الله سبحانه التعدد للمتزوج، وكذلك يحث العزب من الرجال و النساء أن يتزوج للإحصان والتمسك بالفضيلة!؟ ولقد والله راجعت ما راجعت من عشرات التفاسير قديمها و حديثها، فما رأيت أحدا ألمح بنسخ آية النساء، أفيأتي اليوم متهتك ضعيف العقل مريض النفس يفصح بالنسخ ويجيئ بما لم يأت به الأولون ولا الآخرون!؟ ثم إن إعمال الكلام أولى من إهماله كما هو مقرر في القواعد الفقهية، فلم نهمل قول الله تعالى : "فاَنكِحُوا ماطاب لكم من النساء..." الآية إن كان لها وجه صحيح تفهم به كما بينا! اللهم إلا الهوى.

      ثم، أخواتي المسلمات، دعونا نختبر أمر التعدد بمنظار العقل والحكمة، بعد أن عرفنا موقف الشرع فيه، فالأوضاع الاجتماعية معقدة تعقيدا شديدا، والشريعة حين أباحت ما أباحت وحظرت ما حظرت، إنما هدفها الأول هو جلب مصالح العباد وتحقيق منافعهم في الدنيا و الآخرة على وجه الكمال و التمام. فإن قد ينشأ في آلاف الملايين من الأوضاع الإجتماعية ما يستلزم أن يتخذ الرجل حليلة أخرى فيكون ذلك منفعة له ومنفعة لها، بل وفي بعض الأحيان منفعة للزوجة الأولى. وأنتن عارفات بما تكون عليه حال امرأة لم يصبها حظها في الزواج حتى كاد أن يتقدم بها العمر، أو حال امرأة تعثر بها قدرها في زواج أول، خرجت منه بجراحات أليمة ووحدة موحشة. أو تكون المرأة ممن أنعم الله عليها بالإسلام فتركت دين قومها ولجأت إلى حزب الله من النساء والرجال، تريد استبدال قوم بقوم وأحباب بأحباب، وقد يكون لهؤلاء النسوة من يلجأن إليه، أو قد لايكون، كما في حالة من بدلت دينها، فماذا يفعلن في هذا الحال، أيبقين على عزوبتهن حتى وإن تقدم لهن من عنده حليلة أخرى، منتظرات لمن لا حليلة له!؟ أم يشاركن هذه الحليلة الأولى فيما أراد لها الله من الخير؟ ثم ما هو دور رجال المسلمين في هذا الحال، أيقعدن عن أن يأوين مثل هؤلاء النسوة، اللاتي لم يتقدم لهن من يؤويهن، أو تقدم لهن من أحال حياتهن خرابا!؟ أيكون ترك مثل هؤلاء النسوة الضعاف أمر من أمور الرجولة ومظهر من مظاهر النخوة، إن كان الرجل قادرا على أن يقوم بحق بيتين!؟ ثم كيف يكون هذا المجتمع الذي تقطعت فيه أوصار الرحمة ودوافع الأخوة بين المسلمات وعلا فيه صوت الأنانية المحضة على نداء الضمير والمروءة!؟ إننا نتحدث هنا عن نساء من بنات جنسنا يا أخوات، قد يمكن أن تكون أي منا هي هذه المرأة التي ننكر عليها رضاها بالتعدد. إنهن أخوات لنا يا أخوات، أخوات مسلمات قانتات عابدات، أنعينهن على الشيطان أم نعين الشيطان عليهن!؟ و المرأة لاتتقدم لطلب يد الرجل، فهي تنتظر من يتقدم لطلب يدها، فهي في هذا تابعة لا متبوعة، فكيف نلومها على اقتناص فرصة سنحت لها تقيها غوائل الدنيا وتمنع عنها شرورها!؟ ثم كيف نرى مجتمع كثرت فيه النساء غير المتزوجات، نساء يقفن وحدهن لمواجهة الدنيا، يتلاعب بهن شيطان الجن حينا و تتلاعب بهن شياطين الإنس أحيانا أخرى. ثم إن لهن متطلبات نفسية وعاطفية كما يعلم جميعنا، فهن من جنسنا كما ذكرت، فكيف بالله عليكن يكون الحال إن أجبرتهن أخواتهن المسلمات على أن يبقين في المجتمعات طليقات ليس لديهن من يعصمهن من الخطأ و الزلل!؟ وهؤلاء ليسوا قلة فينا يا أخوات و لكنهن كثرة و فيرة هي إلى ازدياد لا إلى نقصان، روى البخاري في "باب يقل الرجال ويكثر النساء" قال أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم ترى الرجل الواحد يتبعه أربعين امرأة يلذن به من قلة الرجال وكثرة النساء. الفتح ج9 ص 366.

      ثم فوق هذا وبعده، فإن الرجل الذي اتخذ حليلة أخرى أتراه فعل ذلك لمجرد أن يؤذي امرأته أم لسبب ظاهر أو باطن!؟ فإن كان قد فعل ذلك ليظلم امرأته فقد ظلم نفسه و ظلم امرأتيه جميعا، فويل له من عقاب الله سبحانه، أما إذا كان قد فعل ذلك لأمر مشروع، كحاجة في نفسه يرضيها في الحلال، ومشروع له أن يرضي ما تستدعيه الطبيعة البشرية بمقتضى ما شرع الله لا بالحرام المنهي عنه، أولغرض مشروع آخر كالإنجاب أو لمرض تعانيه زوجته الأولى أو لطلب شرف الإنتساب إلى شرفاء في قومه أو لغير ذلك مما ليس فيه خوض في حرام، أحل له ذلك، بل وكان مندوبا له محبوب فعله في بعض الأحيان، كإحصانه امرأة وحيدة والإنفاق على عيالها، أو قد يكون واجبا عليه إن تحقق منه أنه سيقع في الحرام إن لم يلبي نداء الحاجة الملحة في نفسه بحليلة أخرى، تماما كما هو الحال في مقتضيات الزواج الأول.

      توقفت أم الفضل لحظات لتلتقط أنفاسها، فقالت أم الفضل:"ولكن لا شك في أن المرأة، بل أعني المرأتين، تعانيان من غيرة ووحشة وفراغ في الوقت الذي يكون فيه زوجها في البيت الآخر، أفلا يجب أن يكون هذا مبررا لعدم استحباب التعدد، بل لمنعه جملة واحدة؟" قالت أم أنس:"والله لو أن الشريعة منعت كل أمر فيه ألم أو بعض أذى ما بقي فيها من المباح شيئز ولكن الأمر أخواتي الراشدات، أمر الغلبة، غلبة المصلحة على المفسدة والفائدة على الخسارة، والنفع على الضرر، فإنه كما نعلم، ليس هناك أمر إلا وله جانبان، جانب مصلحة وخير وجانب مفسدة وشر، فإن رجح جانب المصلحة على المفسدة، كان الأمر مباحا أو مندوبا أو واجبا بحسب حاله، وإن كان العكس فالعكس، وانظرن إلى الجهاد، وهو أسمى الواجبات الشرعية وأعلاها قدرا، فإنه مع ذلك يستدعي التعرض لفقدان النفس وألم القتل و فيه ما فيه من الأذى، ولكن لما رجحت مصلحة الجهاد على مفسدة تحمل أذى القتل صار واجبا، وفي حالتنا هذه، فإن المصالح المتحققة من التعدد تربو على مفاسده بلا شك، فإنه يختص بثلاثة أفراد، الزوج والمرأتان، وفيه مصلحة متحققة لاثنين منهما على أقل تقدير، ونعني بهما الزوج و الزوجة الثانية، لما سبق أن ذكرنا من أسباب استدعت كليهما للإقدام عليه، ثم إن مصلحة الجماعة أو المجتمع مقدمة على مصلحة الفرد، كذلك فإن الحالة الإجتماعية هي التي تدفع إلى قيام هذا الشكل من العلاقات لسد خلة قد تهدم الكيان الإجتماعي إن عولجت بشكل آخر. والمرأة المسلمة يجب أن تدرك أن هذا هو مدار الشريعة وأمر الله الذي رآه صالحا للبشر في هذا الموقف. ثم إنه لاشك أن المرأة تتعرض لأذى وغيره، وتشعر بفراغ في غياب زوجها، ولكن هل هذه فقط هي الحالة التي يمكن أن تشعر فيها المرأة بالفراغ و الأذى؟ أليس هناك أحوال أخرى تستدعي نفس الشعور كسفر الزوج لقضاء حاجة دنيوية؟ أو مرض الزوج فهو حاضر كالغائب؟ وأنا أدرك شعور المرأة في هذه الحالة ولا أريد أن انتقص منه أو أهونه عليعها، ولكن هذه هي حكمة الله السرمدية وقضاء النافذ، أن يكون هذا الحل هو أسلم الحلول وأقربها للصلاح في بعض المواقف العائلية والإنسانية، رغم ما فيه من ألم ووحشة وفراغ. على المرأة أن تستحضر ما كانت عليه زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، فهن قدوتنا في الحياة، وقد كانت لكل واحدة منهن سبع نساء يشاركنها في رجل واحد، هو أكمل الرجال طرا بأبي هو وأمي. فما ترضون من ذلك إلا قدر الطبيعة البشرية المقبولة التي يمكن أن يتعرض بموجبها الناس لأذى من مرض أو فقر أو مشاركة في زوج. وأهمس في أذنكن يا أخوات، أنها الأنانية التي تجعلنا لانقبل الشركة، فما علينا إن استطاع الرجل الذي أقام بيتا في أن يقيم غيره؟ أليس في هذا ثواب له لإنفاقه وإحصانه لإمرأة مسلمة عفيفة، وثواب لنا لرضانا بأن نقتسم ما أعطانا الله مع غيرنا من المسلمات؟ الإسلام يا أخوات ليس كلمات يلفظها اللسان وتتحرك بها الشفاه وكفى، لا، بل هو حقيقة يعيشها الناس ويرضونها في جدهم و لهوهم، في فرحهم و حزنهم، في سعادتهم وشقائهم، في لذتهم و ألمهم، في حياتهم كلها بلا استثناء، فإن لم تكن كذلك كان دينا منقوصا ليس لنا منه إلا اسمه، ولا من الحق إلا رمزه، يروى عن "رابعة بنت إسماعيل" أنها تزوجت أحمد بن الحواري الزاهد لأنها كانت امرأة كثيرة المال وودت أن ينفق أحمد مالها في أوجه الخير على رفاقه. قال أحمد: تزوجتها، فكان في منزلنا كنّ من جصّ، ففنى من غسل أيدي المستعجلين للخروج بعد الأكل، فضلا عمن غسل بالأشنان.وقال: تزوجت عليها ثلاث نسوة فكانت تطعمني الطيبات و تطيبني و تقول: اذهب بنشاطك إلى سائر زوجاتك"! ذلك هو الكرم كل الكرم، لا أن تنابذ المرأة بالعداء، وتبيت تكيد لها كيدا وتتمنى قهرها.

      إنه جزء من جهادنا في الله يا أخوات، أليس جهاد المرأة في بيتها معادل لجهاد الرجل في ساحات الوغى؟ ألسنا نؤمن بكل الكتاب، لا نؤمن ببعضه ونكفر ببعض؟ والتعدد مما أباحه الله سبحانه في الكتاب، ولم يجعل له داعيا إلا ما ارتآه صاحب الحق في أن يتخذ حليلة أخرى، و..."، هنا قالت أم عمرو:" على رسلك أم الفضل، أليس للتعدد أسباب وشروط يجب أن تتحقق حتى يكن للرجل حق في أن يتزوج الثانية؟" قالت أم الفضل:" هذا ولا شك هو ما يشاع في أوساط العامة وتشجعه السلطة الحاكمة ومن اتخذ العالمانية دينا، ولكن هذا أمر يطول شرحه لعلنا نجتمع على مدارسته في اللقاء التالي إن شاء الله تعالى."