فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      8- المباح المحرّم - 1/3

      قبل موعد اللقاء المعهود، طرق الباب في بيت أم هانئ وظهرت أم أنس على ‏الباب وقد تغير وجهها تغيرا ملحوظا حتى أن أم هانئ قالت لها: "أهلا بك أم أنس، ‏والله لولا معرفتي بك لأنكرتك لما يظهر على وجهك من التغير والتبدل! فما الأمر ‏وما الخبر؟ لعله يكون خيرا إن شاء الله تعالى." وران صمت قصير ما لبث أن ‏قطعته صرخة من الصدركأنها اهات ثكلى، ما مر على فقد ولدها أيام بل ساعات، ‏زفرتها أم أنس، وظنت معها أم الفضل أن نفس صديقتها قد خرجت مع تلك الزفرة ‏الثكلى. قالت أم هانئ وقد أخذ منها القلق كل مأخذ "عزيزتي، أربئي على نفسك، فما ‏من أمر ينزل على الإنسان إلا وقد جعل الله فيه حلا ومخرجا"، قالت أم أنس ‏وهي لا تكاد تلفظ نفسا إلا لتتعلق بالذي يليه خوفا من أن تزهق روحها:" إلا هذا ‏الأمر يا أم هانئ إلا هذا الأمر". ثم انخرطت في بكاء شديد. وتركتها أم هانئ ‏لحظات حتى هدأت نفسها، ثم أقبلت عليها قائلة "حدثيني الان، ما الخبر؟"، قالت أم ‏أنس :" حدث ما كنت أخشاه طول عمري، حدث ما تخشاه كل أمرأة أن يقع بها، ‏حدث ما أعتقد أنه سينهي حياتي قبل أوانها، حدث ما..."، قاطعتها أم هانئ ‏قائلة :"على رسلك يا أختاه، وقولي لي ما حدث مرة واحدة، فقد استبد بي القلق ‏وأخذت بي الظنون كلّ مأخذ،" قالت أم أنس:"اتخذ زوجي حليلة أخرى". ران ‏صمت عميق لمدة ثوان، دارت فيه عيني أم أنس في حدقتيها كمن يبتغي مهربا ‏من شر واجهه أو مصيبة توشك أن تقع به. ثم بعد وقت ليس بقليل، قالت أم هانئ :" ‏فهمت عنك أم أنس، ولكني لا أريد أن تُراعي بهذه الدرجة الشديدة فإن الحياة لم ‏تقف بعد ويوم القيامة لم يحن وقته بعد، والساعة لا تزال غيبا من الغيوب، إنما ‏أقصاه أن هذا موقف اجتماعي لم يعتاد عليه الناس منذ عدة مئين من السنين، ولعلنا ‏نتحدث وجه الخير فيه ووجه الأذى منه"، صاحت أم أنس صيحة المفجوع: "أو ‏فيه وجه للخير أم هانئ" قالت أم هانئ :"أو ما علمت يا أم أنس ما من أمر من ‏أمور الدنيا إلا وجعله الله مبنيا على اختلاط الخير والشر، والصلاح والفساد، وأن ما ‏شرعه الله من واجب أو مستحب أو مباح فإنما هو لما غلب فيه الخير على الشر ‏وربت فيه المصلحة على المفسدة" قالت أم أنس وقد هدأ روعها بعض الشيء:"فما ‏وجه المصلحة والخير في هذا الأمر الذي يكاد أن يكون خرابا للبيوت ولوعة وأسى ‏للزوجة الأولى ، جرعات من الحزن تتجرعها المسكينة كل ساعة يقضيها زوجها ‏في بيته الآخر ، بعيدا عن أبنائه وعن بيته الأول الذي شهد نشأتهم ،ثم كيف يأمن ‏عقاب الله حين لا يعدل وبينهما ،وهل في مقدوره العدل ،ثم أليس الله سبحانه قد قال ‏:‏ "ولن تعدلوا بين النساء ولو حرصتمُ "، بعد أن قال " وان خفتم ألا تعدلوا فواحدةُ " ‏، أليس هذا منعاً للتعدد ؟ . قالت أم هانئ وقد فاضت عيناها بالحنان والرقة لما ‏شعرت من أسى صديقتها وحزنها الأصيل :فليهدأ روعك أختاه، ولنتحدث عن ‏الموقف بعقل مفتوح وبقلب عامر بالإيمان ،إذ إنه بغير الإيمان تزل الإقدام وتتوه ‏العقول ويضل الناس الطريق ، فقد أثرت أمورا وقلت أقوالا لا تمت للشريعة بحال ‏، وان عذرك أنك في هذا الحال من الانزعاج والاضطراب . ولكن دعينا ندرس ‏هذا الموقف من كافة جوانبه ، فالأمر مداره أن رجلا قد أتخذ زوجا ثانية .وان ‏تركنا الشريعة جانباً الآن، فان الرجل يفعل ذلك لأحد أمرين : أولهما أن يكون قد ‏افتقد السعادة والاستقرار والتفاهم في بيته، واتسعت شقة الخلاف بينه وبين زوجته ‏‏– سواء لسوء فيه أو لسوء فيها ، فان هذا خارج عن موضوعنا ، المهم أن هذه ‏هي النتيجة التي وصل إليها من قرر هذا الأمر، أقول اتسعت شقة الخلاف بينه وبين ‏زوجته لدرجة صارت حياته معها لا تستمد وجودها إلا من إحساس بالمسؤولية ‏تجاه المرأة وتجاه أبنائه الذين كتب عليه أن يرعاهم حتى يشـــــّبوا عن ‏الطوق . وقد قال عمر بن الخطاب لمن جاءه يقول :أريد أن أفارق زوجتي ، فاني ‏لا أحبها ، قال عمر : أو كـلّ البيوت بنيت على الحب ،فأين الرعاية والتذمم، ويا له ‏من قول بليغ رائع يمثل قمة الرجولة بمعناها في تحمل المسؤولية والصبر على ‏المكروه .والأمر الثاني ، أن الرجل مع رضاه عن زوجته وكونها امرأة بكل معاني ‏الكلمة ، نشيطة ذكية تعرف حقه وتقوم به ، فتسكت إن غضب ،وتضحك أن ضحك ‏، وتعينه على بلوى الدنيا، أقول، رغم هذا فقد عنّ له أن يتخذ زوجه أخرى ‏لإرضاء حاجة في نفسه ليس إلا، هذه الحاجة قد تكون إنجاب ذرية حيث عطلت ‏الزوجة عن الإنجاب ، أو لمرض داهمها أعجزها عن القيام بحقه، أو مجرد حاجة ‏في نفسه لا دخل لزوجته الأولى بها. ولا تكاد تعدو الأسباب في اتخاذ زوجة أخرى ‏ما ذكرنا. " قالت أم أنس ": "أو يصح لرجل ان يتزوج لمجرد رغبته في ذلك؟" ‏قالت أم هانئ : "دعينا نبدأ الموضوع من أوله. فقد قال تعالى في سورة النساء "فان ‏خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم مثنى وثلاث ورباع،فان خفتم ألا ‏تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ، ذلك أدنى ألا تعولوا" النساء٣ . وقد أجمع ‏العلماء على أن هذه الآية إباحة لتعدد الزوجات إلى الأربعة . والحق أن ذلك لم ‏يكن رفعاً لحد المسموح به إلى الأربع،بل كان تحديداً للمباح بأربع لا أكثر حيث أن ‏العرب كانوا يتزوجون أكثر من ذلك، ما شاء لهم هواهم، فحددها الله سبحانه بأربع ‏حتى يتحقق الغرض من الزواج بهذا القدر لا بأكثر منه. ولننظر في سبب نزول ‏الآية الكريمة من سورة النساء ،روى البخاري عن عروة بن الزبير أنه سأل عائشة ‏رضي الله عنها عن سبب نزول الآية قالت : " يابن أختي هذه اليتيمة في حجر وليها ‏تشركه في ماله ويعجبه مالها وجمالها فيريد وليها أن يتزوجها بغير قسط في ‏صداقها ،فيعطيها مثل ما يعطيها غيره فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا إليهن ‏ويبلغن بهن أعلى سنتهن في الصداق، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء ‏سواهن"رواه البخاري ، وأذكر لك هنا بعض ما يجب أن نتعلمه من القواعد الشرعية ‏التي تحكم النظر في النصوص الشرعية حتى نفهمها على الوجه الصحيح. أولا ‏أختاه، فان معرفة سبب نزول الآية من القرآن في غاية الأهمية لإدراك معناها وما ‏فيها من أحكام ،ومعرفة عامّها وخاصّها. وهذه الآيات الكريمة عامة في التنبيه على ‏معاملة المسلمين فيمن هن في رعايتهم من اليتامى بطريق المنطوق، ثم بينت بطريق ‏المفهوم أن المسلم له أن يتزوج اثنتين وثلاث ورباع من النساء غير من في حجره ‏من اليتامى. ولا يعني هذا،كما قال بعض مؤولة النصوص المغرضين أن هذه الآية ‏خاصة في ظروف من في حجره يتامى فقط، إذ إن التعدد ليس له معنى في هذه ‏الحالة فقط، وإنما هي لإنشاء حكم عام يندرج تحته من في حجره يتامى بطريق ‏العموم. أمّا ما ذكره البعض الآخر من المغرضين أو مم قّل فهمه واضمحل علمه، ‏أن الجمع بين آية النساء ٣ "وأن خفتم ألا تعدلوا فواحدة" وآية النساء ١٢٩ " ولن ‏تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم"، فيقرؤوهما متتابعتين ثم يخرجوا من ‏هذا الخلط بأن الله منع التعدد بنص الآية إذ إنه سبحانه قرر أن الرجال لن يعدلوا ‏بين النساء! وهذا الأمر من أسخف التحريف لكتاب الله سبحانه ، فانه، مع أن الآيتين ‏ليستا متتابعين، فان الله سبحانه لا يحتاج إلى أن يمنح ثم يمنع في آيتين من آياته، ‏يمنح بنصّ واضح صريح ،ثم يمنع بنصّ مغطى مشوش، والأولى أن يقول بطريق ‏واضح أن الزواج بأكثر من واحدة أصبح ممنوعا بعد أن كان مباحاً، كما فعل في ‏تحريم الخمر ،حيث تدرج في بيان خبائثها مع استمرارية إباحتها، ثم منعها بالكلية ‏في قوله تعالى " قل أن الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان ‏فاجتنبوه لعلكم تفلحون"، فالتحريم هنا واضح صريح، أتى بعد إعداد متدرج من ‏بيان أنها تشتمل على نفع قليل وضرر كثير ،وأن ضررها يربو على نفعها، ثم ‏ضرر الفعل نفسه (شرب الخمر )، ثم تحريمها مطلقاً، ولكن الحالة هنا معكوسة، إذ ‏انه ليس هناك تدرج في بيان ضرر التعدد ابتدءاً،بل العكس، فقد أباح الله سبحانه ‏التعدد بآيات صريحة في مقام المنّ على عباده، فلِما يعرج على ما أباح فيحرّمه ‏بهذه الطريقة التي هي مدارة وتلميح لا تشريع واضح صريح!هذا لا يكون .‏

      وقوله الله تعالى "فان خفتم ألا تعدلوا فواحدة" أنما هو من قبيل التحذير الخاص الذي ‏يخاطب في الرجل ضميره ودينه،لا أنه يخاطب السلطة الحاكمة فتمنع أو ‏تسمح،والخوف المقصود في قوله تعالى "فان خفتم"يعني أن على الرجل أن يمتحن ‏نفسه فان آنس قدرة على العدل فلا حرج عليه في أن يتخذ زوجاً واثنتين وثلاثة ‏ورباع، وان رأى من نفسه عجز عن العدل، فعليه وحده أن يعدل عن التعدد ،فان ‏حسابه في هذا الظلم سيكون على الله وحده، وليس هناك عقوبة دنيوية أو حدّاً على ‏الظلم إن وقع في هذه الحالة فالمعوّل على الرجل نفسه ،هو وحده الذي يحدد إمكانية ‏العدل أو عدمه،ويتخذ قراره على أساس من تقوى الله ومراعاة دينه .‏

      وآية "ولن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم" قد تحدث عنها الناس كثيرا وتناولوها ‏بالتفسير المغلوط ،أن الله سبحانه هنا قد بيّن استحالة العدل بين النساء ،وبما إنه ‏سبحانه قد اشترط العدل للتعدد في الآية السابقة ،فهذا يعني تحريم التعدد! ويالها من ‏دورة الله سبحانه غنيّ عنها كما أشرت من قبل، فالله سبحانه لم يشترط العدل للتعدد ‏كما بينت لك من قبل، بل ربطه بقرار الرجل الحر بناء على خوفه من إقامة العدل ‏أو عدمه، والآية المذكورة هي آية خبرية لا إنشائية، أي لأنها تخبر عن أمر كائن لا أنها تنشأ حكمــــاً شرعي، والفرق بينهما كبير ، وهذا الخلط هو في حقيقة الأمر سبب كل هذا الهراء عن ‏تحريم التعدد، وما تبعه من شعور النساء في عصرنا هذا بوقوع الظلم ومجانبة ‏الشريعة في أمره.‏

      نظرت أم أنس في ساعتها، وتنهدت قائلة "أخشى يا أختاه أنني يجب ان أغادر ‏الآن، لأعود إلى المنزل قبل حلول الظلام، ولكن لعلنا أن نستكمل الحديث عن هذا ‏الموضوع في لقاءنا القادم مع بقية الأخوات لتتم به الفائدة إن شاء الله ". وغادرت أم ‏أنس منزل صديقتها على أمل العودة في القريب العاجل .‏