فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      الزيارة الأولى .. في المعتقل الجديد

      الحمد لله والصّلاة والسّلام على رَسول الله صلى الله عليه وسلم

      بعد مكاتباتٍ ومراسلاتٍ، وتصاريحٍ ومكالمات، دامت أكثر من ثلاثة شهور، أخذنا موعداً لزيارة ابنى الحبيس، في معتقله الجديد. وأمس، بعد رحلة طويلة، استغرقت سبعة ساعات بالسيارة، وصلنا لتلك لضّاحية لافال، من ضواحي مونتريال، حيث يقع المُعتقل الجديد، الذي نَقَل اليه الظالمون ابنى شريف، منذ خمسة أشهرٍ.

      قضيت الليلة، في هذه البلدة، بين النوم واليقظة، والتشّوق والترقب، تختلط في النفس مشاعر فرحٍ وافد، وحزن مقيم. طَلع الفجر، وغاب النوم عن العين. وفي الثامنة صباحاً، توجهنا إلى المعتقل البغيض. مكانٌ فسيحٌ، تحيطُ به شبكتين متتاليتين من أسوار عالية بأسلاكٍ شائكةٍ، وتتناثر حوله أبراج المراقبة، وتقع داخله عدة مبانٍ لا تعلو عن طابقٍ واحدٍ. واقتربنا من البوابة، التي فُتحت تلقائيا، لندلف منها إلى مكتبٍ صغيرٍ حقيرِ المَظهر، حيث تم تسجيل الأسماء والتأكد من الهويّات، والمرور خلال أجهزة الكشف، ثم إلى داخل المبنى المقابل، لإعادة الكرة مرة أخرى، ومنها إلى غرفة ضيقة بلا تهوية، تنقسم إلى قسمين، بينهما ذلك الزجاج المقوى، وبه فتحاتٌ لنقل الصوت، وثلاثة كراسى.

      وبعد لحظات ترقبٍ وتوجّسٍ، ظهر ابنى، ومن وراءه حارسان، وفي يده القيودُ البغيضة. دخل إلى النصف المقابل من الغرفة، حيث رفعوا عن يديه القيود، ثم واجهنا، وجلس، تبسم، وتحدث، وضحك، وسأل عن أمور كثيرة، وعلق تعليقاتٍ تحمل كلّ تراث المِصريّ من الفكاهة وخفة الظل، وتحمل موروثاته من جدّ ابيه، الشيخ البشرىّ بما عُرف عنه من خفةِ ظل يضرب بها الأمثال.

      كانت محاورتي له تدور من وراء عقلي، أشبه بمجرد إختزالات من على طرف اللسان، إذ كان العقل بعيداً، يتساءل، كيف حدث هذا الذي حدث؟ أين كان هذا خبيئاً؟ في كتاب الله المكنون، مقدّراً لنا وله، سبحانه، وليّ الرحمة وصاحبُ الحكمة.

      مرت ساعةٌ كأنها دقائق معدودة، رحت فيها أتفقده من رأسه إلى قدميه، وكأني اتأكد أنه سالم لم ينقص منه شيئاً. سألته عن قلبه، الذي أجرى فيه عملية قلب مفتوحٍ قبل إعتقاله بأيامن تركت في صدره شقاً من اسفل الحلق إلى آخر البطنن فطمأنني انه يأخذ دواءه بإنتظام. ظهر الحارسان مرة أخرى، إيذاناً بإنتهاء الزيارة، وتماسكت، وأجبرتُ العين أن يغيضَ دمعُها، وسايرت فكاهة شريف وضحكه، وسلَمت عليه من وراء الحِجاب الزُجاجيّ، وعُدت، مع أمه وأخته، من حيث أتينا. لم نتبادل إلا كلماتٍ قليلة، فليس ثمة ما يقال.

      ثم بدَأت رحلةُ البكاء والتصدّع، اللهم رحماك بولدي.