فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      القرضاوى .. و”خطابنا الإسلاميّ في عصر العولمة”

      أخرج الشيخ القرضاوى كتابه "خطابنا الإسلاميّ في عصر العولمة" بعد أحداث سبتمبر 2001 الشهيرة، والتي نفّذتها القوى الصليبية والصهيونية لتبرِرَ الإعتداء العسكريّ السافِر على الإسلام والمسلمين. وكان من جرّاء هذا الإعتداء، وتكميلاً للعدوانية الإستعمارية على الإسلام وأهله، ذلك التبجّح الصَارخ الذي تمثّل في مُطالبة العدوّ الأمريكيّ بتبديل المنَاهج الدراسية الإسلامية ليُحذف منها آيات الجهاد والآيات الخاصة بكفرِ اليهود والنصارى، وتعديلِ الخطابِ الإسلاميِّ في بلادنا بما يتمشّى مع الغَرضَ الصليبيِّ الصهيونيِّ في تحريفِ الإسلام وإستئناسِه توطِئة لمَحوه كليّة من الأرض.

      أما عن المناهِج الدراسية الإسلامية، فقد رَضّخَت النُظُمُ المُتَحَكِّمَة في غالب البلاد العربية لمَطلبِ التغيير، وأعيدت كتابة مناهِج التربية الدينية، وحُذفت المَادة كليّة في بعض البلدان، وأغلقت مدارس تحفيظ القرآن في بلدان أخرى، وغير ذلك كثير مما لا يسعَه هذا المقام.

      أما عن تعديل الخطاب الإسلاميّ، فقد كان أصعب على النظم المُتَحَكِّمَة أن تبدله وتغيره بشكل سريع كما في حالة المَناهِجِ الإسلامية، إذ لا يخضَعُ الخِطاب الإسلاميّ بشكلٍ كاملٍ لسيطرةِ النظم المُتَحَكِّمَة إبتداءاً، إلا في المَجال الرَسميّ، فأغلقت المساجد في بلدان إلا في وقت الصلاة، ووضعت خطب الجمعة تحت الرِقابة بِشكل دائم، وأختير الوزراء والمُفتون على عَين النُظُمِ المُتَحَكِّمَة فمثلا أسْندت وزارة الأوقاف في مِصر إلى عِلمانيّ عدو للإسلام، وهكذا في مجالات أخرى كثيرة. لكن الخطاب الإسلاميّ الذي يقدمه الدُعاة المستقلون ليس تحت السَيطرة المُباشِرة للنُظُمِ المُتَحَكِّمَة، إذ للدعاة مواقعٌ وصحفٌ يكتبون فيها ما يرونه ويعتقدونه. فقيّدت بعض البلدان الفتوى ومنعتها إلا للجهات التابعة لهان وتعقبت بلدان أخرى الدعاة بالإعتقال والتشريد.

      لكنّ البعض خَضَعَ لمنحى تعديل الخِطاب الإسلاميّ، إما ضعفاً وتهاوناً في الدين وجَهلاً بطبيعته، وإما عِماَلة للغرب أو للنُظُمِ المُتَحَكِّمَة، وإما إنحرافاً عن المنهج السَويّ إتباعاً لشبهة أو بدعة، وإما بحثاً عن شهرة وإرضاءاً لشهوة.

      وقد أحسن الشيخ القرضاوى بإصدار كتابه هذا، إذ لاحَظ أنّ "التَغيير في هذا الوقت أو في هذه الهوجة، مَحفوفٌ بخطرين:

      الأول: خطرُ الإذعان للضغوط الأمريكية المُدجّجة بالسلاح والمَال والعِلم والدَهاء والتخطيط....

      والثاني: خطرُ تَمكينِ الفئات اللادينية لتسَاهم في توجيه المَرحلة القادمة للأمة، بترويجِ فكرِها المُستورد، ومفَاهيمها الدَخيلة ..." خطابنا الإسلاميّ 15.

      كما أحسن الشيخ القرضاوى حيث قرر أنّ "الدين في أصوله وكلياّته العَقائدية، والتَعبدية والإخْلاقية والشَرعِية، لا يتغيّر، ولكن الذي يتغير هو أسلوب تعليمه والدعوة اليه" السابق 21. وهو القدر الذي نشارك فيه الشيخ القرضاوىن إذ لا شكّ أنّ الخطاب الإسلاميّ – إن عنينا به طريقة الدعوة واسلوبها – يتغير ويتبدل بتبدل الأحوال والأغراض، على أن يكون مصدره ذائما واحد لا يتغير، كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

      لكنّ الشيخ القرضاوى خَالفَ إلى ما يدعو اليه، في بعضِ ما كَتب، وهو مَوضُوع هذا المَقال وهذه المُراجَعة.

      مفهوم الإسلام والأديان:

      في حديثه عن الحوار بين الأديان، ونَـقدِه لمن قال أنّه ليس هناك "أديان" بل هو دينٌ واحدٌ هو الإسلام، قال الشيخ القرضاوى أنّ هذا الكلام "في ذاته غير صحيح، فهناك أديان غير الإسلام، وقد قال تعالى: " لكم دينكم ولي دين"، والآية التي استدل بها ترد عليه "ومن يبتغ غير الإسلام دينا"، وقال تعالى "يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم". ... وربما كان هذا – الخطاب – نتيجة لعدم المعرفة بالآخر وقد قال العرب قديماً: من جهل شيئاً عاداه" السابق 24.

      وهذ الذي إعترض به الشيخ على القائل يحتاج إلى إيضاح لما فيه من حق وباطل.

      فكلمة الدين لها معنى لُغَوى وإستعمالي وشَرعيّ كما هو معلوم في أصول الفقه واللغة. وحين نتحدث عن الدين بالمعنى الإستعماليّ الوضعيّ فإنه يشمل أيّ دين يسميه أهله ديناً، وهو أي مجموعة من القيم والمبادئ التي يُرْجِعُها أهلُها لمصدرٍ غيبيٍّ أعلى، فتشمل اليهودية والنصرانية المُحرَّفتين، وهو المعنى الذي أشار اليه القرآن في قوله تعالى القرآن في آية الكافرون: }لكم دينكم ولي دين{. أما المعنى الشرعيّ للدين، فهوالذي يشير اليه قوله تعالى: }ومن يبتغ غير الإسلام دينا{، إذ الدين الوحيد الذي يستحق أن يُسمى ديناً والمُعتَمد عند الله بالقبول هو الإسلام لا غير، وقول الله تعالى: }يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم{ ليس بحجة على القائل كما قال القرضاوى، إذ إن الدين هنا هو الإسلام كذلك وهو الدين الأصلى لليهود والنصارى كما هو معلوم من القرآن، إذ جاءت كلّ الأنبياء بالإسلام لا غير، فالله سبحانه في هذه الاية الكريمة يحذر أهل الكتاب في أن يغلو في دينهم الذي أرسله الله اليهم بزيادة أو نقص، وهو الإسلام بلا شكّ.

      وهذه الشبهة عند الشَيخ القرضَاوى هي التي مَهّدَت لِكثير من المَفاهيم الخَاطئة غيرها مثل موقفه من ذميّة أهل الكتاب كما سنبيّن

      سنّة التدرج في الدعوة:

      وسنة التدرج في الدعوة سنّة نبوية لا شكّ فيها، وهي تتماشى مع واقعية الإسلام وعمليته ومراعاته لإنسانية البشر وقدرتهم على التكيّف مع المستجدات من المفروضات. هذا أمر، وما ذهب اليه الشيخ من أنّ الهجوم على التصوف خروج على سنّة التدرج أمر آخر. فإن التصوف إبتداءاً، بدءاً بعُنوانه، يُعارض سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من قبيل الباطل الذي تلبس بحق.

      والقرضاوى يقول في كتابه:"كما نرى هؤلاء الدعاة الطيبين يبدؤون بحملة على التصوف كله، وإتهامه أنه دخيل على الإسلام، لا يفرقون بين سنيّ ومبتدع، وبين مستقيم ومنحرف" السابق 41. ولا أدرى ما دخل هذا بسنة التدرج! لكن أي تصوف سنيّ يتحدث عنه القرضاوى فيما نرى من الطرق الصوفية ومشايخها الذين نرى من فعالهم ما تزول منه الجبال، على أرض الواقع. والتصَوف السُنيّ هو السُنّة، والإستقامة في التصوف هي السنية، فما الغرض من الإنحراف عن لفظ السنة إلى لفظ التصوف إذا؟ إنما هي الخدعة التي انطلتْ على الكثير من أصحاب النفوس الطيبة الوديعة المسالمة كالشيخ القرضاوى، فما رأوا أن الحق الذي يخلط به الصوفية البهاليل باطلهم إنما هو لتحليته وتزيينه، كما يضاف الملح إلى الطعام ليغطى على عَفَنِه ونَتَنِه.

      ثم، أين رأينا الشيخ القرضاوى ينتقد أهل التصوف "الزائف"، وهم يرتعون ببدعهم في الميادين والطرق والمحافل، يدّعون طرقاً ما أنزلَ الله بها من سُلطان، ترقص وتطبل وتهتز وتتواجد ما شاء لها مشايخها، ومنهم على جمعة البهلول، فأين يقع هذا من سنة التدرّج؟

      كما يقول الشيخ القرضاوى:"وهل إطلاق اللحية من أركان الإسلام وفرائضه حتى نبدأ بها، ونعطيها هذه الأهمية في الدين" السابق 41.

      ونحن لا نرى بأساً في أن يُرجئ الداعية الحديث عن اللحية مع من ترك الصلاة، أو أهمل الزكاة، وهو من دواعى سنة التدرج ولا شك، لكن أن يدعى القرضاوى أن إطلاق اللحية ليس من الواجبات الشرعية في الهدي الظاهر لهو أمر لا يصح من أمثاله البتة. بل إنه قد أقر قبلها أننا "إذا كنا في قلب ديار الإسلام والعرب، مُبْتَلين بحليقي اللحية.."، السابق 41. فإعتبر حلق اللحية بلاءاً وهو الصحيح، فكيف نوفق بين النظرين في كلام الشيخ؟

      الأدعية الإستفزازية:

      مرة أخرى تُغشى طبيعة الشيخِ القرضاوى الهَادئة الوادعة على الحق البيّن، حين تحدّث عن الأدعية التي سمّاها إستفزازية في خطب الدعاة. قال الشيخ :"على أني لم أجد في أدعية الرسول ولا أدعية الصحابة مثل هذه العوات المثيرة: تيتيم أطفالهم وترميل نسائهم" السابق 47. ويقول "إنما اللائق المناسب أن ندعو على اليهود الغاصبين المعتدين وأن ندعو على الصليبيين الحاقدين الظالمين، لا على كلّ اليهود والنصارى" السابق 47.  

      ولا شكّ في أن الدعاء على المسالمين المعاهدين من أهل الكتاب لا يصحّ، بل العكس فالدعاء لهم بالهداية هو الأولى. ولا أرى الدعاة الذين يدعون على الكُفارِ من اليهود والنصارى إلا قاصِدين لهؤلاء الغاصبين المُعتدين. أما عن استعمالهم لدعاء الصحابيّ الجليل خبيب "اللهم إحصِهِم عَدداً وأقتلهم بدداً ولا تُغادر منهم أحداً"، فلا أدرى من أين أتي القرضاوى بخصوصية هذا الدعاء؟ فهو صحيح على كل غاصب  معتدى. وأن لا يغادر الله منهم أحداً أي من الغَاصِبين المُعتَدين، وهو ما يقصده الخُطَباء، لا كل نَصْرانيّ أو يهوديّ.

      كما أنّ الواقع هو أنّ المُعتدين الظَالمين لهم من يُسَانِدَهم مِمن يُفْتَرَضُ أنهم من أهل الذمّة والمُوادَعَة، وقد أفصح هؤلاء عن أغراضهم وتوجهاتهم بعد أن كتب القرضاوى كتابه بسنوات قليلة، فهاجم المثلثين من النصارى القبط المهاجرين الإسلام، ومولوا حملات الإهانة والتشويه لدين الله، وأسروا النساء المهاجرات إلى الله، وصارت غالبيتهم من المُوالين لشنودة المُثَلِثْ، فصار الدُعاء عليهم كافّة مما يَتلاءم مع الشَريعة والواقع.

      ثم، اين هذا الدعاء الإستفزازيّ كما يقول القرضاوى مما وصف الله تعالى من عذاب الكافرين من أهل الكتاب وغيرهم؟ وماذا يقول القرضاوى فيمن وصف من الدعاة هذا العذاب وأنواعه وأصنافه من آيات الله ونسبه إلى من كَفَر وثلّث، أفي هذا إستفزازٌ ورعونة وقلة حياءٍ مع الكفار؟!

      "غير المسلمين" بَدل "الكفار"

      وهو من العجب الذي أتى به الشيخ القرضاوى في كتابه، تَسَامحاً وتهَادناً مع اليهود والنصارى، فقد أراد أن يُبَدّل إستخدام تعبير القرآن والسُنّة عنهم بلفظ "القرآن"، إلى لفظ "غير المسلمين"، حتى لا يَجرح شُعورهم ويؤذيهم كما جاء في كتابه ص48.

      ولفظ "غير المسلمين" لا بأس بإستخدامه للتعبير عن كافّة الكُفّار، لكن هذا لا يكون على حساب حذف كلمة الكفار من قاموس الإستخدام، فإن إستخدام القرآن والسنة له ينبئ بأهمية خاصة وهي التذكير بالبشاعة التي يرتكبها هؤلاء البشر ساعة بعد ساعة ويوما بعد يوم، من إدعاء أنّ لله ولدا، أو أنّ الله قد إختص بني إسرائيل بالأنبياء وأن محمداً كاذب في دعواه، وهو غَرضٌ يَتمشّى مع قُوة الإسلام والحِفاظ على يقظة المُسلمين ومَعرفة أعداء الله، وإنْ بَرّوهم وأقسَطوا اليهم.

      ومن العجب الآخر أن يَخصّ القرضاوى آية الكافرون بالمشركين الوثنيين!، لا أدرى من أين جاء بهذا التخصيص، وإن كان سبب النزول في الوثنيين، إلا أنه يعلم طالب العلم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وإلا فهل نعبد ما يعبد أهل الكتاب؟ وهل هم عابدون لما نعبد؟ ثم أليس النصارى واليهود كفارٌ شرعاً؟ فلم تخصّ هذه الآية بالوثنيين؟ زلة عالم لا أحسبه يرضى عنها.

      ثم لم يخُصّ جدال أهل الكتاب بالتى هي أحسن، هل نجادِل غير أهل الكتاب بالتي هي أسوأ؟ أم إن جدالهم ممنوع أصلاً؟ وفي هذه الحالة لا يكون ما يدعو اليه القرضاوى من حوار الأديان، بما فيها الوضعية، له اساس من الصحة.

      ونحن نتفق مع الشيخ أنه حين نخاطب كافراً من أهل الكتاب أو غيره، فلا يصح ان نقول: أيها الكافر، ولا أحسب أن أحداً من الدعاة فعل ذلك، فهو أمرٌ تأباه الفطرة السويّة، ولكن الخُطب والكُتب ليست مخاطبة فردية، ولا يجب فيها ما يجب في المشافهة، إذ هي مسجّلة على الخطيب أو الكاتب، ولا يصح أن تَحمِل إلا حقاً، فإن أردنا أن نتحدث عن النصارى قلنا النصارى، أو عن اليهود قلنا اليهود، إلا إن إستلزم المَقَام أن نُبين ما هم عليه، فحينئذ لا بد من أن نثبت كفرهم، والعجب أن الشيخ يعلم أن هناك من المولودين على دين الإسلام، المرتدّين عنه لاحقاً من يقول أن اليهود والنصارى ليسوا بكفار، بل هم من أهل الجنة كالمسلمين سواءاً بسواء. وما أرى هذا الإنحراف إلا نتيجة المسامحة والموادعة المبالغ فيها من الشيخ القرضاوى ومن نحا منحاه في المبالغة في المهادنة والموادعة.

      مواطنون بَدل أهل ذمّة!

      وهي من أكبر الطّوام التي خرجت من جعبة الشيخ القرضاوى، وأهل الوَسَطِية المحرّفة ممن يستتر وراء الشيخ، كمحمد سليم العوا وفهمى هويدي ومحمد عمارة وغيرهم. النصارى ليسوا بأهل ذمة، بل هم مواطنون مثلهم كمثل المسلمين سواءاً بسواء. وهذا التقرير لم يأت به أحد من قبل، بل هو من التجديد الذي يَقصِدُ إلى التبديل. وحُجة الشيخ أن القبط لا يحبون هذه الكلمة ولا يستسيغونها بل "يتأذون من هذا المصطلح" السابق 50! وهو من أعجب الحجج، فمالنا أن يتأذّوا من المصطلح؟ وهم يتأذون من قول القرآن "لقد كَفَر الذين قالوا إنّ الله ثالثُ ثَلاثة" فكيف سنُبدِل هذا لنتجنب تأذيهم؟ وهل نترك بهذه البساطة مصطلحات تحمل تاريخاً وتعكس حقوقاً وواجبات حملتها قرون متطاولة، ليأتي اليوم ضغط من ساويرس وعصابته، فنترك المصطلح؟ ومن قال إن مصطلح المواطنون يوازى ويكافؤ مصطلح الذمّيون؟ إن المواطنة تقوم على عقد الإسلام أصالة بالنسبة للمسلمين، وتبعية بالنسبة لغيرهم من أهل الكتاب المعاهدين، فكيف نوازى بين الأصالة والتبعية؟ وماذا إذا خرج البعض عن العهد، كما هو حادث اليوم في مصر من خروج الكنيسة برمتها عن العهد، كيف يميّز هؤلاء إذن؟ أنهم مواطنون خونة؟ فإن كانت النتيجة واحدة وهي خيانة العهد، فما فائدة الحذف والتبديل، اللهم إلا رفع الإسلام عن التمكين في الأرض، وتسويته وأهله بالمشركين، تحت إسم المواطنة.

      وقد ناقشنا فكرة المواطنة وخطرها على كيان الأمة الإسلامية http://www.tariqabdelhaleem.com/new/Artical-455  وما تعكس من إستسلام هؤلاء المفكرين والفقهاء الذين عجزوا عن الوقوف في وجه المدّ الصَليبي الصَهيونيّ، فراحوا يُحاولون تبديلَ المُصْطلحات الشَرعية غير عابئين بمغبّة هذا التَبديل في القريب العاجل، بَلْهَ البعيد الآجل. وكيف ولماذا هذا التنازل المقيت الإنهزاميّ لصالح 5% من الشعب المصريّ ونحن نعلم أنهم إنما يتقوون بالغرب الصليبيّ مالاً وعتاداً، ليضربوا الوَطَن الإسْلاميّ في مصر، لا مَكنَهم الله من ذلك.

      ثم يقرر القرضاوى أنّه لا يجب كذلك التعبير بلفظ "الجزية" لأنه يؤذى القبط في مصر، وأنّ الجزية مقصودة لمعناها لا لإسمها، وأنّ عمر بن الخطاب قد قبل الجزية تحت إسم آخر لأنفة العرب من هذا الإسم، لكننسأل الشيخ القرضاوى، وأين هم الذين يقبلون بدفع الجزية؟ فهؤلاء القبط قد ردّوا الجزية إسماً ومسمى، فما بالنا نتحسس على مشاعرهم وكأنهم قوارير رقيقة، بعد أن ردوا شرع الله فيهم وهو ما ينقض عهدهم ويبيح للمسلمين أن يعاملون معاملة الحربيين؟

      التعبير بالأخوة عن العلاقات الإنسانية:

      وهي طامّة أخرى من طَوَام الشيخ القرضاوى، خَرجت بها نفسُه المُوادِعة السَمحة في غير مَواضع السَماحة والمُوادعة. وقد نقضت هذه الدعوى في كلامه من قبل وأنقلها هنا للفائدة:

      " جاء عن الشيخ القرضاوى : " فهؤلاء ـ إذا كانوا من أهل وطنِك ـ لك أن تقول: هم إخواننا ، أي إخواننا في الوطن ، كما أن المسلمين ـ حيثما كانوا ـ هم إخواننا في الدّين.  والفُقهاء يقولون عن أهل الذمة : هم من أهل الدار ، أي دار الإسلام ). فالأُخُوّة ليست دينيّة فقط كالتي بين أهل الإيمان بعضِهم وبعض ، وهي التي جاء فيها قول الله تعالى : (إِنَّمَا المُؤمِنونَ إِخْوَةٌ) الحجرات : 10 بل هناك أُخُوّة قوميّة ، وأخوة وطنيّة ، وأُخوة بشريّة . والقرآن الكريم يحدِّثنا في قَصص الرُّسل مع أقوامِهم الذين كذَّبوهم وكفروا بهم ، فيقول : (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المُرْسَلِينَ . إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقونَ) (الشعراء : 105،106). (كَذَّبَتْ عَادٌ المُرْسَلِينَ. إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ) (الشعراء : 123،124) " اهـ

      الأخوة هنا معناها " الإنتساب إلى " ، قال الألوسي : أخوهم نوحاً : " أي نسيبهم " ، فالأخوة التي أرادها الله سبحانه هنا هي في نطاق محدود بالإنتساب ، ليس بينها وبين معاني الأخوة التى أنشأها الله بين المؤمنين نسب ، فالإيحاء بأن هناك " أخوة " بما في الكلمة من ظلال في هذا الموضع خلط متعمد للتمويه على الناس ، والله سبحانه استعمل كلمة " أخوهم " كما تقول العرب " أخا تميم " أي قريبهم ، ولا يحمل هذا أي مدلول آخر إلا بقرينة ، ولذلك افتخر الشاعر بأن قبيلته تنصر من كان من أقربائها في أي ظرف حتى لو لم يكن هناك داع آخر للنصر فقال :

      لا يسألون أخاهم حين يندبهم   في النائبات على ما قال برهانا

      ولم يذكر الله سبحانه لفظ الأخوة ، إذ هو مصدر والمصدرية توحي بتعدد الحقوق ، وهو غير مراد هنا .

      ثم إن استنطاق الآيات بغير مرادها فحش وخطل ، فليس هذا محل استنباط فقه الأقليات ، أو أحكام أهل الذمة من هذه الايات التي تقص حكايات الأنبياء ، فهذا من اتباع استعمال المتشابه وترك المحكم الذي ثبت في الشريعة بنص أو ظاهر في حقوق الأقليات .

      وليس هناك خلاف في أن أهل " الديانات الأخرى " لهم حقوق في ظل " الدولة الإسلامية " ، ولكن هذا لا يستدعى أن تكون هناك " أخوة " مصدرية عامة ، بل هو الإحسان والبر بغير المحارب أو الذمي كما في الآيات، والله سبحانه لم يقل في محكم كتابه أنه لا ينهاكم عن الذين لا يقاتلونكم ولا يخرجوكم من دياركم أن تتخذونهم إخوانا أو أن تكون بينكم أخوة ، وكان من اليسير عليه سبحانه أن يقول ذلك ، ولكنه عبّر عن الواجب الشرعي بتفصيله إلى البر بهم والقسط لهم ، وهو ما لا يستدعي بذاته أخوة من أي نوع . قال تعالى : " لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ " .

      فأين الأخوة القومية هنا! بله الإخوة الإنسانية ! هي كلها سياسية يقال أنها شرعية ، وهي لا تمت للشرع بصلة ، يراد بها تنزيل الأحكام الشرعية على مقتضى الواقع لتناسبه وتبرر ما فيه من اعوجاج ، لا أن تقرر الصحيح من الفتاوى في مناطاتها فتعيد الحق إلى نصابه وترجع الناس إلى رب الناس"اهـ .

      ثم إن دعوى الأخوة الإنسانية دعوى ماسونية معروفة، تقصد إلى توحيد الناس على معنى الإنسانية بغضّ النظَر عن دينهم. فإن كان الشيخ القرضاوى ممن يرى أن العبرة بالمعاني والمقاصد، كما قال في مَوضوع الجِزية والذِمة، فأولى بنا هنا أن نقول أنّ دعوى الأخوة الإنسانية هنا هي ذات دعوى المَاسونية مقصداً ومعنى، ولا عِبْرَة في أنّ القرضاوى يدعو لها باسم الإسلام، وأن الماسونيين يدعون لها باسم الإنسانية!

      والكتاب، إن جرّدناه من هذه "المَطَبات" الفكرية، فيه خير كثير ومنافع للقارئ، ولكن الحَذر كلّ الحذر مما يَعترض هذه الفوائد مما قد يجعل مَضاره أكبرُ من فائدته.

      والله تعالى يهدى إلى صراط مستقيم.

      www.tariqabdelhaleem.com