فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      دفاع عن السنة المطهرة 1/2

      بقلم: هاني عابد

      المقدمة

      الحمد لله والصلاة والسلام على نبي الهدى ومن اتبع سنته وسار على هديه إلى يوم الدين، أما بعد فقد ازدادت في الآونة الأخيرة الإساءة إلى سيد الخلق وخاتم الأنبياء والمرسلين من قبل اليهود والنصارى ومن والاهم، الذين أظهر الله ما في قلوبهم من حقد وغيظ على الاسلام وإمامه، (قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ). ولا عجب أن أعداء الإسلام قديماً وحديثاً كانوا وما زالوا يحاولون النيل من رسول الله صلى الله عليه وسلم لصدّ الناس عن رسالته والنور الذي بعث به كما أخبر تعالى (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)، ولكن العجب كل العجب ممن ينتسبون الى الإسلام ويحسبون أنفسهم من أتباع رسول الله وهم يسيؤون له ليل نهار بإنكارهم سنته صلى الله عليه وسلم وصدهم الناس عنها وعن الهدي الذي أرسل به.

      لقد تنازع قديماً منكرو السنة في مدى حجيتها في إثبات العقائد والأحكام، ولم ينازع أحد قديما – إلا القليل فيما نعلم - في كون السنة مصدر ثابت في التشريع الإسلامي. ولكن ظهر حديثاً قوم ابتدعوا في الدين بدعة انكار وجود السنة أصلاً فضلا عن حجيتها، وسمّوا أنفسهم "القرآنيون" أو أهل القرآن[1] - والقرآن منهم برئ – لادعائهم أن القرآن هو المصدر الوحيد للتشريع، ليهدموا بذلك شطر الإسلام بل جله لتعذر العمل بالقرآن بدون السنة كما سيأتي إنشاء الله.

      إن من سمات أهل البدعة انقسامهم واختلافهم فيما بينهم، وذلك لاضطراب منهجهم وبعده عن المنهج الإلهي واعتمادهم على الهوى المذموم، وهذا مشهود في صفوف منكري السنة قديماً وحديثاً، فهم منشقون فيما بينهم مضطربون في أقوالهم مختلفون فيما أنكروه، انقسموا الى فرق وأحزاب كل حزب بما لديهم فرحون: منهم من أنكر ثبوت السنة كمصدر تشريعي مستقل عن القرآن وهم القرآنيون، ومنهم من أخذ بما ورد في السنة في باب العبادات البدنية وأنكروا الباقي بلا دليل ولا حجة وهم بعض فرقهم، ومنهم من أثبت المتواتر من السنة وأنكر الآحاد منها، ومنهم من أثبت خبر الآحاد في باب الفقه والأحكام ولم يأخذ بها في العقائد.

      ومع عدم انتشار بدعة "القرآنيّون" بين الناس – ولله الحمد - إلا أن المغرضون أخذوا ببعض شبهاتهم ذريعة لاتهام الصحابة في دينهم وعدلهم وأمانتهم العلمية، ورمي علماء الأمة خاصة المحدثين منهم بالجهل تارة وبالوضع والتزييف تارة أخرة الى غير ذلك من الشبه الواهية – وهذا كله لعدم اتفاق السنة مع أهوائهم وما يريدون أن يحملوا الناس عليه. ومن أمثال هؤلاء المغرضين: العصريون (modernists) الذين يدّعون الحداثة ونبذ الرجعية والتقليد الفكري، والليبراليون (liberals) الذين يريدون أن يهدموا أحكام الإسلام حتى يفسحوا المجال الى تحكيم أهواءهم وطواغيتهم تبعاً لدينهم المعلن وهو الديمقراطية المبنية على اللادينية (secularism) [2]، وهؤلاء جميعاً قد وجدوا في أعداء الاسلام أعواناً لهم، يُمِدّونهم بالمال ويدافعون عنهم باللسان والسنان تحت عناوين برّاقة مثل "حرية التعبير" و"حرية الفكر"[3] ولا حول ولا قوة إلا بالله.

      وهؤلاء الذين ذكرنا هم حاملو راية النقد العلمي - على حد زعمهم - وتحرير الفكر من التبعية العمياء، وما يقصدون إلا النيل من السنة النبوية الشريفة لهدم الأصل الثاني في الشريعة الإسلامية ليفسحوا بذلك المجال لصد الناس عن دين الله الحنيف. والكثير منهم قد أفصح عن نية مبيتة للنيل من كتاب الله بإعادة تفسيره وفهمه في ضوء معطيات العصر الحديث ونبذ التراث الإسلامي، ليهدم بذلك ما تبقى من الشريعة الإسلامية الحنيفة ويخرج بدين جديد لا يمت للإسلام بصلة سوى الإسم ولعلهم يبدلونه بعد حين. فهؤلاء هم أعداء الإسلام حقاً الذين يدسون السم في الدسم ويفتنون عوام المسلمين عبر الفضائيات وشبكة الانترنت، وما خفي كان أعظم.

      ونحن في هذا البحث نتشرف بالذب عن سنة نبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم والدفاع عن حديثه الشريف، عسى الله أن يتقبله منا. وسيكون البحث في جزئين، يتناول الجزء الأول بعون الله قسمي الحديث المتواتر والآحاد ومدى حجية كل منهما و نخص البحث بحديث الآحاد لأن انكاره هو الأساس الذي قامت عليه هذه البدعة، ثم يتناول الجزء الثاني الأدلة على حجية السنة النبوية وكونها مصدر تشريعى قائم بذاته مستقل عن القرآن، يجب الإيمان والعمل به، ثم الخاتمة.

      الجزء الأول:

      إن أهم ما يستند إليه منكري السنة أنّ جل أحاديث الرسول نقلت لنا عن طريق الآحاد –وهو ما سيأتي تعريفه – وأخذوا ذلك ذريعة إلى انكار حجية السنة[4]. وكل ما سيأتي في إثبات حجية السنة هو دليل قاطع على ثبوت السنة النبوية لا يماطل فيه إلا جاهل أو مكابر. ومما استاءت منه النفس ما شاع على ألسنة العامة في هذا الزمان - الذي قل فيه المتفقهون في دين الله وكثر فيه المتألون على الله بغير علم – انكار بعض أحاديث الرسول التي تتعارض مع أهوائهم لكونها آحاداً، فأصبحت أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم مردودة لكونها أحاديث آحاد لا غير!!

      لقد قسّم علماء الحديث حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قسمين أحاديث متواترة وأحاديث آحاد.

      القسم الأول: الحديث المتواتر[5]

      التواتر لغة: التتابع، وهو مجيء الواحد بعد الآخر، نقول تواتر المطر أي تتابع نزوله، ومنه قوله تعالى ( ثم أرسلنا رسلنا تَتْراً) [المؤمنون:44]، وفي الاصطلاح: هو ما رواه عدد كثير يستحيل في العادة اتفاقهم على الكذب، عن مثلهم إلى منتهاه، وكان مستندهم الحس.

      ومن خلال هذا التعريف يتبين أن التواتر لا يتحقق في الحديث إلا بالشروط الآتية:

      1. أن يرويه عدد كثير بحيث يستحيل عادة أن يتفقوا على الكذب في هذا الحديث، وقد اختلفت الأقوال في تقدير العدد الذي يحصل به التواتر، ولكن الصحيح عدم تحديد عدد معين.
      2. أن توجد هذه الكثرة في جميع طبقات السند.
      3. أن يعتمدوا في خبرهم على الحس وهو ما يدرك بالحواس الخمس من مشاهدة أو سماع أو لمس، كقولهم سمعنا أو رأينا ونحو ذلك.
      4. و احترز المحدثون بذلك عما إذا كان إخبارهم عن ظن وتخمين، أو كان مستندهم العقل، فإن ذلك لا يفيد العلم بصحة ما أخبروا به، ولا يصدق عليه حد التواتر.

      والحديث المتواتر يفيد العلم الضروري، الذي يُضطر الإنسان إلى تصديقه تصديقًا جازمًا لا تردد فيه، ولذلك يجب العمل به من غير بحث عن رجاله.

      وقد قسم العلماء الحديث المتواتر إلى قسمين:

      • متواتر لفظي: وهو ما تواتر فيه الحديث بلفظه كحديث ( من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) وهو في الصحيحين وغيرهما.
      • متواتر معنوي: وهو ما تواتر فيه معنى الحديث وإن اختلفت ألفاظه، وذلك بأن ينقل جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب وقائع مختلفة في قضايا متعددة، ولكنها تشترك في أمر معين، فيتواتر ذلك القدر المشترك، كأحاديث رفع اليدين في الدعاء، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو مائة حديث فيه رفع اليدين في الدعاء، لكنها في قضايا مختلفة، فكل قضية منها لم تتواتر، والقدر المشترك فيها هو الرفع عند الدعاء، فهو تواتر باعتبار المعنى.

      ومن أمثلة المتواتر عموماً أحاديث الحوض، والشفاعة، والرؤية، والمسح على الخفين، ورفع اليدين في الصلاة، وغيرها كثير.

      القسم الثاني: حديث الآحاد

      الآحاد لغة: جمع أحد بمعني الواحد، وخبر الواحد هو ما يرويه شخص واحد، وفي الاصطلاح: هو ما لم يجمع شروط المتواتر، أي أنه ما يرويه الواحد فأكثر ولكن لم تجتمع فيه شروط التواتر الذي ذكرناها آنفاً، فقد يرويه الواحد أوالاثنين أوالثلاثة أوالعشرة ولكن لا يتوفر فيه سائر شروط الحديث المتواتر.

      والحديث الآحاد يفيد العلم النظري، أي العلم المتوقف على النظر والاستدلال. بمعنى أن الحديث يجب النظر في رجالة من ناحية السند وفي متنه لنتوصل الى الحكم عليه بالصحة أو البطلان – بعكس المتواتر والذي يجب العمل به من غير بحث عن رجاله. لكن إذا صحّ الحديث المتواتر فإنه يفيد العلم اليقيني في الأصول والفروع. هذا مذهب أهل السنة والجماعة في الحديث المتواتر.

      وقد قسم العلماء الحديث الآحاد باعتبار طرق سنده إلى ثلاثة أقسام: ‏

      1. مشهور: وهو ما رواه ثلاثة فأكثر، ولم يبلغ حد التواتر
      2. عزيز: وهو ما رواه اثنان فقط
      3. غريب: وهو ما وقع التفرد به في السند.

      ولكن هذا التقسيم ليس له اعتبار في الحكم على الحديث بالصحة أو الضعف، إنما هو تقسيم اصطلاحي لتمييز طرق نقل الحديث. أما بالنسبة الى شروط صحة الحديث، فإن الشروط المتفق عليها عند جماهير العلماء خمسة شروط[6] هي:

      1. أن يكون الراوي عدلاً.
      2. أن يكون ضابطاً.
      3. أن يكون الإسناد متصلاً.
      4. أن يكون الخبر سالماً من الشذوذ.
      5. أن يكون الخبر سالماً من العلة.

      فإذا توفرت هذه الشروط في حديث الآحاد، حكم عليه بالصحة بغض النظر عن عدد رواته. فإذا صح الحديث، أوجب العلم، أي العلم اليقيني المؤدي للإيمان به والعمل بمدلوله. أما كونه اصطلاحياً يفيد العلم النظري، فهذا كما قلنا آنفاً من باب النظر والاستدلال، أما إذا تبين صحته، أصبح الإيمان والعلم به في حكم الواجب.

      سئل شيخ الإسلام بن تيمية: هل في الحديث متواتر لفظا ومعنى ؟ وهل جمهور الحديث الصحيح تفيد اليقين أو الظن ؟ فأجاب في مجموع الفتاوى: "وأما المتواتر فالصواب الذي عليه الجمهور: أن المتواتر ليس له عدد محصور بل إذا حصل العلم عن إخبار المخبرين كان الخبر متواترا وكذلك الذي عليه الجمهور أن العلم يختلف باختلاف حال المخبرين به. فرب عدد قليل أفاد خبرهم العلم بما يوجب صدقهم وأضعافهم لا يفيد خبرهم العلم؛ ولهذا كان الصحيح أن خبر الواحد قد يفيد العلم إذا احتفت به قرائن تفيد العلم. وعلى هذا فكثير من متون الصحيحين متواتر اللفظ عند أهل العلم بالحديث وإن لم يعرف غيرهم أنه متواتر؛ ولهذا كان أكثر متون الصحيحين مما يعلم علماء الحديث علما قطعيا أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله تارة لتواتره عندهم وتارة لتلقي الأمة له بالقبول. وخبر الواحد المتلقى بالقبول يوجب العلم عند جمهور العلماء من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وهو قول أكثر أصحاب الأشعري كالإسفراييني وابن فورك؛ فإنه وإن كان في نفسه لا يفيد إلا الظن؛ لكن لما اقترن به إجماع أهل العلم بالحديث على تلقيه بالتصديق كان بمنزلة إجماع أهل العلم بالفقه على حكم مستندين في ذلك إلى ظاهر أو قياس أو خبر واحد فإن ذلك الحكم يصير قطعيا عند الجمهور وإن كان بدون الإجماع ليس بقطعي؛ لأن الإجماع معصوم فأهل العلم بالأحكام الشرعية لا يجمعون على تحليل حرام ولا تحريم حلال كذلك أهل العلم بالحديث لا يجمعون على التصديق بكذب ولا التكذيب بصدق. وتارة يكون علم أحدهم لقرائن تحتف بالأخبار توجب لهم العلم ومن علم ما علموه حصل له من العلم ما حصل لهم".

      وما نخلص منه من كلام شيخ الإسلام أن الحديث الصحيح يوجب العلم والتصديق به والعمل بمتنه لا فرق بين الأحاديث في العقيدة أو الأحكام الفقهية، فإن هذه المصطلحات قد وضعت لتمييز الأحاديث النبوية وتنزيلها على أبواب الفقه، فإذا تُوُصِّل بها الى الصحيح فقد حصل الغرض ووجب الأخذ بالحديث علماً وعملاً.

      وهذا ما يوافق الفطرة السليمة التي فطر اللهُ الناس عليها. فإن الناس فطروا على قبول خبر الآحاد بالتصديق ووجوب العلم الاضطراري به إذا احتُفَّت به القرائن الدالة على صحته، فهذه فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله.

      والدليل على أن خبر الأحاد ملزم علما وعملا، لأن أشد ما يحتاج إليه الناس من صحة البلاغ وقوة الحجة هو رسالات الله، وقد اكتفى الله سبحانة وتعالى ببعث الرسل آحاداً مبشرين ومنذرين وعلق وقوع العقاب على بلوغ رسالة الرسول الواحد، قال تعالى ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) [الإسراء:15]. و قال تعالى ( رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) [النساء:165]، فلو لم يكن خبر الواحد حجة، لكان لأهل النار على الله حجة بعد الرسل. بل قد ثبت في القرآن أن أهل النار احتجوا بقولهم: ( ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين)[القصص:47]، فرد الله حجتهم وأبطلها بقوله تعالى (وإن من أمة إلا خلا فيها نذير)[فاطر:24]. فما بال أهل النار يحتجون بطلب رسول واحد ليبلغهم، بدلاً عن احتججاهم بعدم تواتر الرسل، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟!

      بل إن الوحي المنزل من الله الى رسله عبر أمين الوحي جبريل عليه السلام إنما هو خبر واحد لواحد، فإن لم يوجب خبر الواحد العلم اليقيني، لما ثبت من الوحي شيء فهو من الواحد القاهر الى واحد (جبريل) الى واحد (محمد) ثم الى سائر البشرية. ولكن لما عُلم صدق المبلغ عن المبلغ تحقق اليقين في الخبر. وكثير من صحابة رسول الله رضوان الله عليهم آمنوا لما عهدوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من صدق القول والأمانة فهو الصادق الأمين، فعلمهم بصدق الرسول أورثهم اليقين فيما أخبر عن ربه، ولم يلتفتوا الى كونه واحداً.

      وقد سار رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الناموس الإلهي، فقد تواتر عنه صلى الله عليه وسلم إرسال رسله وسعاته إلى الآفاق والملوك المجاورين لجزيرة العرب والقبائل لتبليغ الرسالة. فمن ذلك أنه بعث صلى الله عليه وسلم دحية بن خليفة الكلبي إلى هرقل عظيم بصرى، وبعث عبد الله بن حذافة السهمي بكتابه إلى كسرى، وعمرو بن أمية الضمري إلى الحبشة، وعثمان بن أبي العاص إلى الطائف، وحاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس. وغيرهم ولم يبعث هؤلاء إلا ليقيم بهم الحجة على من بعثوا إليهم ومن المعلوم أن أهم ما بعث به هؤلاء هو الدعوة إلى التوحيد[7].

      بل وإن حياتنا اليومية تتعذر ولا تستقيم إن انتفت حجية خبر الواحد، فإن العقلاء اجمعوا جميعاً على قبول خبر الآحاد إذا لم يظهر من المخبر ما يدل على كذبه، فإن معاملاتنا اليومية تعتمد كلياً على تصديق خبر الواحد والعمل به، فمثلاً إذا سأل الرجل عن أهله أو ولده، فإنه يقبل خبر الواحد مِمن يطمئن الى صدقه، فإذا قيل له ولدك مريض وعليك الحضور لنقله الى المستشفى، لما تردد في قبول الخبر والمسارعة الى تطبيقه. وكذلك في العلم إن قيل لرجل أن مديره يطلبه، لوجدته يسرع لتلبية الطلب بلا تردد ولا شك. وهل يتصور أن أحد يجيب قائلاً: لا أقبل خبرك حتى يتواتر الخبر بأن مديري يطلبني؟! هذا حتماً رجل مخبول ولعله وقف عن عمله حتى يتبين من سلامة عقله!!

      ولنا شاهد من القرآن الكريم في قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا) [الحجرات:49]، فهذه الآية حجة على من ادعى أن خبر الواحد لا يفيد العلم لأن الله لم يأمر بالتثبت في كل خبر وإنا حصره في خبر الفاسق، أي الذي قد يحصل منه الكذب أحياناً. قال القرطبي في تفسيره لهذه الآية "في هذه الآية دليل على قبول خبر الواحد إذا كان عدلا، لأنه إنما أمر فيها بالتثبت عند نقل خبر الفاسق. ومن ثبت فسقه بطل قوله في الأخبار إجماعا، لأن الخبر أمانة والفسق قرينة يبطلها". جاء في مختصر (الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة)[8] : "وفي القراءة الأخرى: فتثبتوا، وهذا يدل على الجزم بقبول خبر الواحد وأنه لا يحتاج إلى التثبت، ولو كان خبره لا يفيد العلم لأمره بالتثبت حتى يحصل العلم."

      نقول لمن زعم أن خبر الآحاد لا يفيد العلم اليقيني، هل تطبق دعواك في حياتك اليومية وتطلب التواتر في كل خبر لتعمل به؟ أم أنك متناقض في أقوالك مماطل في الحق مكابر في قبوله؟ بل مما يثبت تناقض القوم أنهم يستدلون بأخبار أئمتهم ورؤسائهم وأقوالهم ولا يطلبون في إثباتها التواتر. وكذلك يحتجون في غالب كتبهم ومقالاتهم بأخبار الآحاد ليثبتوا بدعتهم، ولنضرب مثال واحداً على ذلك: نقل أحد كتابهم على موقع القرآنييون ثمان أحاديث ليستدل بها – فيما يزعم - على عدم مشروعية كتابة أحاديث النبي[9] :

      1. حدثنا سفيان بن وكيع، حدثنا سفيان بن عيينة عن زيد بن أسلم، عن أبيه عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري.قال: استأذنّا النبي (صلّى الله عليه وآله) في الكتابة فلم يأذن لنا) والحديث موقوف على أبي سعيد.
      2. عن ابن عباس وابن عمر قالا: خرج رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، معصوباً رأسه، فرقى المنبر، فقال: ما هذه الكتب التي يبلغني أنكم تكتبونها؟! أكتاب مع كتاب الله؟ يوشك أن يغضب الله لكتابه، فيسري عليه ليلاً، فلا يترك في ورقة ولا في قلب منه حرفاً إلاَّ ذهب به.فقال بعض من حضر المجلس: فكيف يا رسول الله بالمؤمنين والمؤمنات؟! قال: من أراد الله به خيراً أبقى في قلبه لا إله إلاَّ الله.رواه الطبراني في الأوسط
      3. عن أبي سعيد الخدري، قال: كنا قعوداً، نكتب ما نسمع من النبي (صلّى الله عليه وآله)، فخرج علينا، فقال: ما هذا الذي تكتبون، فقلنا: نسمع منك، فقال: أكتاب مع كتاب الله؟ أمحضوا كتاب الله، وأخلصوه، قال: فجمعنا ما كتبناه في صعيد واحد، ثم أحرقناه بالنار، فقال: أي رسول الله نتحدث عنك، قال: نعم، تحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار، قال: قلنا: أي رسول الله، أنتحدث عن بني إسرائيل؟ قال: نعم، تحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، فإنكم لا تحدثون عنهم بشيء إلاَّ وقد كان فيهم أعجب منه (...).رواه أحمد
      4. وعن أبي هريرة: لا تكتبوا عني إلاَّ القرآن، فمن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج
      5. أخبرنا يزيد بن هارون، أنا هشام عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري (أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: لا تكتبوا عني شيئاً إلاَّ القرآن، فمن كتب عني شيئاً غير القرآن فليمحه
      6. حدثنا عبد الله، حدثني أبي، ثنا إسماعيل أنا همام بن يحيى، عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): لا تكتبوا عني شيئاً سوى القرآن، ومن كتب شيئاً سوى القرآن فليمحه
      7. حدثنا عبد الله، حدثني أبي، ثنا شعيب بن حرب قال: أنا همام، أنا زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): لا تكتبوا عني شيئاً فمن كتب عني شيئاً فليمحه
      8. حدثنا هداب بن خالد الأزدي، حدثنا همام عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري: أنا رسول الله قال: لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب عليَّ - قال همام: أحسبه قال - متعمداً، فليتبوأ مقعده من النار

      نحن هنا أمام ثمانِ (8) روايات يأمر فيها الرسول عدم كتابة إلا القرآن، ومن كتب غير القرآن فليمحه، قد يقول قائل بعض هذه الروايات ضعيفة، أو موقوفة عند أبو سعيد الخدري، نرد عليه بأن القاعدة التي وضعوها أصحاب علم الحديث أن الروايات يعضد بعضها بعضا ونحن أما ثمانِ (8) روايات، والسؤال الذي يفرض نفسه أن المحدث أي محدث عندما يجد هذا الحديث، مطلوب منه في الحال تنفيذ أمر الرسول وفقا لنص الاية الكريمة في سورة الاحزاب 36، والنور 63 وأن يمحوا ما كتب وما جمع، مكتفيا بالقرآن.

      فانظر كيف استدل بأحاديث ينكر حجيتها بل ثبوتها أصلا، فما بال القوم لا يفقهون حديثاَ!! ثم يكمل كلامه قائلاً:

      ...ثم لو سلمنا جدلا (على غير الحقيقة) أن العلة من المنع هو الخوف من الاختلاط بالتنزيل، فإن هذه العلة تنقضي بموت الرسول(ص) وانقطاع الوحي، فماذا فعل أبو بكر وعمر وعثمان وعلى رضي الله عنهم جميعا، كلهم استمروا على المنع ورفض تدوين السنة، ولنأخذ أبو بكر وعمر كمثالين.

      أولا: أبو بكر
      منع أبي بكر تدوين الأحاديث
      أ ـ ورد عن عائشة أنَّها قالت: «جَمَع أبي الحديث عن رسول الله (ص) وكانت خمسمائة حديث، فبات ليلته يتقلّب كثيراً. قالت: فغمّني، فقلت: أتتقلّب لشكوى أو لشيء بَلَغك؟ فلمّا أصبح قال: أي بُنيّة، هَلُمِّي الاَحاديث التي عندك، فجئته بها، فدعا بنار فحرقها. فقلت: لِمَ أحرقتها؟ قال: خشيت أن أموت وهي عندي فيكون فيها أحاديث عن رجل قد ائتمنته ووثقتُ [به]، ولم يكن كما حدّثني فأكون نقلت ذلك»
      ب ـ جاء في تذكرة الحفّاظ: ومن مراسيل ابن أبي مُليكة: «أنّ الصدِّيق جمع الناس بعد وفاة نبيّهم، فقال: إنَّكم تحدّثون عن رسول الله (ص) أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشدّ اختلافاً، فلا تحدّثوا عن رسول الله شيئاً.فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله، فاستحلّوا حلاله، وحرّموا حرامه»...

      ثانيا: عمر بن الخطاب عن عروة، قال: ( أراد عمر بن الخطاب أن يكتب السنن، فاستفتى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك، فأشاروا عليه أن يكتبها، فطفق عمر يستخير الله شهرا "، ثم أصبح يوما " وقد عزم الله له، فقال: إني كنت أريد أن أكتب السنن وإني ذكرت قوما " كانوا قبلكم كتبوا فأكبوا عليها، وتركوا كتاب الله، وإني والله لا أشوب كتاب الله بشئ أبدا " ) الطبقات الكبرى لابن سعد ج 3 ص 206، كنز العمال ص 239 حديث رقم 4860 وعن القاسم بن محمد قال: ( إن الأحاديث كثرت على عهد عمر بن الخطاب، فأنشد الناس أن يأتوه بها، فلما أتوه بها أمر بإحراقها) وقال كرظة بن كعب: ( لما سيرنا عمر إلى العراق مشى معنا وقال: أتدرون لم شيعتكم ؟ قالوا: نعم، مكرمة لنا.قال: ومع ذلك، إنكم تأتون أهل قرية لهم دوي بالقرآن كدوي النحل، فلا تصدوهم بالأحاديث فتشغلوهم.جردوا القرآن وأخلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا شريككم ) وقال عمر لأبي هريرة الدوسي: ( لتتركن الحديث عن رسول الله أو لألحقنك بأرض دوس )، وقال أبو هريرة: ( لو حدثتكم بأحاديث، ولو حدثت بها زمن عمر بن الخطاب لضربني عمر بالدرة ). وأخرج الحاكم عن إبراهيم بن عبد الرحمن قوله: ( إن عمر بن الخطاب قال لابن مسعود، ولأبي الدرداء ولأبي ذر: ما هذا الحديث عن رسول الله ؟ وأحسبه حبسهم بالمدينة حتى أصيب وكان عمر يقول للصحابة: اقلوا الرواية عن رسول الله الا في ما يعمل به ( تأمل قوله إلا فيما يعمل به) السنة العملية (المنهاج) المائدة 48 عن القاسم بن محمّد بن أبي بكر: إنّ عمر بن الخطّاب بلغه أنّه قد ظهرت في أيدي الناس كتب، فاستنكرها وكرهها، وقال: أيُّها الناس! إنّه قد بلغني أنّه قد ظهرت في أيديكم كتب فأحبُّها إلى الله أعدلها وأقومها، فلايُبقينَّ أحدٌ عنده كتاباً إلاّ أتاني به، فأرى فيه رأيي.، قال: فظنّوا أنّه يريد أن ينظر فيها ويقوّمها على أمرٍ لا يكون فيه اختلاف، فأتَوْه بكتبهم، فأحرقها بالنار!! ثمّ قال: أُمنية كأُمنية أهل الكتاب، وفي الطبقات الكبرى: «مثناة كمثناة أهل الكتاب».(يقصد تلمود المشنة)... انتهى النقل عن موقع القرآنيين

      نقول، كيف يستدل هذا الزائغ بروايات عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما كلها آحاد وهو منكر لحجيتها!! هذا تناقض جلي في منهج الاستدلال لأن هذا الرجل أخذ بما يعضد حجته وطرح ما يخالفها، وهو أشبه بمن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعضه. نقول لهذا المتناقض: إما أن تطرح جميع أخبار الآحاد كما تدعي وتأتي بأدلة أخرى لإثبات حجتك، أو أنك تقر بحجية خبر الآحاد وتفسح المجال لمن هو أعلم منك بصحيحها وضعيفها ليثبت حجيتها ويجمعها مع غيرها لبيان مضمونها، أو أنك تبقى مختل متناقض لا منهجية ولا عقلية لحجتك.

      فهل بعد هذه الأدلة العقلية والشرعية ما يُتوهم به أن حديث الآحاد الصحيح الثابت لا يكون حجة ولا يفيد العلم اليقيني الموجب لاتباعه في جميع المسائل العقائدية والفقهية؟ بل فيها الجواب الكافي والدواء الشافي لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، ولا نقول فيمن يجحدها إلا كما قال تعالى (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعدواناً فانظر كيف كانت عاقبة المفسدين).

      نستكمل الحديث في الجزء الثاني...

      [1] القرآني - كما جاء على موقعهم على الانترنت - هو كل من إكتفى بالقرآن وحدة مصدرا للتشريع. والقرآني لايؤمن ولا يعمل بأي أحكام تضيفها الأحاديث لأن الله قال اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا فجميع الأحكام موجودة في القرآن وخلافها تزيد لا يؤخذ به أما الأحاديث التي بها ذكر لله وتوافق كتاب الله فللقرآني أن يذكر بها الله أو يذكر بغيرها من لغته شرط التأدب مع الله واختيار أنسب الألفاظ في التحدث مع رب العزة سبحانه وتعالى.

      [2] العلمانية كلمة استعملت في ترجمة كلمة secularism لضفاء صفة العلم والتقدم عليها ولكن الترجمة الحقيقية هي عزل الدين عن الدولة والحياة العامة اللادينية وليست كما هو شائع، فإن أصل الكلمة في اللاتينية هو sæcularis أي دنيوي أو ما لا علاقة له بالآخرة والحياة بعد الموت.وقد نشأت هذه الفكرة بسبب اضهاد الكنيسة في أوروبا وظلمها ومحاربتها للعلماء والتقدم والحضارة في العصور الوسطى، بعكس الدولة الإسلامية التي ازدهرت فيها العلوم والأدب والحضارة.فهذا المذهب يعمل على عزل الدين وأي مظهر ديني عن الحياة العامة ولذلك تجد فرنسا وهي مهد اللادينية تحارب مظاهر التدين والحجاب خاصة.وقد ظهر على الساحة العربية من يريد عزل الآذان عن الشارع العربي الإسلامي وحصره في المساجد ولم يفقهوا أن الأذان هو نداء الصلاة وكيف تنادي ان لم يسمعه أحد، ولكن لا حياة لمن تنادي.

      [3] ينقل موقع القرآنيون عن منشئ الحركة في مصر المدعو أحمد صبحي منصور أنه طورد من مسجد لآخر ومن الأزهر الى غيره من مواقع فكرية الى أن انتهى به المطاف فى مركز ابن خلدون، فاستقر فيه خمس سنوات الى أن أغلقت الحكومة المصرية المركز وطورد أحمد منصور فلجأ الى أمريكا. ولا يغفل عن القارئ معداوة مركز ابن خلدون ومؤسسه سعد الدين إبراهيم لدين الله ورسوله.

      [4] المقصود بحجية السنة أن السنة دليل شرعي يدل على حكم الله تعالى وأن الله قد تعبدنا باتباع ما أمرت به واجتناب ما نهت عنه فهي مصدر للدين أساسي والشطر الثاني له فيجب اعتقاد مضمونها والعمل بمقتضاها في جميع جوانب حياة الناس ومعادهم . (راجع الرد على من أنكر حجية السنة)

      [5] http://www.islamweb.net/ver2/archive/readArt.php?lang=A&id=29377

      [6] مقدمة بن الصلاح.

      [7] خبر الواحد وحجيته د. أحمد الشنقيطي / 204- 205 – بتصرف يسير.

      [8] كتاب نفيس أورد فيه بن القيم ما يزيد عن عشرين دليلاً على إفادة خبر الواحد العدل العلم

      [9] http://www.ahl-alquran.com/arabic/show_article.php?main_id=2166