فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      تقديم و تحقيق مقدمة الإعتصام

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين أما بعد ،

      فقد كان مما صحت عليه العزيمة وانشغلت به النفس ردحا من الدهر ، تحقيق كتاب الإعتصام الذي هو أجل الكتب في موضوعه وهو التعريف بالبدعة وحدودها وضوابطها ، والتعليق عليه بما يقربه من قراء هذا الزمان . ولكن الهمة ضعفت وتباعد الزمان بهذا الغرض وانشغلت النفس بغيره حتى طلب إلي أحد تلامذتي من الأبناء البارين وطلبة العلم المخلصين ، أن أعلّق تعليقا بسيطا على مقدمة الكتاب لأجل نشرها في هذا الموقع لما فيها من فائدة جمة فهي شاهد على هذا العصر كما كانت شاهداً على عصر الشاطبي رحمة الله عليه ، فشابهت تصرفات قومه في عصره تصرفات أقوام نعيش بينهم ممن يدعى متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو أبعد ما يكون عنها ، بل هو معادٍ لها و لمن يتبعها وموافق لمن يخالفها، كما وصف الشاطبيّ . وقد جعل هؤلاء الناس دينهم وديدنهم القاء الشبهات على أهل السنة لا بدليل شرعي ولا سنة صحيحة ، ولكن رميهم بمسميات باطلة اتبعوا فيها الصهاينة والصليبيين الجدد بجهل تارة ، وبعلم ونية الإضرار تارات . فكان أن نظرتُ إلى المقدمة فوجدتها سلسة بنفسها لا تحتاج لمزيد إيضاح ، فلم يكن لي فيها من عمل إلا إرجاع الأحاديث إلى مظانها ، وإلقاء بعض الضوء بالتعليق على مواضع متفرقة مما يأخذ بيد القارئ ليرشده في العبور من ذاك الزمان إلى هذه الأيام .

      جزى الله الشاطبي أجزل الثواب وغفر له زلاته التي لا ينجو منها بشر إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم أخلي بين القارئ وبينهذه الكلمات الجليلة القدر ليتمعنها ويستدل بهديها .

      المقدمة :

      بسم الله الرحمن الرحيم

      الحمد لله المحمود على كل حال ، الذي بحمده يستفتح كل أمر ذي بال ، خالق الخلق لما شاء ، وميسرهم على وفق علمه وارادته ، لا على وفق اغراضهم لما سر وساء ، ومصرفهم بمقتضى القبضتين ، فمنهم شقي وسعيد ، وهداهم النجدين فمنهم قريب وبعيد ، ومسويهم على قبول الإلهامين ففاجر وتقى ، كما قدر ارزاقهم بالعدل على حكم الطرفين ففقير وغني ، كل منهم جار على ذلك الأسلوب فلا يعدوه ، فلو تمالأوا على ان يسدوا ذلك السبق لم يسدوه ، او يردوا ذلك الحكم السابق لم ينسخوه ولم يردوه ، فلا إطلاق لهم على تقييده ولا انفصال ، "ولله يسجد من في السموات والارض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال" [الرعد : 15] .

      والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد نبي الرحمة ، وكاشف الغمة ، الذي نسخت شريعته كل شريعة ، وشملت دعوته كل أمة ، فلم يبق لأحد حجة دون حجته ، ولا استقام لعاقل طريق سوى لأحب محجته ، وجمعت تحت حكمتها كل معنى مؤتلف ، فلا يسمع بعد وضعها خلاف مخالف ولا قول مختلف ، فالسالك سبيلها معدود في الفرقة الناجية ، والناكب عنها مصدود إلى الفرق المقصره او الفرق الغالية . صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه الذين اهتدوا بشمسه المنيرة ، واقتفوا آثاره اللائحة ، وأنواره الواضحة وضوح الظهيرة ، وفرقوا بصوارم أيديهم وألسنتهم بين كل نفس فاجرة ومبرورة ، وبين كل حجة بالغه وحجة مبيرة ، وعلى التابعين لهم على ذلك السبيل ، وسائر المنتمين إلى ذلك القبيل ، وسلم تسليما كثيرا .

      اما بعد : فإني أذكرك ايها الصديق الأوفى ، والخالصة الأصفى ، في مقدمة ينبغي تقديمها قبل الشروع في المقصود ، وهي معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "بُدِئَ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بُدِئَ فطوبى للغرباء ، قيل ومن الغرباء يا رسول الله ؟ قال : الذين يصلحون عند فساد الناس"[1] وفي رواية "قيل ومن الغرباء يا رسول الله ؟ قال : النزوع من القبائل" وهذا مجمل ولكنه مبين في الرواية الأخرى . وجاء من طريق آخر "بدئ الإسلام غريباً ولا تقوم الساعة حتى يكون غريباً كما بدئ فطوبى للغرباء حين يفسد الناس" ، و في رواية لابن وهب قال صلى الله عليه وسلم : "طوبى للغرباء الذين يمسكون بكتاب الله حين يترك ويعملون بالسنة حين تطفى" وفي رواية : "إن الاسلام بدى غريبا وسيعود غريبا كما بدئ فطوبى للغرباء ، قالوا يا رسول الله كيف يكون غريبا ؟ قال : كما يقال للرجل في حي كذا وكذا إنه لغريب" وفي رواية انه سئل عن الغرباء قال "الذين يحيون ما أمات الناس من سنتي" .

      وجملة المعنى فيه من جهة وصف الغربة ما ظهر بالعيان والمشاهدة في أول الاسلام وآخره ، وذلك ان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه الله تعالى على حين فترة من الرسل ، وفي جاهلية جهلاء ، لا تعرف من الحق رسما ، ولا تقيم به في مقاطع الحقوق حكما ، بل كانت تنتحل ما وجدت عليه آباءها ، وما استحسنته اسلافها ، من الآراء المنحرفة ، والنحل المخترعة ، والمذاهب المبتدعة ، فحين قام فيهم صلى الله عليه وسلم بشيرا ونذيرا ، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ، فسرعان ما عارضوا معروفه بالنكر ، وغيروا في وجه صوابه بالإفك ، ونسبوا إليه إذ خالفهم في الشرعة ، ونابذهم في النحلة كل محال ، ورموه بأنواع البهتان ، فتارة يرمونه بالكذب وهو الصادق المصدوق ، الذي لم يجربوا عليه قط خبرا بخلاف مخبره ، وآونة يتهمونه بالسحر ، و في علمهم أنه لم يكن من أهله ولا ممن يدعيه ، وكرة يقولون : إنه مجنون مع تحققهم بكمال عقله ، وبراءته من مس الشيطان وخبله ، وإذ دعاهم إلى عبادة المعبود بحق وحده لا شريك له ، قالوا : "أجعل الآلهه إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب" [ص : 5] ، مع الإقرار بمقتضى هذه الدعوة لصادقة : "فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين" [العنكبوت : 65] وإذا أنذرهم بطشة يوم القيامة ، أنكروا ما يشاهدون من الأدلة على إمكانه ، وقالوا : "أئذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد" [ق : 3] وإذا خوفهم نقمة الله ، قالوا : "اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم" [الأنفال : 32] اعتراضا على صحة ما أخبرهم به مما هو كائن لا محالة ، وإذا جاءهم بآية خارقه افترقوا في الضلالة على فرق ، واخترقوا فيها بمجرد العناد مالا يقبله أهل التهدى إلى التفرقة بين الحق والباطل ، كل ذلك دعاء منهم إلى التأسي بهم والموافقة لهم على ما ينتحلون ، إذا رأوا خلاف المخالف لهم في باطلهم ردا لما هم عليه ، ونبذا لما شدوا عليه يد الظنة ، واعتقدوا إذا لم تمسكوا بدليل أن الخلاف يوهن الثقة ويقبح جهة الاستحسان ، وخصوصا حين اجتهدوا في الانتصار بعلم فلم يجدوا أكثر من تقليد الآباء . ولذلك اخبر الله تعالى عن ابراهيم عليه السلام في محاجة قومه : "ما تعبدون ؟ قالوا : نعبد أصناما فنظل لها عاكفين ، قال : هل يسمعونكم إذ تدعون ؟ أو ينفعونكم أو يضرون ؟ قالوا : بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون" [الشعراء : 70 - 74] فحادوا كما ترى عن الجواب القاطع المورد ، مورد السؤال إلى الاستمساك بتقليد الآباء[2] . وقال الله تعالى : "أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون" [الزخرف : 21 - 22] فرجعوا عن جواب ما ألزموا إلى التقليد ، فقال تعالى : "قال أولوا جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم" [الزخرف : 24] فأجابوا بمجرد الإنكار ، ركونًا إلى ما ذكروا من التقليد لا بجواب السؤال .

      فكذلك كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنكروا ما توقعوا معه زوال ما بأيديهم ، لأنه خرج عن معتادهم ، وأتى بخلاف ما كانوا عليه من كفرهم وضلالهم ، حتى أرادوا ان يستنزلوه على وجه السياسة في زعمهم ، ليوقعوا بينهم وبين المؤالفة والموافقة ولو في بعض الأوقات ، أو في بعض الأحوال ، أو على بعض الوجوه ، ويقنعوا منه بذلك ليقف لهم بتلك الموافقه واهى بنائهم ، فأبى صلى الله عليه وسلم إلا الثبوت على محض الحق والمحافظة على خالص الصواب ، وأنزل الله : "قل يا ايها الكافرون لا أعبد ما تعبدون" إلى آخر السورة ، فنصبوا له عند ذلك حرب العداوة ، ورموه بسهام القطيعة ، وصار أهل السلم كلهم حربا عليه ، عاد الولى الحميم عليه كالعذاب الأليم ، فأقربهم إليه نسبا كان أبعد الناس عن موالاته ، كأبي جهل وغيره ، وألصقهم به رحماً كانوا أقسى قلوبا عليه ، فأي غربة توازي هذه الغربة ؟ ومع ذلك فلم يكله الله إلى نفسه ، ولا سلطهم على النيل من أذاه ، إلا نيل المصلوفين ، بل حفظه وعصمه ، وتولاه بالرعاية والكلاءة ، حتى بلغ رسالة ربه .

      ثم ما زالت الشريعة في أثناء نزولها ، وعلى توالى تقريرها تبعد بين أهلها وبين غيرهم ، وتضع الحدود بين حقها وبين ما ابتدعوا ، ولكن على وجه من الحكمة عجيب ، وهو التأليف بين أحكامها وبين أكابرهم في أصل الدين الأول الأصيل ، ففي العرب نسبتهم إلى أبيهم ابراهيم عليه السلام ، و في غيرهم لأنبيائهم المبعوثين فيهم ، كقوله تعالى بعد ذكر كثير من الانبياء : "أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده" [الأنعام : 90] وقوله تعالى : "شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين" [الشورى : 13] .

      وما زال صلى الله عليه وسلم يدعو لها ، فيؤوب إليه الواحد بعد الواحد على حكم الاختفاء ، خوفا من عادية الكفار ، زمان ظهورهم على دعوة الإسلام ، فلما اطلعوا على المخالفة أنفوا ، وقاموا وقعدوا ، فمن أهل الإسلام من لجأ إلى قبيلة فحموه على إغماض ، أو على دفع العار في الإخفار . ومنهم من فر من الإذاية وخوف الغرة ، هجرة إلى الله وحبا في الاسلام . ومنهم من لم يكن له وزر يحميه ، ولا ملجأ يركن إليه ، فلقي منهم من الشدة والغلظة والعذاب او القتل ما هو معلوم ، حتى زل منهم من زل فرجع امره بسبب الرجوع إلى الموافقة ، وبقي منهم من بقي صابرا محتسبا ، إلى أن أنزل الله تعالى الرخصة في النطق بكلمة الكفر على حكم الموافقة ظاهراً ، ليحصل بينهم وبين الناطق الموافقة ، وتزول المخالفة ، فنزل اليها من نزل على حكم التقية ، ريثما يتنفس من كربه ويتروح من خناقه ، وقلبه مطمئن بالإيمان . وهذه غربة أيضا ظاهرة ، وإنما كان هذا جهلا منهم بمواقع الحكمه ، وأن ما جاءهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم هو الحق ضد ما هم عليه ، فمن جهل شيئا عاداه ، فلو علموا لحصل الوفاق ، ولم يسمع الخلاف ، ولكن سابق القدر حتم على الخلق ما هم عليه قال الله تعالى : "ولا يزالون مختلفين الا من رحم ربك" [هود : 118 - 119] .

      ثم استمر تزيد الإسلام ، واستقام طريقه على مدة حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن بعد موته ، وأكثر قرن الصحابة رضي الله عنهم ، إلى أن نبغت فيهم نوابغ الخروج عن السنة ، وأصغوا إلى البدع المضلة كبدعة القدر وبدعة الخوارج وهي التي نبه عليها الحديث بقوله : "يقتلون أهل الإسلام ويدعون اهل الأوثان يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم"[3] يعني لا يتفقهون فيه ، بل يأخذونه على الظاهر : كما بينه حديث ابن عمر الاتي بحول الله . وهذا كله في آخر عهد الصحابة .

      ثم لم تزل الفرق تكثر حسبما وعد به الصادق صلى الله عليه وسلم في قوله : "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة والنصارى مثل ذلك وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة"[4] وفي الحديث الآخر : "لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا في جحر ضب لاتبعتموهم قلنا : يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال فمن ؟"[5] ، وهذا أعم من الأول فإن الأول عند كثير من أهل العلم خاص بأهل الأهواء وهذا الثاني عام في المخالفات ، ويدل على ذلك من الحديث قوله : "حتى لو دخلوا في جحر ضب لاتبعتموهم" .

      و كل صاحب مخالفة فمن شأنه أن يدعو غيره إليها ، و يحض سؤاله بل سواه عليها ، إذ التأسي في الأفعال والمذاهب موضوع طلبه[6] في الجبلة ، وبسببه تقع من المخالف المخالفة ، وتحصل من الموافق المؤالفة ، ومنه تنشأ العداوة والبغضاء للمختلفين .

      كان الاسلام في أوله وجدته مقاوماُ بل ظاهراُ ، وأهله غالبون وسوادهم أعظم الأسودة ، فخلا من وصف الغربة بكثرة الأهل والأولياء الناصرين ، فلم يكن لغيرهم ممن لم يسلك سبيلهم أو سلكه ولكنه ابتدع فيه صولة يعظم موقعها ، ولا قوة يضعف دونها حزب الله المفلحون ، فصار على استقامة وجرى على اجتماع واتساق ، فالشاذ مقهور مضطهد ، إلى أن أخذ اجتماعه في الافتراق الموعود ، وقوته إلى الضعف المنتظر ، والشاذ عنه تقوى صولته ويكثر سواده ، واقتضى سر التأسي المطالبة بالموافقة ولا شك أن الغالب أغلب ، فتكالبت على سواد السنة البدع والأهواء ، فتفرق أكثرهم شيعاً . وهذه سنة الله في الخلق : إن أهل الحق في جنب اهل الباطل قليل لقوله تعالى : "وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين" [يوسف : 103] وقوله تعالى : "و قليل من عبادي الشكور" [سبأ : 13] و لينجز الله ما وعد به نبيه صلى الله عليه وسلم من عود وصف الغربة إليه ، فإن الغربة لا تكون إلا مع فقد الأهل أو قلتهم ، وذلك حين يصير المعروف منكرا والمنكر معروفا وتصير السنة بدعة ، والبدعة سنة ، فيقام على أهل السنة بالتثريب والتعنيف ، كما كان أولا يقام على أهل البدعة طمعا من المبتدع أن تجتمع كلمة الضلال ، ويأبى الله أن تجتمع حتى تقوم الساعة ، فلا تجتمع الفرق كلها - على كثرتها - على مخالفة السنة عادة وسمعا ، بل لا بد أن تثبت جماعة اهل السنة حتى يأتى أمر الله ، غير أنهم لكثرة ما تناوشهم الفرق الضالة وتناضبهم العداوة والبغضاء استدعاء إلى موافقتهم ، لا يزالون في جهاد ونزاع ، و مدافعة وقراع ، آناء الليل والنهار ، وبذلك يضاعف الله لهم الأجر الجزيل ويثيبهم الثواب العظيم .

      فقد تلخص مما تقدم أن مطالبة المخالف بالموافقة[7] جار مع الأزمان لا يختص بزمان دون زمان ، فمن وافق فهو عند المطالب المصيب على أي حال كان ، ومن خالف فهو المخطئ المصاب ، ومن وافق فهو المحمود السعيد ، ومن خالف فهو المذموم المطرود ، ومن وافق فقد سلك سبيل الهداية ، ومن خالف فقد تاه في طرق الضلالة والغواية .

      وإنما قدمت هذه المقدمة لمعنى أذكره . وذلك أني - ولله الحمد - لم أزل منذ فتق للفهم عقلي ووجه شطر العلم طلبي ، انظر في عقلياته وشرعياته ، وأصوله وفروعه لم أقتصر منه على علم دون علم ، ولا أفردت عن أنواعه نوعا دون آخر ، حسبما اقتضاه الزمان والإمكان ، وأعطته المنة المخلوقة في أصل فطرتي ، بل خضت في لججه خوض المحسن للسباحة ، وأقدمت في ميادينه إقدام الجرئ ، حتى كدت أتلف في بعض أعماقه ، أو أنقطع في رفقتي ، التي بالأنس بها تجاسرت على ما قدر لي ، غائبا عن مقال القائل وعذل العاذل ، ومعرضا عن صد الصاد ولوم اللائم ، إلى أن من علي الرب الكريم ، الرءوف الرحيم ، فشرح لي من معاني الشريعة ما لم يكن في حسابي وألقى في نفسي القاصرة أن كتاب الله وسنة نبيه لم يتركا في سبيل الهداية لقائل ما يقول ولا أبقيا لغيرهما مجالا يعتد فيه ، وإن الدين قد كمل ، و السعادة الكبرى فيما وضع ، و الطلبة فيما شرع ، و ما سوى ذلك فضلال وبهتان ، و إفك وخسران ، و أن العاقد عليهما بكلتا يديه مستمسك بالعروة الوثقى ، محصل لكلمتي الخير دنيا وأخرى ، و ما سواهما فأحلام وخيالات و أوهام ، و قام لي على صحة ذلك البرهان الذي لا شبهة تطرق حول حماه ، و لا ترتمي نحو مرماه ، "ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون" [يوسف : 38] والحمد لله والشكر كثيرا كما هو أهله . فمن هنالك قوت نفسي على المشي في طريقه بمقدار ما يسر الله فيه ، فابتدأت بأصول الدين عملا واعتقادا ، ثم بفروعه المبنية على تلك الأصول[8] ، وفي خلال ذلك أبين ما هو من السنن أو من البدع ، كما أبين ما هو من الجائز و ما هو من الممتنع ، وأعرض ذلك على علم الأصول الدينية و الفقهية ، ثم أطلب نفسي بالمشي مع الجماعة التي سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم "بالسواد الأعظم"[9] ، في الوصف الذي كان عليه هو وأصحابه وترك البدع التي نص عليها العلماء أنها بدع وأعمال مختلفة .

      و كنت في أثناء ذلك قد دخلت في بعض خطط الجمهور من الخطابة والإمامة ونحوها فلما أردت الاستقامه على الطريق ، وجدت نفسي غريبا في جمهور أهل الوقت لكون خططهم قد غلبت عليها العوائد ، ودخلت على سننها الأصليه شوائب من المحدثات الزوائد[10] ، ولم يكن ذلك بدعا في الأزمنه المتقدمة ، فكيف في زماننا هذا فقد روى عن السلف الصالح من التنبيه على ذلك كثير ، كما روى عن أبي الدرداء أنه قال : لو خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عليكم ما عرف شيئا مما كان عليه هو وأصحابه إلا الصلاة . قال الأوزاعي : فكيف لو كان اليوم؟ قال عيسى بن يونس : فكيف لو أدرك الاوزاعي هذا الزمان ؟

      وعن أم الدرداء قالت : دخل ابو الدرداء وهو غضبان ، فقلت : ما أغضبك ؟ فقال : والله ما أعرف فيهم شيئا من أمر محمد إلا أنهم يصلون جميعاً .

      وعن أنس بن مالك قال : ما أعرف منكم ما كنت أعهده على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم غير قولكم : لا إله إلا الله . قلنا : بلى يا أبا حمزة ؟ قال : قد صليتم حتى تغرب الشمس ، أفكانت تلك صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ؟ وعن انس قال : لو أن رجلاً أدرك السلف الأول ثم بعث اليوم ما عرف من الاسلام شيئاُ ، قال و وضع يده على خده ثم قال : إلا هذه الصلاة ، ثم قال : أما والله على ذلك لمن عاش في النكر ولم يدرك ذلك السلف الصالح فرأى مبتدعا يدعو إلى بدعته ، ورأى صاحب دنيا يدعو إلى دنياه ، فعصمه الله من ذلك ، وجعل قلبه يحن إلى ذلك السلف الصالح ، يسأل عن سبلهم ، و يقتص آثارهم ، ويتبع سبيلهم ، ليعوض أجراً عظيماً ، وكذلك فكونوا إن شاء الله .

      و عن ميمون بن مهران قال : لو أن رجلا أنشر فيكم من السلف ما عرف غير هذه القبلة .

      وعن سهل بن مالك عن أبيه قال : ما أعرف شيئا مما أدركت عليه الناس إلا النداء بالصلاة ، إلى ما أشبه هذا من الآثار الداله على أن المحدثات تدخل في المشروعات ، و أن ذلك قد كان قبل زماننا ، وإنما تتكاثر على توالى الدهور إلى الآن .

      فتردد النظر بين - أن أتبع السنة على شرط مخالفة ما اعتاد الناس فلا بد من حصول نحو مما حصل لمخالفي العوائد ، لا سيما إذا ادعى أهلها أن ما هم عليه هو السنة لا سواها إلا أن في ذلك العبء الثقيل ما فيه من الأجر الجزيل - و بين أن أتبعهم على شرط مخالفة السنة والسلف الصالح ، فأدخل تحت ترجمة الضلال عائذا بالله من ذلك ، إلا أني أوافق المعتاد ، وأعد من المؤالفين ، لا من المخالفين[11] ، فرأيت أن الهلاك في اتباع السنة هو النجاة ، وأن الناس لن يغنوا عني من الله شيئا[12] ، فأخذت في ذلك على حكم التدريج في بعض الأمور ، فقامت على القيامة ، وتواترت علي الملامة ، و فوق إلي العتاب سهامه ، ونسبت إلى البدعة والضلالة ، وأنزلت منزلة أهل الغباوة والجهالة ، و إني لو التمست لتلك المحدثات مخرجا لوجدت ، غير أن ضيق العطن ، والبعد عن أهل الفطن ، رقى بي مرتقى صعبا وضيق علي مجالاً رحباً ، وهو كلام يشير بظاهره إلى أن اتباع المتشابهات ، لموافقات العادات ، أولى من اتباع الواضحات ، وإن خالفت السلف الأول [**].

      و ربما ألموا في تقبيح ما وجهت إليه وجهتي بما تشمئز منه القلوب ، أو خرجوا بالنسبة إلى بعض الفرق الخارجة عن السنة شهادة ستكتب ويسألون عنها يوم القيامة فتارة نسبت إلى القول بأن الدعاء لا ينفع ولا فائدة فيه كما يعزى إلى بعض الناس ، بسبب أني لم ألتزم الدعاء بهيئة الاجتماع في أدبار الصلاة حالة الإمامة . وسيأتي ما في ذلك من المخالفة للسنة وللسلف الصالح والعلماء .

      وتارة نسبت إلى الرفض[13] وبغض الصحابة رضي الله عنهم ، بسبب اني لم ألتزم ذكر الخلفاء الراشدين منهم في الخطبة على الخصوص ، إذ لم يكن ذلك شأن من السلف في خطبهم ، ولا ذكره أحد من العلماء المعتبرين في أجزاء الخطب . و قد سئل (أصبغ) عن دعاء الخطيب للخلفاء المتقدمين فقال : هو بدعة ولا ينبغي العمل به ، وأحسنه أن يدعو للمسلمين عامة . قيل له : فدعاؤه للغزاة والمرابطين ؟ قال : ما أرى به بأسا عند الحاجة إليه ، وإما أن يكون شيئا يصمد له في خطبته دائما فإني أكره ذلك . و نص أيضا عز الدين بن عبد السلام : على أن الدعاء للخلفاء في الخطبة بدعة غير محبوبة .

      و تارة أضيف إلى القول بجواز القيام على الأئمة ، وما أضافوه إلا من عدم ذكرى لهم في الخطبة ، وذكرهم فيها محدث لم يكن عليه من تقدم .

      و تارة أحمل على التزام الحرج والتنطع في الدين ، وإنما حملهم على ذلك أني التزمت في التكليف والفتيا الحمل على مشهور المذهب الملتزم لا أتعداه ، وهم يتعدونه ويفتون بما يسهل على السائل ويوافق هواه ، وإن كان شاذا في المذهب الملتزم أو في غيره وأئمة أهل العلم على خلاف ذلك وللمسألة بسط في كتاب (الموافقات) .

      و تارة نسبت إلى معاداة أولياء الله[14] ، و سبب ذلك أني عاديت بعض الفقراء المبتدعين المخالفين للسنة ، المنتصبين - بزعمهم - لهداية الخلق ، وتكلمت للجمهور على جملة من أحوال هؤلاء الذين نسبوا أنفسهم إلى الصوفية ولم يتشبّهوا بهم .

      و تارة نسبت إلى مخالفة السنة والجماعة ، بناء منهم على أن الجماعة التي أمر باتباعها - وهي الناجية - ما عليه العموم ، ولم يعلموا أن الجماعة ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون لهم بإحسان ، وسيأتي بيان ذلك بحول الله ، وكذبوا على في جميع ذلك[15] ، أو وهموا ، والحمد لله على كل حال .

      فكنت على حالة تشبه حالة الإمام الشهير عبد الرحمن بن بطة الحافظ مع أهل زمانه إذ حكى عن نفسه فقال : "عجبت من حالي في سفري وحضري مع الأقربين مني والأبعدين ، والعارفين والمنكرين ، فإني وجدت بمكة وخراسان وغيرهما من الأماكن أكثر من لقيت بها موافقاً أو مخالفاًً ، دعاني إلى متابعته على ما يقوله ، وتصديق قوله والشهادة له ، فإن كنت صدقته فيما يقول وأجزت له ذلك - كما يفعله أهل هذا الزمان - سماني موافقا وإن وقفت في حرف من قوله أو في شيء من فعله - سماني مخالفا ، وإن ذكرت في واحد منها أن الكتاب والسنة بخلاف ذلك وارد ، سماني خارجيا ، وإن قرأت عليه حديثا في التوحيد سماني مشبها[16] ، وإن كان في الرؤية سماني سالميا ، وإن كان في الإيمان سماني مرجئيا ، وإن كان في الأعمال ، سماني قدريا ، وإن كان في المعرفة سماني كراميا ، وإن كان في فضائل أبي بكر و عمر ، سماني ناصبيا ، وإن كان في فضائل أهل البيت سماني رافضيا ، وإن سكت عن تفسير آية أو حديث لم أجب فيهما إلا بهما ، سماني ظاهريا[17] ، وإن أجبت بغيرهما سماني باطني[18] ، وإن أجبت بتأويل ، سماني أشعريا[19] ، وإن حجدتهما ، سماني معتزليا[20] ، وإن كان في السنن مثل القراءة ، سمّاني شفعوي ،ا وإن كان في القنوت ، سماني حنفيا ، وإن كان في القرآن ، سماني حنبليا ، وإن ذكرت رجحان ما ذهب كل واحد إليه من الأخبار - إذ ليس في الحكم والحديث محاباة - قالوا : طعن في تزكيتهم ، ثم أعجب من ذلك أنهم يسمونني فيما يقرءون علي من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يشتهون من هذه الأسامي ، ومهما وافقت بعضهم عاداني غيره ، وإن داهنت جماعتهم أسخطت الله تبارك وتعالى ، ولن يغنوا عني من الله شيئا . وإني مستمسك بالكتاب والسنة وأستغفر الله الذي لا إله إلا هو وهو الغفور الرحيم " .

      هذا تمام الحكاية فكأنه رحمه الله تكلم على لسان الجميع . فقلما تجد عالما مشهورا او فاضلا مذكورا ، إلا و قد نبذ بهذه الأمور أو بعضها ، لأن الهوى قد يدخل المخالف ، بل سبب الخروج عن السنة الجهل بها ، والهوى المتبع الغالب على أهل الخلاف ، فإذا كان كذلك حمل على صاحب السنة ، إنه غير صاحبها ، ورجع بالتشنيع عليه والتقبيح لقوله وفعله ، حتى ينسب هذه المناسب .

      وقد نقل عن سيد العبّاد بعد الصحابة (أويس) القرني أنه قال : إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يدعا للمؤمن صديقا ، نأمرهم بالمعروف فيشتمون أعراضنا ويجدون على ذلك أعوانا من الفاسقين ، حتى - و الله - لقد رموني بالعظائم ، وأيم الله لا أدع أن أقوم فيهم بحقه .

      فمن هذا الباب يرجع الاسلام غريبا كما بدأ ، لأن المؤالف فيه على وصفه الأول قليل ، فصار المخالف هو الكثير ، فاندرست رسوم السنة حتى مدت البدع أعناقها ، فأشكل مرماها على الجمهور فظهر مصداق الحديث الصحيح .

      و لما وقع علي من الإنكار ما وقع مع ما هدى الله إليه وله الحمد ، لم أزل أتتبع البدع التي نبه عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحذر منها ، وبين أنها ضلالة وخروج عن الجادة وأشار العلماء إلى تمييزها والتعريف بجملة منها ، لعلي أجتنبها فيما استطعت ، وأبحث عن السنن التي كادت تطفئ نورها تلك المحدثات لعلى أجلو بالعمل سناها ، وأعد يوم القيامة فيمن أحياها ، إذ ما من بدعة تحدث إلا ويموت من السنن ما هو في مقابلتها ، حسبما جاء عن السلف في ذلك . فعن ابن عباس قال : ما يأتي على الناس من عام إلا أحدثوا فيه بدعة وأماتوا فيه سنة ، حتى تحيا البدعة وتموت السنن . و في بعض الأخبار : لا يحدث رجل بدعة الا ترك من السنة ما هو خير منها . و عن لقمان بن أبي إدريس الخولاني أنه كان يقول : ما أحدثت أمة في دينها بدعة إلا رفع بها عنهم سنة . وعن حسان ابن عطية قال : ما أحدث قوم بدعة في دينهم إلا نزع الله من سنتهم مثلها ثم لم يعدها إليهم إلى يوم القيامة ، إلى غير ذلك مما جاء في هذا المعنى وهو مشاهد معلوم حسبما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى .

      و جاء من الترغيب في إحياء السنن ما جاء . فقد خرج ابن وهب حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي فإن له من الأجر مثل من عمل بها من الناس لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ، ومن ابتدع بدعة ضلالة لا يرضاها الله ورسوله فإن عليه إثم من عمل بها لا ينقص ذلك من آثام الناس شيئا" ، وأخرجه الترمذي باختلاف في بعض الألفاظ مع اتفاق المعنى وقال فيه : حديث حسن .

      و في الترمذي عن أنس قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا بني إن قدرت أن تصبح وتمسي ليس في قلبك غش لأحد فافعل" ، ثم قال لي : "يا بني وذلك من سنتي ، ومن أحيا سنتي فقد أحبني ، ومن أحبني كان معي في الجنة" حديث حسن .

      فرجوت بالنظر في هذا الموضع الانتظام في سلك من أحيا سنة وأمات بدعة . وعلى طول العهد ودوام النظر اجتمع لي في البدع والسنن أصول قررت أحكامها الشريعة ، وفروع طالت أفنانها لكنها تنتظمها تلك الأصول ، وقلما توجد على الترتيب الذي سنح في الخاطر ، فمالت إلى بثها النفس ، ورأت أنه من الأكيد الطلب لما فيه من رفع الالتباس الناشئ بين السنن والبدع ، لأنه لما كثرت البدع وعم ضررها ، واستطار شررها ، ودام الإكباب على العمل بها ، والسكوت من المتأخرين عن الإنكار لها ، وخلفت بعدهم خلوف جهلوا أو غفلوا عن القيام بفرض القيام فيها ، صارت كأنها سنن مقررات ، وشرائع من صاحب الشرع محررات ، فاختلط المشروع بغيره ، فعاد الراجع إلى محض السنة كالخارج عنها كما تقدم[21] ، فالتبس بعضها ببعض ، فتأكد الوجوب بالنسبة إلى من عنده فيها علم ، وقلما صنف فيها على الخصوص تصنيف ، وما صنف فيها فغير كاف في هذه المواقف ، مع أن الداخل في هذا الأمر اليوم فاقد المساعد عديم المعين ، فالموالى له يخلد به إلى الأرض ، ويلقى له باليد إلى العجز عن بث الحق ، بعد رسوخ العوائد في القلوب ، والمعادى يريسه بالأردبيس ، ويروم أخذه بالعذاب البئيس ، لأنه يرد عوائده الراسخه في القلوب ، المتداولة في الأعمال ، دينا يتعبد به ، وشريعة يسلك عليها لا حجة له إلا عمل الآباء والأجداد ، مع بعض الأشياخ العالمين ، كانوا من أهل النظر في هذه الأمور أم لا . ولم يلتفتوا إلى أنهم عند موافقتهم للآباء والأشياخ مخالفون للسلف الصالح ، فالمعترض لمثل هذا الامر ينحو نحو عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه في العمل حيث قال : ألا وإني أعالج أمرا لا يعين عليه إلا الله قد فنى عليه الكبير ، وكبر عليه الصغير ، وفصح عليه الأعجمي ، وهاجر عليه الأعرابي ، حتى حسبوه دينا لا يرون الحق غيره .

      وكذلك ما نحن بصدد الكلام عليه ، غير أنه أمر لا سبيل إلى إهماله ، ولا يسع أحد ممن له منه إلا الأخذ بالحزم والعزم في بثه بعد تحصيله على كماله ، وإن كره المخالف فكراهيته لا حجة فيها على الحق ألا يرفع مناره ، ولا تكشف وتجلى أنواره ، فقد خرج أبو الطاهر السلفي بسنده إلى أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : "يا أبا هريره علم الناس القرآن وتعلمه ، فإنك إن مت وأنت كذلك زارت الملائكة قبرك كما يزار البيت العتيق ، وعلم الناس سنتي وإن كرهوا ذلك ، وإن أحببت ألا توقف على الصراط طرفة عين حتى تدخل الجنه فلا تحدث في دين الله حدثا برأيك" .

      قال أبو عبد الله بن القطان : وقد جمع الله له ذلك كله من إقراء كتاب الله والتحديث بالسنة ، أحب الناس أم كرهوا ، وترك الحدث حتى إنه كان لا يتأول شيئا مما روى ، تتميما للسلامة من الخطإ .

      على أن أبا العرب التميمي حكى عن ابن فروخ أنه كتب إلى مالك بن أنس : إن بلدنا كثير البدع وإنه ألف كلاما في الرد عليهم . فكتب إليه مالك يقول له : إن ظننت ذلك بنفسك خفت أن تزل فتهلك ، لا يرد عليهم إلا من كان ضابطا عارفا بما يقول لهم لا يقدرون أن يعرجوا عليه فهذا لا بأس به ، وأما غير ذلك فإني أخاف أن يكلمهم فيخطئ فيمضوا على خطئه أو يظفروا منه بشيء فيطغوا ويزدادوا تماديا على ذلك .

      وهذا الكلام يقضي لمثلي بالإحجام دون الإقدام ، وشياع هذا النكر وفشو العمل به وتظاهر أصحابه يقضي لمن له بهذا المقام منة بالإقدام دون الإحجام ، لأن البدع قد عمت وجرت أفراسها من غير مغير ملء أعنتها .

      وحكى ابن وضاح عن غير واحد : أن أسد بن موسى كتب إلى أسد بن الفرات : اعلم يا أخي أن ما حملني على الكتب إليك ما أنكر أهل بلادك من صالح ما أعطاك الله من إنصافك الناس ، وحسن حالك مما أظهرت من السنة . وعيبك لأهل البدع وكثرة ذكرك لهم وطعنك عليهم ، فقمعهم الله بك ، وشد بك ظهر أهل السنة ، وقواك عليهم بإظهار عيبهم ، والطعن عليهم ، وأذلهم الله بذلك وصاروا ببدعتهم مستترين . فأبشر يا أخي بثواب الله ، واعتد به من أفضل حسناتك من الصلاه والصيام والحج والجهاد . وأين تقع هذه الأعمال من إقامة كتاب الله وإحياء سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ؟! وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من أحيا شيئا من سنتي كنت أنا وهو في الجنة كهاتين" وضم بين إصبعيه ، وقال : "أيما داعٍ دعا إلى هذه فاتبع عليه كان له مثل أجر من تبعه إلى يوم القيامة" ، فمن يدرك يا أخي هذا بشيء من عمله ؟! وذكر أيضاً : إن لله عند كل بدعة كيد بها الإسلام وليا لله يذب عنها ، وينطق بعلامتها ، فاغتنم يا أخي هذا الفضل وكن من أهله ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن فأوصاه وقال : "لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من كذا وكذا" . و أعظم القول فيه ، فاغتنم ذلك وادع إلى السنة حتى يكون لك في ذلك ألفة وجماعة يقومون مقامك إن حدث بك حدث ، فيكونون أئمة بعدك فيكون لك ثواب ذلك إلى يوم القيامة[22] كما جاء الأثر . فاعمل على بصيرة ونية حسنة[23] فيرد الله بك المبتدع والمفتون الزائغ الحائر ، فتكون خلفا من نبيك صلى الله عليه وسلم فأحي كتاب الله وسنة نبيه ، فإنك لن تلقى الله بعمل يشبهه .

      انتهى ما قصدت إيراده من كلام أسد رحمه الله . و هو مما يقوي جانب الإقدام مع ما روى عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه خطب الناس فكان من جملة كلامه في خطبته أن قال : والله إني لولا أن أنعش سنة قد أميتت ، أو أن أميت بدعة قد أحييت ، لكرهت أن أعيش فيكم فواقاً .

      و خرج ابن وضاح في كتاب القطعان وحديث الأوزاعي أنه بلغه عن الحسن أنه قال : لن يزال لله نصحاء في الأرض من عباده يعرضون أعمال العباد على كتاب الله فإذا وافقوه حمدوا الله ، وإذا خالفوه عرفوا بكتاب الله ضلالة من ضل وهدى من اهتدى ، فأولئك خلفاء الله .

      و فيه عن سفيان قال : اسلكوا سبيل الحق ولا تستوحشوا من قلة اهله[24]. فوقع الترديد بين النظرين .

      ثم إني أخذت في ذلك مع بعض الإخوان الذين أحللتهم من قلبي محل السويداء وقاموا في عامة أدواء نفسي مقام الدواء ، فرأوا أنه من العمل الذي لا شبهة في طلب الشرع نشره ، ولا إشكال في أنه بحسب الوقت من أوجب الواجبات ، فاستخرت الله تعالى في وضع كتاب يشتمل على بيان البدع وأحكامها وما يتعلق بها من المسائل أصولا وفروعا وسميته ب "الاعتصام" . و الله أسأل أن يجعله عملا خالصا ، ويجعل ظل الفائدة به ممدودا لا قالصا ، والأجر على العناء فبه كاملا لا ناقصا ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

      و ينحصر الكلام فيه بحسب الغرض المقصود في جملة أبواب وفي كل باب منها فصول اقتضاها بسط المسائل المنحصرة فيه وما انجز معها من الفروع المتعلقة به .

      1 رواه أحمد بهذا الرواية ، وفي سنده مجاهيل . وهو عند بن ماجة والدارمي بسند أثبت وبلفظ آخر قريب من هذا . ورواية أحمد الأخرى : "... قال أناس صالحون في أناس سوء كثير من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم" أصح سندا من الرواية المذكورة . ومجموع الروايات تقوى الحديث .

      2 وقال تعالى "أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون" [الأعراف : 172] فقطع فيها عذر التقليد في التوحيد .

      3 الحديث رواه الجماعة .

      4 الحديث رواه الترمذي .

      5 الحديث رواه البخاري ومسلم وبن ماجة وأحمد .

      6 وهو تحليل دقيق لنفسية المبتدع المخالف ، إذ أن النفس تأبى إلا الموافقة ، ولمّا كانت طبيعة البدعة المخالفة ، وانفرد المبتدع عن أهل السنة بها ، فإن نفسه تدعو إلى أن يزيد من عدد المخالفين للسنة والموافقين له ليستأنس بهم وتهيئ له نفسه أنه على الحق لكثرة من يستمع اليه ويتبعه !

      7 يقصد أن مطالبة المخالف للسنة غيره بموافقته هي ديدن المخالف في كل زمان ، وأن من يوافقه كان مصيبا بغض النظر عن مذهبه ومن لا يوافقه كان مخطئا حتى لو كان مصيبا في حقيقة الأمر .

      8 وقد جرى الشاطبي رحمه الله في هذا التقسيم للدين إلى أصل وفروع ما يهتدى به الناظر إلى التوحيد وما يفرق بين أصل الدين الذي هو التوحيد وفروع الشرائع وهي الأعمال .

      9 الحديث رواه بن ماجة بسند ضعيف ، ورواه أحمد في المسند بسند قوي .

      10 وهو رحمه الله تعالى من أهل القرن الثامن الهجري ، يصف الزمان كأنه يصف ما نحن فيه من تحكم العادات انتشار الآراء المخالفة للسنة والأفكار البدعية التي يعجب بها أصحابها وينبهر بها أتباعها ممن انعدم علمه الشرعي وأظلمت في وجهه طرق الهداية للحق .

      11 وهذا الإختيار كان ولا يزال قائما أمام كل من يتصدى لتصحيح المفاهيم والوقوف أمام الجهل والإبتداع. إذ أن المخالفين لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا ولا يزالوا يمتحنون المتابعين من أهل السنة ويرمونهم بالغفلة والخطأ و"تفتيت الصفّ" و"تشتيت الوحدة" وغير ذلك مما هو من قبيل التزييف والخلط والتمويه ، والحق أحق أن يتبع في كل مكان وزمان وحال .

      12 وهو موقف العلماء الأفذاذ والجهلبذة الأفراد في التمسك بالحق مهما كانت العواقب ، إذ أنها قليلة في جنب الله مهما كثرت .

      ** تواترت عليّ الملامة : أي تتابع عليّ اللوم
      وفوّق إليّ العتاب سهامه : أي سدّد إلي الناس سهام عتابهم أي عاتبوني، فوّق أي سدّد وصوّب يقال للسهم.
      ضيق العطن : العطن هو موضع مبارك الإبل حيث تحل وتجلس، وهو كالوطن للناس، يقصد أن ضاقت عليه الدنيا.
      البعد عن أهل الفطن : اهل الفطن أي أهل الفهم والذكاء، والفطنة الفهم.
      رقى بي مرتقى صعبا : أي صعد به إلى طريق وعر شديد، والعرب تعبر عن صعوبة الطريق بالمرتقى لأن الصعود أصعب من مجرد المشي على السهل. وهو يقصد أن موقفه أدى به إلى تحمل مشاق كثيرة .
      ضيّق على مجالا رحبا : مرة أخرى أن موقفه قد جعل ما يمكن أن يكون سهلا بمتابعة البدعة وأهلها أصعب وأشق مجالا.

      وهو كلام يشير بظاهره إلى أن اتباع المتشابهات لموافقات العادات أولى من اتباع الواضحات وإن خالفت السلف الأول: يريد أن هذا الكلام (أي أن تحمل المشاق وتضييق العطن والبعد عن أهل الفطن وغير ذلك...) يشير بظاهره إلى أن عدم متابعة السنة، بل مخالفتها ومتابعة أهل البدع أولى إذ ذلك يجعل الأمور سهلة ميسورة وهو خلاف ما فعل.

      13 الرفض هو التشيع إذ رفض الشيعة خلافة الشيخين . والشيعة الرافضة كفروا الصحابة وجاؤوا بأكاذيب وعقائد ماأنزل الله بها من سلطان بزعم محبة علي رضى الله عنه .

      14 والولاء لله هو متابعة أوامره والكفّ عن نواهيه ، ليس فيه رتب يبلغها من يبلغها ولا ينزل عنها كما في دين النصارى ورتب قديسيهم ، بل كل مطيع لله ففيه ولاء لله قدر طاعته ، تزيد بزيادة الطاعة وتقل بمقدار مخالفته .

      15 وهذا هو دين المبتدعة وديدنهم ، أن يلقوا بالتهم الزائفة على أهل السنة ، ولايتجرأ أحدهم على مناقشة موضوع الخلاف بالعلم الصحيح ، سواء بقواعد علم الحديث أو الأصول أو العربية، ولكن طريقتهم كانت ولا زالت مهاجمة شخص امخالفهم ، وتسميته أسماء تشبّه على العوام كما هو ديدن أهل زماننا من المبتدعة الذين يقولون عن أهل السنة "الوهابية" و "الخوارج" و "الإرهابيون" و "الرجعيون" و "الأصوليون" و غير ذلكك مما يدل على عجزهم عن مواجهة الحق بالحجاج ومواجهته باللجاج .

      16 ويشير رحمه الله هنا إلى ما يرمى به الأشعرية – ولا أقول أتباع الأشعري إذ فارق الأشعري هذا المذهب والتزم بمذهب السنة – أهل السنة من دعوى التشبيه حين يثبتون لله صفاته التي أثبتها لنفسه بلا كيف ، ولا يؤولون النصوص ويحرفونها عن موضعها إدعاءاً للتنزيه . وهو ما يدل على سنية الشاطبي رضى الله عنه في هذا المجال .

      17 الظاهرية مذهب أسسه داوود الظاهري في القرن الثالث الهجري وأقام صرحه ابن حزم الظاهري في القرن الخامس في الأندلس . وهو مذهب فقهي يقوم على انكار القياس والعمل بظاهر النصوص ، وقد اعتبره بعض علماء السنة "بدعة ظهرت بعد المائتين" .

      18 الباطنية هم طائفة خرجت من عباءة الشيعة ولهم عقائد مكفرة منهم الإسماعيلية والحشاشون .

      19 الأشعرية مذهب ينسب إلى أبي الحسن الأشعري في القرن الثالث الهجري . وهو مذهب أقامه الأشعري بعد أن انفصل عن المعتزلة أراد به التوسط في تأويلا لصفات وهو مذهب كلامي واسع ، إلا أن الأشعري نفسه تخلى عنه مؤخرا كما بيّن في كتابه الإبانة ورجع إلى مذهب أهل السنة والجماعة .

      20 المعتزلة مذهب أنشأه واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد في البصرة في القرن الثاني الهجري ، ويقوم على نفي صفات الله وتعطيلها ، وعلى نفي المشيئة الإلهية ، وله مبادئ خمسة هي العدل والتوحيد والمنزلة بين المنزلتين والوعد والوعيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وكلها قواعد موهمة تعكس بدعا أصيلة .

      21 وهو أدق وصف لما عليه حالنا اليوم من اختلاط الحابل بالنابل ، واشتباه البدعة بالسنة ، واتباع الجهل وترك العلم .

      22 وهي نصيحة جليلة لأهل العلم أن يهتموا بمن يروا فيه بشائر استجابة وعلم وألا ينشغلوا بالعوام إلا بقدر الحاجة كما في حديث أبي داود "و عليك بأمر الخاصة و دع عنك أمر العامة" ، فإن القليل الواعي الراشد أبرك عملا من الكثير الذي هو كالغثاء لا ينبت زرعا ولا ينضح بماء .

      23 والبصيرة والنية الحسنة هما جناحا القبول ، إذ أن البصيرة هي العلم ، والنية هي القصد ولا يصح عمل إلا بعلم صحيح على السنة وبقصد صحيح هو الإخلاص ، فتكون العبادة بما شرع الله وتكون خالصة لله .

      24 وهي قولة رائعة يجب أن يتخذها الدعاة إلى الله منارا في هذه الظلمات المطبقة ، إذ أن الغربة تستلزم قلة الرفيق ووحشة الطريق وندرة الصديق ، ولكن المسلم المتبع للسنة يستأنس في هذه الغربة والوحشة بما هو عليه من صحيح العمل ، فتكون صحة العمل مرشدا ومؤنسا في آن واحد .