إزالة الصورة من الطباعة

حكاية سلطان .. في دولة أقزام الزمان

قصة قصيرة

بعد حمد لله والصلاة على رسول الله ﷺ

كان ياما كان، في سالف العصر والأوان، ممالك تشغل حيز المكان والزمان. وكان منها مملكة لها سلطان، عُرف بالعدل والإحسان. لكن، ككل إنسان، كان فكره يقوده لنصر تارة أو خسران! وكانت له علاقات طيبة بإخوانه من أمراء النواحي والبلدان.

وفي يوم من الأيام، جاءت أقوام تتربص من قرون وأعوام، لتهاجم تلك الممالك كلها، امتد شرّها عاما بعد عام. وكان البلاء بأهل تلك الممالك عنيفاً والخطب جليلا. وتجمعت بعض جيوش من تلك الممالك تحاول صدّ ذاك الغادر اللئيم، ودرء شره عن العالمين.

وبدأت المعارك الشرسة بين تلك الجيوش، المؤتمرة بأمر قياداتها من قِبّل كل أمير، مع العدو الخطير، وكان لها نوع نصر، وإن كان الأمر عسير. وجاء المدد للعدو الذنيم. فبدأت تميل كفة الميزان، ثم وقع ما لم يكن في الحسبان!

تراجعت أمراء النواحي والممالك، وظن كلّ واحد منهم أنه هالك، فلجأ كلّ منهم إلى عدو صائل مشارك، يضمن له سلامة ورغدا بعد استسلام الممالك. إلا أميراً أظهر شجاعة وتكلم ببراعة. فسار كثير من الناس في ركبه وتمنوا ظهوره ونصره.

وكان لهذا الأمير مستشار عظيم، له في العلم مقام عالٍ كريم، اختاره الأمير على عينه لسبب لا يعرفه سواه، من بين عدد من المستشارين، لا يقلون علما ولا عدلاً عن ذاك المستشار المُختار، الذي تردّد عنه ردحا من الزمن نوعٌ من سوء الاختيار.

وتتابعت الأحداث، وبدأ يظهر على الأمير الانتكاس، وتغلبت عليه وساوس الخنّاس. فضرب الأمير بمواثيقه التي عقدها عرض الحائط، ونكّل ببعض جنده من مقاتل ومرابط.

وأراد الله أن يكون المستشار المُختار، في إحدى غفلات الفكر، فنصح الأمير بما هو له جِدُّ مكروه، فوقع الأمير في وضعٍ مختلٍ مشبوه. وصار يملي عليه بكلمات غير تامات، وتبريرات غير صالحات.

وكان مما أشار المستشار المُختار، أن  يلجأ الأمير إلى جوقة من الأقزام، تعيش في أطراف الممالك، يتسلى الناس بسماع لهجتها المضحكة، ويلقون اليهم ببعض النقود والأطعمة، فيُسر الأقزام بما كسبوا، ويعودون لمكانهم في عشش لا يلحظها أحد ولا يلقى لهم بالا ذو رَشَد.

فكان أن طلب الأمير من حراسه أن يأتوه بالأقزام، ليمثلوا بين يديه. فأتوه مسرورين، وجلسوا بين يديه ممتنين.

قال الأمير: يا أقزام المملكة، علمتم ما حلّ بنا ما شؤمٍ وما جرّنا اليه المكر بالعهد واللؤم.

قال كبير الأقزام، واسمه بهلول، لم يكن يزيد في قامته عن شبر واحد: لا يا أمير، لست حقا بمبير. لكننا نعرف كيف نُصلح الأحوال، ونرتب الأقوال، فسنجعل منك حكيماً وفوق الناس عليما.

قال الأمير: لكن عملكم ليس من الكلام والتعبير، إنما هو التسلية والتفكه للصغير والكبير؟

قال بهلول: علمتنا صنعة اللهو والتسالي، ما لم تعلمه غيرنا الأحداث ولا الليالي، فأتقنا الدجل وعرفنا كيف نمارى في الحق دون خجل.  

قال: هذا هو مستشاري الموثوق، وولي أمرى المرموق، خذوا عنه كل ما يخرج من فيه، فزينوه على ما كان فيه، ففيه كثير حق نعرفه، وبعض تنكّب عن الحق نرغبه.

قال قزم أصغر، لولا صوته ما كان للعين يظهر، اسمه مهمول،: وما لنا إن فعلنا يا أمير؟

قال: سمعة واسعة، وكلمة مسموعة، فيأتيكم الناس بعد أن كنتم تسعون اليهم، وتضعون رؤوسكم برؤوس من هم من إخوان المستشار المرموق، وتحاجون بما يلقى اليكم من كلامٍ، واتخذ منكم وزراء أعلام.

طارت الأقزام فرحا، وتسابقوا، يتقافز بعضهم فوق أكتاف بعض، حتى وصل كبيرهم الشبر لتقبيل يد الأمير، عرفانا بالجميل والتقدير.

ومن يومها، والأقزام يتناوبون على ترويج كل ما يقال لهم، وكأنهم وُلدوا في كراسي الوزارة، بين قلم ومحبرة، وهم ما حملوا قلما من قبل إلا لتسليك أحواضهم المصغّرة.

ولا يزال الناس يدعون، وإلى المستشار راغبون، أن ارفع عن أهل الممالك، هؤلاء الداعين للمهالك، الناعقين دون تفرقة بين الحق والباطل من دروب ومسالك.

د طارق عبد الحليم      24 مارس 2018 – 8 رجب 1439