الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ﷺ وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد
1)
لا شك أن الدفاع عن إدلب اليوم كما قلت سابقا يجب أن يكون على رأس الأولويات بالنسبة لكل المجاهدين، لا لبعضهم دون بعض. فإنك ترى فصيل يثير ما يراه الأخرون قلقا وانحرافا عن صد الصائل، فيقول الآخر: ما نحن وذاك الآن، رد الصائل أولاً. ثم ترى ذاك الفصيل نفسه يشرع في إجراءات لا داع لها ضد الأخرين، وكأنما التركيز على دفع الصائل، حجة على غيره، لا عليه.
وأود قبل أن أشرع في الحديث عن حقيقة ما يدور مع هيئة تحرير الشام، حالياً، أن أبين لبعض الأبناء الأحباء، أن الوضع لا يحتاج إلى مهاتفات تليفونية، ولا صفحات تليجرامية، ولا تغريدات تويترية، ولا فيديوهات مرئية، لتحديد موقع الهيئة الآن، الشرعي والواقعي، مع العلم والاتفاق على أن الوااقعيّ يجب أن يتطابق مع الشرعيّ في كل حال لا العكس، وإلا وقعنا في محذور كبير.
وهو ما يؤدى بنا إلى النقطة الثانية، وهي أنّ التوجيه والإرشاد لازم وضروري، في كل حالٍ من عالمٍ حقٍ يثق به الشاب أو الأخت، لا تتراوح ثقته به مع مخالفته لما يراه هو/هي شخصياً، فإن هذا هو عين الهوى المنهيّ عنه شرعاً، فمخالفة عالم اتبعته على ما قيّم به مناطات كثيرة من قبل، لا يُعقل أن تنحرف عنه يوم أن يقيّم مناطا جديداً يختلف معك فيه .. هذا من أسوأ ما تكون عليه عقلية المسلم الطالب للحق.
وتقييم المواقف، هو ما يسميه علماء المسلمين "تحقيق المناطات" أي إنزال واقع معين على حكم شرعيّ يراه داخل تحته. لكن الشباب اليوم، سواء الطفيليون الرويبضات منهم ممن ذكرنا من قبل كإسماعيل وخطاب ودهب وتلك الشخصيات التي صنعتها أحداث وتكنولوجيا لا نصيب لعلم شرعي فيها، أو الشباب المنخدع المحب للجهاد، الذي يكبر في نفسه أن يسقط رمز له، تعلق به واستوحى منه معنى العزة التي يفتقدها ويحلم بها، فجأة دون سابق إنذار.. فلكي يحفظ توازنه النفسيّ، يحاول التشبث بالحلم، عن طريق تصويب خطأ وتصحيح موقف، بأي تبرير يطرحه أي كائنٍ ولو خالف من كان يثق بهم من قبل، ومن ثبتت عنده مكانته بلا غبار، الشباب عاجز عن تحديد موطن الخير ومكمن الشر دون إعانة من أصحاب علمٍ سديد.
وتحقيق المناطات، أو تقييم المواقف، ليس بأمر سحريّ أو إعجازيّ، وإنما يحتاج إلى من يعرف طرفي المعادلة معرفة جيدة. أولاً العلم الشرعي بالأحكام، وبقواعدها وما هو ةمنها نصاً أو اجتهاداً، وقواعد التعارض والترجيح، غير ما يلزم من فقه النوازل خاصة. ثم معرفة ما يجرى على الأرض، وهو ينقسم إلى قسمين، من هم على الأرض يععملون، ومن هم في أي مكان تنتقل لهم فيه الأخبار، سواء كان مائة كيلومترا أو عشرة آلاف، فهم في هذا التلقي سواء، لما يعرفه الناس من تكنولوجيا الاتصالات الآن. وكلّ من الفريقين يعتمد على مصادر للأحداث، يسميها الإعلام "المراسلون"، سواء كانوا مراسلين مهنيا أو شخصياً، بلا فرق.
ثم الأمر، يا أحبة، يعتمد على عملية عقلية دقيقة، تربط أجزاء الحدث بعضها ببعض، ولا تنظر لجزئية وتتلافي أخرى، وتكون في ذلك الترتيب خالية من الهوى، لا يهمها ما يؤول اليه الترتيب الصحيح، إن جرّح محبوباً أو عدّل مجروحاً. وبعد تكوين تلك الصورة التي شملت سوابق الحدث ولواحقه، تبدأ عملية الربط الشرعيّ بين ذلك "المناط" وبين ما يناسبه من قاعدة بيانات الأحكام الشرعية، سواء ما يكون منها نصاً أو اجتهاداً بحسب الأدلة الشرعية المعروفة في علم أصول الفقه، ثم يعرضها بعد ذلك على كليات الشريعة ليتأكد من صحة ما وصل اليه، دون أن تخل الكليات بالجزئيات أو الجزئيات بالكليات. فيعمل العقل الشرعي كالحاسوب في البحث والتنقيب. لكنه لا يمكن أن يُعتمد فيه على حاسوب في جوجل مثلاً، إذ إن ما هو في مباحث جوجل أحكام عامة لم تنزل على مناطات. فهي بذلك فاقدة لأهم عنصر عقلي بشري عالمٍ وهو عنصر النظر والربط الصحيح. ومن ثم ترى علماء جوجل، هم من رويبضات العصر، إذ هم فاقدي تلك القاعدة العلمية الأساسية التي تأتي من معاناة العلم، وممارسة تلك العملية التي وصفنا في تركيب الصورة الحقيقية للمناط أولا، والتي من أهم عواملها الخبرة والعمر كذلك، وهم فاقدي بالكلية للقاعدة العلمية بأي درجة منها ..
ثم أشرع في الغرض الأساس، وأنصح القراء أن يستوعبوا الجزء الذي ذكرنا تمام الاستيعاب قبل أن ينتقلوا للجزء الثاني.
2)
سأذكر الشباب الطالب للحق ببعض ما حدث قبلاً من حيث أن الفتوى الصحيحة تخرج باعتبار سوابق الحدث ولواحقه، كما ذكرنا.
- اختلف الجولاني مع البغدادي بشأن تبعية النصرة لتنظيم الدولة، فكان موقف الجولاني أنهما كليهما يتبعان القاعدة، وأنه سيرجع للأصيل، وهو الحكيم ويتجاوز الوكيل الذي هو البغدادي لعدم موافقته على طلب البغدادي بحل النصرة.
- تحاكم الجولاني والبغدادي للحكيم في عام 2013، وكان المعروف المقرر لديهما أن كليهما يخضع لبيعة للقاعدة، بيعة بمعناها الشرعي، وما يترتب عليها من إمارة وتبعية.
- نكث البغدادي بيعته للحكيم صراحة بعد أن أمره بالالتزام بالعراق، وأقر الجولاني والبغدادي سنة واحدة كلّ على جماعته، حتى يقضى في الأمر.
- سارع الجولاني وقتها بإعلان البيعة للقاعدة، علنا، دون أن يقيدها بأي قيد، بعد أن كانت سرية ليواجه بها مالياً ومعنوياً، اكتساح البغداديّ.
- نكث البغدادي ببيعته للقاعدة، وبدأ الهجوم بشراسة عليها إعلاميا ، وأتاح الفرصة لسفهائه أن يسخروا من أميرها، ولعن الهالك العدناني كل من له صلة بها، وبدأت حملة التبريرات أن بيعة البغدادي كانت بيعة ظاهرة لا حقيقة، أو هي بيعة مؤقتة .. وكل تلك الترقيعات، التي رفضها الجولاني وغيره من كافة أنحاء الوسط السنيّ وقتها.
- ظهرت على الساحة فصائل أخرى، عُرفت عمالتها، مثل جيش الأفلام العلوشي منذ أيام زهران علوش. وتدهور حال الأحرار، بعد أن كان لديهم بعض الحياء أيام حسان عبود، ووصلت الحركة النحاسية قمتها، وتولى كبرها سفاؤها مثل هاروش وشريفة، بدعم غير مباشر من صالح الحموي ايامها.
- أبدت الأحرار استعدادها للجلوس مع الأتراك، وغيرهم من الضامنين، بعد أن استمروا في تلقي الدعم المالي من قطر والغرب. وكان نتيجة ذلك أن أملوا عليهم ضرورة مطالبة النصرة بنكث بيعتها للقاعدة كشرط للتوحد.
- وبدأت سلسلة الإنحدار لدي قيادة الهيئة، عند تلك النقطة، إذ نسبوا لأبي الخير رحمه الله موافقته على ما أسموه "فك الارتباط"، وأشاعوا أن ذلك برضى الحكيم، أميرهم. وكان الظن لدي الكثير، وأنا منهم، أن ذلك كان واحدا من اثنين، إمّا أنهم فعلا استشاروا الحكيم ورضي بذلك، أو أنه فك ارتباط ظاهر لا غير. ومن هنا استمررت على دعم قراراتهم وتصرفاتهم، حين هاجموا الأحرار والزنكي، وحين انتقلوا من جبهة التحرير إلى هيئة التحرير لاستيعاب بعض الأحرار وجند الأقصى وقتها.
- انخلعت من الهيئة جنود الطحان، وحاربت الهيئة الأقصي حرب استئصال، وهو ما رضينا عنه من حيث كانوا فرعا من داعش. إلا أن انفصال الطحان أثار وساوس ساعتها، من حيث ظهرت أقوال عن أن الخلاف كان على السيطرة والمال، لا على غير ذلك. وتم قبلها الاستغناء عن د سامي العريدي كرئيس للهيئة الشرعية، وإعادة أبو ماريا، الذي كان من أشد مشجعي الأحرار ومهاجمي الهيئة، عضوا في تلك اللجنة ذاتها، مما جعلنا نتساءل، ماذا حدث؟ وكان ما حدث هو زيادة بوصلة الانحراف عند قيادة الهيئة حين خسرت ما كان الله قد فتح عليها به، أيام انتمائها للقاعدة، فإذا هي محصورة في إدلب، كما انحصر البغدادي في الرقة، والجزاء من جنس العمل.
10. بدأت تتردد روايات كثيرة متطابقة عن ممارسات سيئة لكثير من أمراء الوحدات، وهو ما أشرنا اليه وطالبنا بتعديله كثيراً، ولم نتجاوز.
11. ثم بدأ خروج بعض الإخوة مثل أبو خديجة وأبو جليبيب، وتسربت تصرفات غير لائقة مع بعض النساء، مما أثار حفيظة البعض.
12. ثم بدأت أخبار شبه موثقة عن اتفاق بين الهيئة والأتراك، على أن تضمن الهيئة عدم وجود أي تمثيل للقاعدة كشرط أساسي في إدلب، وتضمن تركيا مساعدة الهيئة في صد عدوان الروس والنظام عن إدلب إلى جانب ضمانات شخصية. وهذه الأنباء تتناسق داخلياً مع ما كان يقع على الأرض من تصرفاتٍ عجيبة، مثل ما حدث من تصريحات حسام الأطرش، التي كانت بمثابة جس نبض للجند، ومثل البدء في مهاجمة القاعدة، وأنها هي سبب النكبات في الشام، وبدأت حملات تشويهها على يد عطون خاصة، ثم مهاجمة من يعلن ولاءه لها، حتى هدد عطون بسفك دماء من يعلن ولاءه لها!
13. وثار العجب! ماذا كانت بيعة الجولاني إذن؟ ماذا حدث لها؟ ماذا وراء الأكمة، كما كتبت في خاطرة وقتها؟
14. خرج د العريدي ببيان كامل عن أحداث نكث البيعة، وبدأ تخبط الهيئة بعدها، متمثلا في ردود غير متناسقة ولا منطقية.
15. ثم بدأت سلسلة الاعتقالات، التي تؤكد بما لا يدع مجالا للشك في الاتفاق المبرم مع تركيا، والذي يتضمن محو وجود القاعدة، إسما وانتماءً وفكراً، حتى يمكن أن تدخل إدلب في منطقة "خفض التوتر" رغم تصنيفها الإرهابيَ.
16. وبدأ سيناريو تنظيم البغدادي يعيد نفسه مرة أخرى، البيعة كانت مؤقتة، البيعة كانت اضطراراً، كما بدأ السفهاء من حثالة تويتر يسخرون من الحكيم، وعلى رأسهم الطفيليون الشرعيون، بدلاء "ترجمان الأساورتي" البغدادي، مثل كلّم ودهب وغيرهما من الشخصيات التافهة المتسلقة، بل ويتهمه بعضهم بالخيانة.
17. خرج الحكيم ليؤكد إنه لم يوافق على فك بيعة ولم يحدث ما ذكره الجولاني ورفاقه، الذين نسبوا كلاما لموتى، أبو الخير وأبو الفرج رحمهما الله.
18. المعروف أنه إن اختلف المالك الأصلي على من ادعى الشراء، وتباينت الأقوال، فإن القول قول المالك الأصلي بدليل استصحاب الحال، إذ الملكية واقعة في حوزته بيقين، فلا تخرج إلا بيقين. وملكية حلّ البيعة في يد قادة القاعدة، والأصيل ينكر ما قدمه من زعم فضّها، دون دليل يقيني إلا من شهادة شهداء قضوا، رغم الاختلاف في أقوالهم. فالواجب عند من له أدنى فهم في علم القضاء أن يعرف ذلك، وإلا كان من أصحاب اللحى الطويلة والنظر القصير!
19. ثم، جاء دور الوثيقة، بعد أن ماطل الجولاني، وماطل وماطل وماطل، فيها، لإجل أن يحاول إبقاء اتفاقه مع الأتراك. ثم وصلت إلى هيئة الشيخ عبد الكريم والجولاني، ثم إخراج وثيقة عار، قد بَيّنت عوارها الشرعيّ في مقال كامل، لم ولن يقدر أحد أن يرد على ما جاء فيه، إلا اعتسافاً وتبجحاً
20. حين أراد وكيل القاعدة أبو همام أن يرجع لمشاورة قادته رفض الجولاني بكل تعسف وتبجح، زاعماً أن هذا نكث للعهد!! وسبحان الله، إذا لم تستح فاصنع ما شئت، فالجولاني آخر من يتحدث عن نكث عهد في الشام كلها.
21. ثم نضيف هنا مخالفة شرعية خامسة، على ما قررنا في مقالنا السابق، أن الوكالة يجب أن تنص على موضوع التوكيل صراحة، لا عموماً. فإن وكالة أبي همام، وكالة في إدارة الشؤون، لكنه لم يُوكّل في موضوع الوثيقة وكالة مباشرة ملزمة لمن وكّله.
هذا ملخص ما جرى .. ولكل منصف أن يرى ما يرى، لكن الأحداث واضحة مرتبة منطقية تفصح عن دوافعها بلا حجب، إلا عند أصحاب الهوى.
وقد ذكرنا قبلا أن الأمر أهون من ذلك. إذ الشرع لا يقر مصلحة وهمية عقلية تعارض نصاً صريحاً إلا عند أمثال نجيب الأحرار أو هاروشهم، من فقهاء جوجل. وهذا ثابت في كتب أهل السنة بلا خلاف.
فإن قيل لكم يا شباب، لكنها مصلحة حقيقية، قولوا، فإنها استثناء من النص أو القاعدة بالمصلحة وله شروط، راجعها في بحثى "الاستثناءات من القواعد الكلية" وهذا نص صريح صحيح، إنما مصلحتكم لا حقيقة فيها، إذ أين نصرة تركيا والنظام يتقدم في الجنوب الشرقي وجنوب حلب، بيننا تركيا تستنكر؟
ثم، من سأل قادة الهيئة ناكثي البيعة أن يعودوا عن اتفاقهم؟ قلنا فقط لا تلتووا بالأحداث ولا تُحرفوا النصوص ولا تكذبوا. اعترفوا بالخطأ وستجدون قادتكم من أكثر الناس تفهما ووعيا، أكثر من شباب لا تزيد خبرته عن خمسة سنوات، مقابل خمسين سنة!! ولعلكم تقرأوا بيان القاعدة الأخير، الملئ بالفهم والاستيعاب والصبر والأدب، يترفع عن محاورة السفهاء، ويصل إلى قرار الأمر، أن اعتنوا اليوم بصد الصائل، ولا تثيروا مشاكلاً، حتى لو لكم فيها حق، فإن عين الله ترقب، ولن ينصر من ظلم، بل سيستبدله ولو بعد حين، وليس البغدادي منا ببعيد!
اللهم انصر كلّ مجاهد في إدلب ضد الصائل المعتدي.
د طارق عبد الحليم 13 يناير 2018 – 26 ربيع ثان 1439
- مرفق 1 - تحميل