إزالة الصورة من الطباعة

الحرية الملتزمة .. أولا – ردّ على مقال راشد الغنوشيّ

ما أن إنتهيت من قراءة مقال الأستاذ راشد الغنوشي التي نشره على موقع الجزيرة نت تحت عنوان "الحرية أولا" حتى شاع الرعب في نفسي مما جاء فيها من خلط كثير بين المعاني والكلمات، والأسماء والمسميات، لا تحدث إلا عن إضطراب في استيعاب الفكرة والمبدأ كنت أحسب أن الأستاذ الغنوشي ارفع من أن يقع في مثلها. وقبل أن أن اعلق على ما ورد في المقال، أود أن أوجه النظر إلى أنه يجب التمييز:

  1. بين الإسم والمسمى، أو بين المبدأ في حدّ ذاته وبين حدود ما تحمله اللغة لبيان هذا المبدأ، وهو الفارق بين الفكر واللغة بشكل عام.
  2. بين المبدأ كما هو في حده اللغوى الأصلي، وبين ما داخله من معانٍ أصبحت تشكل جزءاً من معناه، وهو المعنى الإصطلاحيّ، وهو الفارق بين الواقع واللغة بشكل عام.
  3. بين المعنى الإصطلاحيّ كما استقرت عليه حدود الإستعمال، وبين ما هو مطبق على أرض الواقع من هذا المعنى، وهو الفارق بين المقبول واقعاً والمقبول إكراهاً.

وهذه الفوارق هي التي يؤدى عدم إدراكها أو إغفالها إلى الكثير من الإضطراب في المفاهيم والأفعال على حدّ سواء. ويصدق هذا أيّما صدق على تعبير الحرية، الذي تاه به الأستاذ الغنوشي.

قد تكون بعض الجماعات الإسلامية قد أساءت في التعبير عن رفضها لشكل أو لآخر من الحرية، بمعنى من معانيها، وقد يكون الأستاذ الغنوشي قد أشاد بمعنى من معاني الحرية لم تقصد إلى إدانته الجماعات الإسلامية، ولكن هذا لا يلزم منه أن يَصِم الأستاذ تلك الجماعات بأنها "تجعل من تكفير الديمقراطية رزقها وشنآن الحرية ديدنها"، فهذا إيغال في العداء ومبالغة في التبسيط على حد سواء.

ولننتقل إلى معطيات الأستاذ الغنوشي ومفرداتها لنرى ما تحتها من خلط واضطراب:

  1. فحين يقول الأستاذ أن الغرب هو المانع من تحقيق " أشواق أمتنا للحرية ونيل نصيبها من المغنم الديمقراطي"، يكشف أنه قد ربط بين مفهوم الحرية ومفهوم الديموقراطية، على المستوى الفكرى واللغوى. ونحن لا نخالف في أن هذا هو الشائع الإستعماليّ في ايامنا هذه من أنّ الديموقراطية هي الطريق الأوحد للحرية، أو أن الحرية هي الطريق الأوحد إلى الديموقراطية، أيهما شئت. ولكن هذا الربط يتعارض مع معنى "الحرية الملتزمة" التي بيّنها الإسلام من ناحية وبين ما هو من قبيل ما آل اليه المعنى المطبق من مبدأ "الحرية" على أرض الواقع. وقد يكون هذا الربط مقبولا من الجهة البراجماتيه التي تريد أن تنفذ من "الحرية" بمفهومها الغربي إلى "الحرية الملتزمة" عند البعض، إلا أنه حتى هذا القدر من البراجماتيه ليس مما ذهب اليه الأستاذ الغنوشي فيما كتب.

    والحرية، التي دأب الإسلاميون على رفضها هي الحرية المطلقة التي تأتي بكل غثّ وسمين، وتصحب معها كلّ صالح وفاسد، أو خير وشرّ. هذه الحرية المطلقة هى بلا شكّ وليدة الديموقراطية التي هي مرفوضة شكلا وموضوعاً من الإسلاميين، فالديموقراطية، خلافاً للحرية، ليس فيها ما يتوافق مع التصور الإسلامي في عرضه لمبدأ التوحيد، توحيد الخالق وتوحيد المشرّع على السواء، والديموقراطية، بأي إسم أو شكل طبقناها كما هي في التصور الغربيّ، هي شرك في توحيد المشرّع، يضع الغالبية موضع الله سبحانه، وإن تاهوا وخلطوا، كما نرى فيما شرّعت الديموقراطية الغربية من تقنين الشذوذ الجنسي لمّا قبلته الغالبية! ولكن الحرية، بمعناها الملتزم، مقبولة، بل مطلوبة إسلامياً. والحرية الملتزمة هي التحرر مما فيه أذى للبشر، ومن استعباد النظم البشرية.

    لذلك حين يقول الأساذ الغنوشي أنّ الجماعات الإسلامية "مترددة في المضي بالحرية والديمقراطية ومعهما إلى النهاية" فإنه لا يدرك أنّ المضى مع الديموقراطية والحرية في وضعهما الواقعيّ إلى النهاية لا يعنى إلا الإنخلاع عن المبدأ الإسلاميّ بالكلية، حتى وإن وثقوا بأنفسهم كما أراد، وحتى إن تصور أنهم الغالبية التي ستؤدى في النهاية إلى إنتصار الإسلام في ميزان الديموقراطية، فلا الإسلام يعمل بهذا المنطق، ولا الديموقراطية تقبله على حدّ سواء. إذن فقد جانبه التوفيق في هذا القدر من المقال.

  2. ثم قوله عن "المضي بمبدأ المواطنة إلى نهايته"، فهذا أمر يجب كذلك تحديد المراد به بالنظر في معنى مبدأ المواطنة كما هو مستعمل في ايامنا هذه وما هو معناه فيما ورد لنا في السنة الشريفة مما قد يشتبه به، أو يشاركه في بعض حدوده.

    و لا ندرى هل غفل الأستاذ الغنوشي عن الفارق بين مفهوم المواطنة المعاصر وبين ما هو في الصحيفة كما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صحابته رضوان الله عليهم في التطبيق، أم أنه تغافل عنه، ونرجح أنه تغافل عنه عمداّ إذ قال، فيما نراه دليل عجيب على صحة المواطنة بمفهومها المعاصر "فضلا عن أن النموذج التاريخي للدولة الإسلامية الذي تأسس على شرعية الفتح قد انهار وحلت محله دول قطرية على أساس الاشتراك بالتساوي في المواطنة"ّ فهل يعنى أن إنهيار الشكل الإسلاميّ للدولة قد اثبت فشله ونزع الشرعية التي أولاه له الفتح؟ كلام لا يجدر أن يصدر عن مسلم بله عن باحث إسلاميّ. والمواطنة في التصور الإسلاميّ هي التساوى في الحقوق والواجبات أمام القانون الإسلاميّ الذي يحدد بمصدريه القرآن والسنة، ما هو من حقوق أهل الذمة، أو الأقليات من أصحاب الديانات الكتابية الأخرى بالتعبير العصريّ، وهى حقوق المسلم في عالي الأحيان والشوؤن، وما هو ليس من حقوقهم، وهو القليل كما في تولى الولايات العامة.

    لكن الأستاذ الغنوشي يريد أن نذهب مع مفهوم المواطنة المعاصر إلى غايته، فلا بإس بأن يتولى ولاية المسلمين العامة نصرانيّ او يهودي، بدليل ان من المسلمين اليوم من يهاجر إلى الغرب فيفضل الحياة تحت حكم النصاري على الحياة تحت حكم المسلمين! غجباً ثم عجباً، فإن الحكم في أرض المسلمين اليوم ليس هو حكم الإسلام بلا خلاف، والهجرة إلى بلاد الغرب في غالب أحوالها هي لطلب الرزق لا لغرض سياسيّ، إلا الأقلية التي وجدت ملاذاً لها تحت مبدأ "الحرية" غير الملتزمة في الغرب، إلى حين.

    ونجد أن الأستاذ، حين لم تظهر براجماتيته بصراحة في الفقرات السابقة، قد أعلن عنها هنا إلى حدّ يهدد مفهوم التوحيد ذاته حيث يقول: "وكيف تستساغ مطالبة الإسلاميين الأحزاب الحاكمة وغالبها علماني بالاعتراف بها، بينما هم ليسوا مستعدين لأن يبادلوها نفس الاعتراف؟". فالإجابة عن تساؤله تكمن في أن الإسلاميين لا يزالون يعتبرون القائمين على هذه الأحزاب أنهم مسلمون لا يزالون! فإعتراف الإسلاميين بالعلمانية التي هي إنخلاع عن الإسلام، لا يتساوى مع إعتراف العلمانيين المفترض أنهم من المسلمين بإعتراف الإسلاميين، وهي النقطة التي يختلف فيها الإسلاميين بعضهم عن بعض، والتي لا يظهر من كلام الأستاذ الغنوشيّ إلا أنه وجد حلها في رفع مسمى الإسلام عن القائمين على الأحزاب العلمانية.

  3. أما عن حقوق المرأة في تولى المناصب العامة فقد خلط الغنوشى خلطا فادحاً بين ما يتبناه بعض الإسلاميين من إجتهادات شرعية مرجوحة، إن شئت، وبين ما تراه الغالبية الإسلامية من حقوق للمرأة تكفّل بها الإسلام، كحق التعليم والتعبير عن الرأي وغيرهما مما هو من فضول القول إذ يعرف القاصى والداني ما أعطى الإسلام للمرأة من حقوق. أما أن نعتبر مسألة تولى المرأة للولاية العامة على أنها من هضم حقوق المرأة، فهي من الأستاذ محض إتباع للفكرة الغربية عن الحرية المطلقة التي استعبدت وجهة نظره في كل ما راح اليه في هذا المقال. والحديث المذكور "ما أفلح قوم ولوا أمورهم إمرأة" قطعي الدلالة ولا شك، إذ جاء بلفظ النكرة المطلق "قوم" أيّ قومٍ، وإدعاء تخصيصه لا يصح بأى مقياس من المقاييس الشرعية المعتمدة إلا لمن إعتمد العقل مرجعاً، أو لصاحب الهوى مطلقاً، كائنا من كان القائل بذلك.

    ولا بد أن ننوه هنا بالفرق بين الأمثل الذي يسعى إلى تحقيقه الإسلام وبين الواقعيّ الذي قد يفرض نفسه على الناس في زمان معين أو مكان معين، وتعيين إمرأة في الحكم ليس أكثر من فرضية لا واقع لها، وضعها العلمانيين لإحراج المسلمين في دينهم، وتحريف الكلم عن مواضعه لتلافي هذا الإحراج ليس من شيم العالم الربانيّ. ولا شكّ في أنّه إن حكم الواقع، إفتراضاً، بأن تتولى إمرأة صالحة الحكم، فلا بأس أن يتبعها المسلمون إلى حين، إذ يجب عليها، في حين من الأحيان، إن كانت من الصالحات، أن تتبع السنة الثابتة وأن تجد بين الرجال من هو أرشد منها، ولا نرى أمة تخلو من رجل أرشد من إمراة إلا أمة تخللها العفن وأكلها الفساد.

  4. ونفس التوجه قد اتبعه الغنوشي في مقاله عن تولى غير المسلمين الحكم، إذ إن الإعتراف بحق غير المسلم في تولى الحكم في مشروع إسلاميّ لدولة تطبق الشرع الإسلامي، وهو أمر هزليّ حتى إفتراضاً، هو ترسيخ للمبدأ لا يمكن الرجوع عنه. والأعجب أن الغنوشي، الباحث الإسلاميّ، يعتبر أن "البحث عن الأصلح والأكفأ والأعدل" في تولى الولاية العامة، يمكن أن يتجاوز ما دلت عليه الشريعة من شرزط الذكورة والإسلام! والذهاب بالجدل إلى شرط المعتقد والجنس وغيرهما – على حدّ تعبير الغنوشيّ، هو أمر من أمور الشريعة الثابتة. والتعلل بالمصالح يجب أن يكون على قدر الحاجة ودواعيّ الوقت، وكما هو معروف في مباحث المقاصد والمصالح، وعلى شريطة أن لا تتعارض المصلحة مع نصّ ثابت، وان تكون المصلحة المتوقعة من العدول عن النصّ إعمالا للمصلحة واقعة حالا لا مآلا، وما نراه في مسائل ولاية المرأة وتولى غير المسلم إنما هو محض إفتراض لا أكثر ولا أقلّن فهل تتغير الثوابت لأجل هذه الإفتراضيات التي أملتها علينا الديموقراطية الغربية الفريبة عن الفكر الإسلاميّ؟

    والبحث في المقاصد الشرعية والقواعد الكلية، ومدى هيمنتها على النصوص الجزئية، بحث طويل معقد، تتضارب فيه أنظار المجتهدين، لكن الأمر الذي نعتقد أن الغنوشي قد صدر عنه في آرائه، هو تقديم المقاصد الكلية على النصوص الجزئية في الأحكام الشرعية إلى مدى أبعد كثيراً مما يحتمله الشرع، وهو ما ينشا عنه ذلك التجاوز في إعتبار الأدلة الشرعية النصيّة. وهو بحث نود أن يتيح الزمن وقتا لبيانه.

  5. أما عن أنّ الأمة هي الضامن، فهو طرح اقل ما يقال فيه السذاجة والمثالية، فالواقع، كما صوره الغنوشي نفسه، محاط بكل فاسد وطالح، وإن أخذنا بإفتراض أن المجالس البرلمانية، التي تجعل من رأي الغالبية مشرعاً وحاكماً وإن كانت الغالبية مسلمة، يمكن أن تكون نزيهة رشيدة في ظلّ هذه الديموقراطية، فما علينا أن نعدل عنه إلى إفتراض مجالس شورى من علماء أفاضل ربانيين، بدلا عن الهيئات المهترئة الملفقة من علماء السلاطين، يقدمون الحكم الشرعيّ وادلته إلى الحاكم ومؤسساته التي تقوم على حاكمية الله سبحانه وحده لا شريك له، وفق دستورٍ يرى أن الإسلام "مصدر رئيسيّ للتشريع" ضمن مصادر أخرى، وفق التصور الديموقراطيّ الذي يراه الغنوشيّ متوافقا مع الإسلام!! إفتراض بإفتراض، فلماذا نعمل على ترويج فرضية مخالفة للإسلام إلا إن كان ذلك من مظاهر الإستسلام الباطن للفكرة الغربية؟!

اخيراً، فإنه يجب أن لا ننسى أن المحن التي تمر بها الأمة الإسلامية إن هي إلا إبتلاءات للفرد والجماعة، للعالم والعاميّ، للحاكم والمحكوم، وعلى كلّ منهم أن يحقق النظر فيما يقول أو يفعل، قبل أن يقول أو يفعل، "وإلا فقل يا زلة القدمِ".

نقلاً عن جريدة المصريون