إزالة الصورة من الطباعة

6- بين حقٍ ضائع ..وواجبٍ مُضَيّع 1/2

تجمّعت السيدات حول مائدة القهوة في منزل أم عمرو، وبعد القيل والقال والسؤال عن الأحـوال، إذا بالمضيفة، أم عمرو، تنـدفع في بكاء حار متهدج، مما جعل صاحباتها يسرعن إليها ويربتن عليها مهدئات متسائلات: ما الأمر؟ ما الخبر؟ ماذا حدث بالله عليكي، أم عمرو؟.. قالت أم الفضل:" على رسلك أم عمرو، اهتدي بالله، ولتقصي علينا ما حدث، إذ إن لم نتباحث في مشـاكلنا القائمة كنا كمن يعالج مجتمعـا "أفلاطونيّـا" لا يمت للواقع بسبب، أو كهؤلاء "الأرأيتيين" الذين يعالجون مشاكل خيالية لم تقع بعد." قالت أم عمرو:"لك الحـق، أم الفضل، وسأروي لكن ماذا حدث مما جعلـني أنخرط في البكاء؛ فقد اعتدت أن أقوم ببعض ما يخص البيت من معاملات كدفـع الفواتير المستحقة واصطحاب الأولاد إلى الطبيب، كمساعدة له على لأواء العمل ومشاقه، ثم عـنّ لي منذ فترة أنني أحتاج إلى الراحة والاسترخاء بدلا من أن أعذب نفسي بمثل هذه الأمور، ثم أليس زوجي هو المسؤول عمّا يخص أمر البيت من كافة احتياجاته؟ فكان أن ذكرت لزوجي ما عزمت عليه من عدم المساعدة في هذه الأمور مرة أخرى. تجهم زوجي ثم قال: ولكنك تعرفين ساعات عملي وما أواجه من مشاق في سبيل إقامة هذا البيت وتعميره، ألا تمدين لي يد المساعدة وأنت قادرة عليها‍. قلت: بل إنني أفعل ما هو مطلوب مني في أداء الأعمال المنزلية من طعام وكيّ وتنظيف وترتيب، فماذا عليّ بعد ذلك من أن لا أقوم بما هو من واجباتك أصلا، وإنما حقي عليك أن تؤمّن لي خـادما يقوم على شـؤون البيت، فإني ما تزوجتك لأكون لك ولأبنائك خادما. واحتدم النقاش بيننـا ثم تطوّر إلى نزاع، فصراع. وصرنا نتبادل التهم، كلّ ينكر على الآخر حقّا له ويطالبه بواجب عليه، ولم ينتهي الأمر إلاّ وكلانا قد نال من الآخر نيلا وأصابه بما لا يرأب مع الزمن.".

تبادلت السيدات نظرات العطف والتفهم، وتنهدت أم هانئ، وسادت فترة صمت مشحون بالتوتر قطعته أم الفضل قائلة:"أعرف ما تقصدين، أم عمرو، و والله إن هذا لمن قلة التفهّم لدور المرأة في بيتها، فما لزوجك يطالب بأكثر مما له، كأن له حقوقا وليس لك مثلها...أليس أحرى.." قاطعتها أم هانئ بصوت هادئ حازم قائلة:"دعونا لا نشعل النار في الهشيم، ولا نكون عونا للشيطان على هؤلاء الأحباء، ولأنبه إلى خطأ كثيراً ما نقع فيه مما يُفسد على الناس حياتهم، وهو الخلط بين النصح والمجاملة، وأعني أننا إن نجامل أختا في محنتها لا يستلزم أن نهاجم زوجها أو من تخاصم، إنما التهدئة والتوجيه والنصح أولى من تلك المجاملة التي لن تفتأ أن تزيد الأمر اشتعالا والشقاق اتساعا، لننظر إلى الأمـر من كافة جوانبه، ثم لنخلص إلى ما فيه الصلاح مما يوافق شرع الله سبحانه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم .

فنحن الآن في مواجهة زوجين يدعي كل منهما أنه يقوم بواجباته تجاه الطرف الآخر ولا يحصل على حقوقه منه، هكذا بشكل عام، وبتعميم مُعمّـى‍. أقول لك يا سيدتي الفاضلة: أتدّعين القيام بكل الواجبات التي عليكِ تجاه بيتك ورجلك لا تنقصين منها شيئا؟ ثم أتدّعين أن زوجك ينكر عليك كل حقوقك قاطبة، لا يعطيك منها شيئا؟ ألا لا أظن الأمر كذلك، فهو ضد طبائع الأشياء أن تكون الأمور هكذا على إطلاقها، ليس فيها إلا الشر، إنما هو الغضب والشيطان يزينان لنا أن الأمر سيئ على إطلاقه، فلننتبه لهذا. فكلمات الحق والواجب كلمات عامة حمّـالة أوجه، فما ترينه حقا يراه غيرك فضلا وما ترينه واجبا يراه غيرك نافلة..وهكذا..وحين نتحدّث عن الحياة الزوجية، هنالك يشتد الأمر التباسا وتداخلا، فالحدود بين الحق والواجب تشتبه عند كِلا الطرفين، وانظرن، أخواتي المسلمات، إلى كلمة "الزوجيّـة"، فهي عكس "الفردية" وهي لذلك تحمل معنى الاشتراك والتعددية أصالة، فإن جردناها من فحواها وفتتناها إلى أجزائها، وذهبنا ننظر إلى كل جزء على حدة، نقص قدرها وقلّت قيمتها، فالكل هنا يحمل قيمة أكبر من أجزائه مجتمعة، والحياة "الزوجيـة" تقوم على مفهوم الشراكة بين اثنين، إلاّ إنها شراكة في الحياة بكافة أبعادها لا في ناحية مالية أو عملية منفردة، وهي، من ثم، تقوم على مبدأ التكامل الذي يحمي الكيان كلّه من الانتقاص والخسران.

ومما لا شك فيه أن الشريعة قد رسمت حدودا عامة لحقوق وواجبات طرفي العلاقة؛ ثم تركت تفاصيل الحياة اليومية لبداهة العقل وحكم الفطرة، روى قيس بن سعد عن رسول الله الله عليه وسلم قال:"لو كنت آمرا أحداً أن يسجد لأحدٍ لأمرت النساء أن يسجدن لأزواجهن لما جعل الله لهم عليهن من الحق" رواه أبو داود في النكاح واللفظ له، والترمذيّ في الرضاع، ابن ماجة في النكاح، وأحمد في المسند، والدارميّ في الصلاة، وهو حديث عام شامل قصد إلى إرساء حق القيادة العام في المنزل، فإن حق القيادة العام لا يصلح أن يتنازعه اثنان، والكلمة الأخيرة يجب أن تقع مسئوليتها على عاتق فرد واحد، ولا يعني هذا مطلقاً أن يستبد الرجل برأيه، وألاّ يكون للمرأة حقها في التعبير عن رأيها وإبداء ما تراه صالحا لها ولعشيرها، ولكن الأمر هنا هو أمر الحق النهائي الثابت في إصدار الكلمة الأخيرة، وقد جعله الله سبحانه في يد الرجل كما جعل عقدة النكاح في يده، لذات الأسباب التي تحدثنا عنها من قبل. وهذا أمر لا عيب فيه ولا منقصة للمرأة، فالسفينة لا تقلع بربّانين، والجيش لا ينتصر بقائدين، ولكنّ الحياة كذلك لا تصلح إن كان الرجل صورة ديكتاتور في منزله، فسلطة الكلمة النهائية لا تعني عدم الاستماع إلى رأي زوجه بل وإمضائه إن كان خيرا لهما جميعا، والقصد هنا هو إصابة الخير لا إنفاذ الرأيّ، ولا غضاضة على من رأي الخير في رأي الغير فأمضاه.

ثم إن الشريعة قد أرست قواعد عامة للرجل يتبعها في رسم منهج تعامله مع أهله، عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله الله عليه وسلم: "الدنيا متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة" مسلم في الرضاع، النسائي في النكاح، وقال الله عليه وسلم :"استوصوا بالنساء خيرا" البخاري في النكاح، ثم ما رواه سليمان بن عمرو بن الأحوص عن أبيه أن رسول الله الله عليه وسلم خطب في حجة الوداع فقال:"ألا إن لكم على نسائكم حقا ولهن عليكم حقاً، فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون ولا يأذنّ في بيوتكم لمن تكرهون، ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن"، وهذه المجموعة من الأحاديث ترسم معالم حقوق المرأة، ثم يأتي دور الفضل من الرجل والتفهم من المرأة. وسنتحدّث عن هذه الأحاديث الشريفة تباعا، وإنما أريد أن أغادر اليوم مبكرة لأن لي غرض أود أن أقضيه قبل حلول الظلام"، وانفض السامر على وعد اللقاء.

د. طارق عبد الحليم